الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الأول: في الجناية على الجنين وما يتعلق بها:
التمهيد: في العزل عن النساء:
قبل أن أتحدث عن الجنين وما يتعلق به من أحكام أود أن أتحدث عن حكم العزل عن النساء في هذا التمهيد، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
اختلف الفقهاء في حكم العزل عن النساء على مذهبين:
1 -
فذهب جمهور الفقهاء ومنهم: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز العزل عن المرأة في الجملة، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في هل يكون ذلك بإذنها أم يجوز بغير إذنها؟
أ- فعند الحنفية والمالكية وبعض الشافعية لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الأمة إلا بإذن سيدها.
ب- وعند الشافعية في الأصح أنه يجوز العزل مطلقا عن الحرة والأمة ولا يشترط إذنهما.
ج- وعند الحنابلة روايتان في الأمة: الأولى: أنه يعزل بإذنها، والأخرى: أنه يعزل بغير إذنها، وفي الحرة أنه يعزل بإذنها.
2 -
وذهب الظاهرية إلى أنه يحرم العزل عن النساء (1).
الأدلة: استدل القائلون بجواز العزل في الجملة بما يأتي:
1 -
ما رواه مسلم بسنده إلى «أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبايا فكنا نعزل، ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لنا: "وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة (2)» .
2 -
ما رواه مسلم بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال صلى الله عليه وسلم:" أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد
(1) المحلى لابن حزم الظاهري 10/ 71.
(2)
صحيح مسلم 3/ 613، طبعة عيسى البابي الحلبي.
أخبرتك سيأتيها ما قدر لها (1)».
3 -
ما رواه البخاري بسنده إلى «جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل (2)» . وفي رواية مسلم «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا (3)» .
4 -
ما روي «عن عمر رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (4)» .
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر على المدعي.
واستدل القائلون بعدم جواز العزل بما يأتي:
1 -
ما رواه مسلم بسنده «عن جدامة بنت وهب (6)، فنظرت في الروم والفرس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 13.
(2)
صحيح البخاري النكاح (5209)، صحيح مسلم النكاح (1440)، سنن الترمذي النكاح (1137)، سنن ابن ماجه النكاح (1927)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 309).
(3)
صحيح البخاري بحاشية السندي 3/ 187، صحيح مسلم 3/ 616.
(4)
منتقى الأخبار ج 6/ 254، وقال الشيخ: رواه أحمد وابن ماجه وليس إسناده بذلك.
(5)
صحيح مسلم 2/ 167 رقم 140
(6)
(5) الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة الغيلة: هي إرضاع المرأة ولدها وهي حامل. انظر: المصباح المنير 175، طبعة لبنان.
شيئا"، ثم سألوه عن العزل فقال صلى الله عليه وسلم:
"ذلك الوأد الخفي».
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه العزل بالوأد الخفي بجامع أن كلا قتل، فدل ذلك على اشتراكهما في الحكم وهو الحرمة، وإلا لما كان للتشبيه فائدة، وقد قال الإمام القرطبي بعد تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1). .
وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود والنسل، والعزل منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، فإذا كان هذا في العزل والجنين لم يتكون بعد فكيف بالإجهاض بعد أن تكون؟ (2).
ويناقش هذا الأمر من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث منسوخ فلا يؤخذ منه حكم (3) وأجيب عن هذا: بأن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة تاريخ من الحديثين، وهذا متعذر كما أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7/ 32
(3)
نيل الأوطار للإمام الشوكاني 6/ 223
تعذر الجمع بين الحديثين، والجمع بين الحديثين ممكن.
الوجه الثاني: أنه يحتمل أن يكون حديث جدامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما يقولونه، فقد روى الترمذي بسنده إلى «جابر رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله إنا كنا نعزل فزعمت اليهود إنها الموءودة الصغرى، فقال صلى الله عليه وسلم: " كذبت اليهود إن الله إذا أراد أن يخلقه فلم يمنعه (1)».
وهذا الحديث أقوى من حديث جدامة لأنه أكثر منه طرقا (2). وأن الزيادة في آخره وهي: "ذلك الوأد الخفي" تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ولم يذكرها أهل السنن الأربعة. وقد جمع ابن القيم رضي الله عنه بين الحديث، وحديث:" كذبت اليهود " فقال: الذي كذبت فيه اليهود النبي صلى الله عليه وسلم هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن، لذلك لم يسمه وأدا حقيقة وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جدامة.
الرأي المختار:
وبعد فإنني أرى أن العزل جائز ولكن مع الكراهة حتى ولو
(1) سنن الترمذي، 3/ 443، كتاب النكاح.
(2)
سبل السلام للصنعاني 3/ 136