الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن الخلافَ في المصلحةِ المعارضةِ بالمفسدة، هل هي منخرمةٌ زائلةٌ من أصلها، أو هي باقية معارضة بغيرها -وهو اختيارُ المؤلف-؟ فعلى أنَّ المصلحةَ باقيةٌ فعدمُ الحكم لوجودِ المانعِ، وعلى أنها زائلةٌ فعدمُ الحكمِ لعدم المقتضي.
ومن أمثلته: فداءُ أسارى المسلمين بالسلاح إذا كان يؤدي إلى قدرة الكفارِ بذلك السلاحِ على قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل في
قياسِ الشَّبه
واختلف في تفسيره وفي أنَّه حجةٌ. . .) الخ.
اعلمْ -أولًا- أنَّ هذا المسلكَ من مسالكِ العلةِ هو أصعبها وأدقُّها فهمًا، كما صرَّح به الأصوليون، وحدُّوه بحدودٍ مختلفةٍ غالبها يرجعُ إلى أنَّ الوصفَ في قياسِ الشبهِ مرتبةٌ بين الطرديِّ والمناسب، فمِنْ حيثُ إنَّه لم تتحققْ فيه المناسبةُ أشبه الطرديَّ، ومِنْ حيثُ إنَّه لم يتحققْ فيه انتفاؤها أشبهَ المناسبَ، ولهذا سمي شبهًا.
فإذا عرفت ذلك، فاعلمْ أنَّ المؤلفَ ذكر في حدِّه قولين:
(1)
(3/ 868).
الأول: قولُ القاضي يعقوب: أنَّ الشبه هو أنْ يتردد الفرعُ بين أصلينِ، فيلحقُ بأكثرهما شبهًا، كالاختلاف في العبدِ هل يملكُ؟ وهل إذا قتل تلزمُ فيه القيمةُ أو الديةُ؟ فإنَّه يشبهُ المال من حيثُ إنَّه يباعُ ويوهبُ ويورثُ ونحو ذلك، ويشبهُ الحر من حيثُ إنَّه يثابُ ويُعاقبُ وينكحُ ويُطلق ونحو ذلك، فيلحقُ بأكثرهما شبهًا. والأكثرُ على أنَّ شَبهه بالمالِ أكثرُ، فتلزمُ فيه القيمةُ إذا قُتل. وقيل بالعكس.
وهذا النوعُ هو المعروفُ بغلبةِ الأشباه.
وأجمع جمهور الأصوليين على أنَّ غلبةَ الأشباهِ لا يخرجُ عن الشبه؛ لأنَّه إمَّا أنْ يكون هو بعينه، وإمَّا أنْ يكون نوعًا منه، خلافًا لما زعمه العضدُ مِنْ أنَّه ليس نوعًا من المسلكِ المسمى بالشبه، وأنَّ حاصلَه تعارضُ مناسبين بالذات، رُجِّح أحدهما، فهو من مسلك المناسبِ بالذات، وأنَّ الشبه لفظٌ مشتركٌ يطلقُ على كلٍّ منهما.
وغلبةُ الأشباهِ من أقوى قياساتِ الشبه.
وأقوى أنواعه الشبهُ في الحكمِ والصفةِ معًا، ثم الشبهُ في الحكمِ فقط، ثم الشبهُ في الصفةِ فقط.
ومثالُ الشبه في الصفةِ والحكمِ معًا: شبهُ العبدِ بالمالِ في أنْ يورثَ ويباعَ ويشترى، ونحو ذلك، وهذا شبهٌ في الحكمِ، وشبهه للمال في الصفةِ هو كونُ العبيدِ تتفاوتُ قيمةُ أفرادهم بحسب تفاوتِ أوصافهم جودةً ورداءةً.
والشبه في الصفة فقط: كشبه الأقوات بالبُرِّ والشعير في الربا.
والشبه في الحكم فقط، مثاله: تشبيه الخلوة بالدخول في ترتُّبِ المهر في كلٍّ منهما.
الثاني: أنَّ الشبه هو الجمعُ بين الأصل والفرع بوصفٍ يوهم اشتماله على حكمةِ الحكمِ من جلبِ مصلحةٍ أو دفعِ مفسدة.
وذلك أنَّ الأوصافَ ثلاثةُ أقسام:
الأول: قسمٌ يُعْلَمُ اشتمالُه على المناسبة، كالإسكار، وقياسُه هو قياسُ العلة.
الثاني: قسم لا تتوهمُ فيه مناسبةٌ، كالطول والقصر، وهو الطرديُّ، والقياسُ به باطلٌ.
الثالث: قسمٌ بين القسمينِ الأولين، وهو ما يُتوهمُ اشتمالُه على مصلحةِ الحكمِ، ويُظَنُّ أنَّه مظنتها، مِنْ غيرِ اطلاع على عينِ المصلحة، مع عهدِنا اعتبارَ الشارع له في بعضِ الأحكام، كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخفِّ في نفي التكرارِ بجامع كونه مسحًا، والجمعِ بينه وبينَ الأعضاء المغسولةِ في التكرارِ بكونه عضوًا من أعضاء الوضوءِ، كالوجه.
وهذا هو قياسُ الشبه، وهو مختلفٌ فيه، واختلفت فيه الروايةُ بالصحةِ وعدمها عن الإمام أحمد، وأكثرُ الأصوليين على قبوله، لأنَّه يثيرُ ظنًّا بثبوتِ الحكم.
قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-:
الذي يظهرُ لي في كلام المؤلفِ رحمه الله في هذا المسلكِ أنَّه لا يخلو مِنْ بعضِ نظرٍ، واللَّه تعالى أعلم، وذلك لأنَّ مثاله للقول الثاني من القولينِ اللذَين ذكرهما في تفسيرِ الشبهِ هو بعينه مثالُ الأول، لأنَّ قضيةَ تكرار مسح الرأس في الوضوء راجعةٌ إلى غلبةِ الأشباهِ، لأنَّ تكرار مسح الرأس في الوضوء دائرٌ بين أصلينِ فيلحقُ بأكثرهما شبهًا:
أحدهما: أنَّه مسحٌ، فلا يتكررُ كغيره من المسح، كمسح الوجهِ واليدينِ في التيممِ، ومسحِ الخفِّ في الوضوء.
ثانيهما: أنَّه ركن من أركان الوضوء الأربعة المذكورةِ في الآية، فيكررُ كما يكررُ غسلُ الوجهِ واليدين.
فمَنْ قال بعدم تكرار مَسْحِه قال: إنَّه أكثرُ شبهًا بالأول، ومَنْ قال بتكراره قال: إنَّه أكثرُ شبهًا بالثاني.
والقولُ الأخيرُ في تفسيرِ الشبهِ مثَّلَ له صاحبُ "المستصفى" بأمثلةٍ متعددة، منها: قول الشافعيِّ رحمه الله في مسألة اشتراطِ النيةِ في طهارةِ الحدث: طهارةٌ موجَبها
(1)
في غير محلِّ موجِبها، فتفتقرُ إلى النية قياسًا على التيمم. وهذا يوهمُ الاجتماعَ في مناسبٍ هو مأخذُ
(1)
بفتح الجيم، وهو غسل أعضاء الوضوء في غير محل موجِبها بكسر الجيم، وهو الناقض للوضوء كالريح مثلًا، فإنه موجب لغسل أعضاء غير محل الناقض، بخلاف الطهارة من النجس، فإنها تستوجب غسل المحل الذي فيه النجاسة، فيطهر بإزالتها عنه بدون نية. "عطية"
النيةِ، وإن لم يطَّلعْ على ذلك المناسب.
ومنها: تشبيهُ الأرز والزبيب بالتمرِ والبرِّ لكونهما مطعومينِ أو قوتين، فإنَّ ذلك إذا قوبل بالتشبيهِ بكونهما مقدَّرين أو مكيلين ظهر الفرقُ، إذ يعلمُ أنَّ الربا ثبتَ لسرٍّ ومصلحةٍ، والطعمُ والقوتُ وصفٌ ينبئ عن معنًى به قوامُ النفسِ، والأغلبُ على الظنِّ أنَّ تلك المصلحةَ في ضمنهما لا في ضمن الكيلِ الذي هو عبار عن تقديرِ الأجسام.
إلى غير ذلك مِنْ أمثلته لهذا النوعِ المذكور.
وقد أوضح مسلك الشبه جماعةٌ من أهل الأصول بأنَّه هو ما كان الوصفُ الجامعُ فيه مستلزمٌ للوصفِ المناسب.
وإيضاحُه: أنَّ نفس الوصفِ الجامع ليس مناسبًا بالذاتِ، ولكنَّه مناسبٌ بالتبعِ، أي مستلزمٌ للوصفِ المناسب، وقد شهدَ الشرعُ بتأثير الجنس القريب لذلك الوصف في الجنس القريبِ لذلك الحكم.
ومثَّلوا لذلك بأمثلة:
ومنها: قولهم في الخلِّ: مائعٌ لا تبنى القنطرةُ على جنسه، فلا تحصلُ به الطهارةُ، قياسًا على الدهن.
فقولهم: لا تبنى القنطرةُ على جنسه، ليس مناسبًا في ذاته، لكنَّه مستلزمٌ للمناسب؛ لأنَّ العادةَ أنَّ القنطرةَ لا تبنى على الأشياءِ القليلةِ بل على الكثيرةِ كالأنهار، فالقلةُ مناسبة لعدمِ مشروعيةِ المتصفِ بها من المائعاتِ للطهارة العامة؛ لأنَّ الشرعَ العامَّ يقتضي أن تكون أسبابُه عامَّة الوجود، أمَّا تكليفُ جميع الناسِ بما لا يجدُه إلّا بعضهم فبعيدٌ عن
قواعد الشرع.
فقولهم: لا تبنى القنطرةُ على جنسه، ليس بمناسب، وهو مستلزمٌ للمناسب، وقد شهدَ الشرعُ بتأثيرِ جنس القلةِ والتعذرِ في عدمِ مشروعيةِ الطهارة، بدليلِ أنَّ الماءَ إذا قلَّ واشتدتْ إليه الحاجةُ فإنَّه تتركُ الطهارةُ به، وينتقلُ إلى التيمم.
ومنها: تعليلهم لوجوب النية في التيمم بكونه طهارةً، فيُقاسُ عليه الوضوءُ بجامع أنه طهارةٌ، فإنَّ الطهارةَ مِنْ حيثُ هي لا تناسبُ اشتراط النيةِ لعدمِ اشتَراطها في طهارةِ الخبثِ، ولكن تناسبُه مِنْ حيثُ إنَّها عبادةٌ وقربةٌ، والعبادةُ مناسبةٌ لاشتراطِ النيةِ لقوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة/ 5].
فإنْ قيل: إنْ كان المناسبُ لاشتراطِ النيةِ جهةَ العبادةِ لزمَ اشتراطُها في الطهارةِ من النجاسةِ، لتحقق تلك الجهةِ فيها، إذْ لا تكونُ إلا واجبةً أو مندوبةً، والواجبُ والمندوبُ كلاهما عبادةٌ، مع أنَّ عدمَ اشتراطها فيها مجمعٌ عليه.
فجوابُ المخالفين هو أنَّ الطهارةَ من النجاسةِ مِنْ حيثُ هي لم توضع لمحضِ التعبدِ، فقد تكونُ غيرَ واجبةٍ ولا مندوبةٍ، كإزالتك لها عن أرضك دفعًا للاستقذارِ، بخلافِ الوضوءِ -مثلًا- فإنَّه لا يقعُ إلَّا عبادةً، ولا ينافي ذلك غسلُ الأعضاءِ لمجردِ التنظيفِ، لأنَّ غسلها على الوجه والترتيب الخاصَّيْنِ لا يكونُ إلا للتعبد.
تنبيه:
اعلمْ أنَّ من الفوارقِ التي ذكرها بعضُ أهل الأصولِ بين الشبه والمناسبِ أنَّ صلاحيةَ الشبهِ لما يترتبُ عليه من الأحكامِ لا يدركها العقلُ لو قُدِّرَ عدمُ ورود الشرع.
قالوا: فاشتراطُ النيةِ في الوضوءِ لو لم يرد الشرعُ باشتراطها في التيممِ لما أدرك العقلُ اعتبارها فيه، بخلافِ المناسب فإنَّ صلاحيتَه لما يترتبُ عليه من الأحكامِ قد يدركها العقلُ قبل ورود الشرع.
ولذلك حرَّم بعضُ رجال العرب الخمرَ على نفسه قبلَ ورود الشرعِ بتحريمها؛ لأنَّ عقله أدركَ قبحَ زوالِ، العقلِ، وما يلزمُ عليه من القبائح، حرَّمها على نفسه للموجب المذكورِ قيسُ بن عاصمٍ المنقريُّ التميميُّ، كما ذكره عنه بعضُ المؤرخين، وذكره ابنُ عبد البر في "الاستيعاب"، وفي ذلك يقول:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها
…
خصالٌ تفسدُ الرَّجل الحليما
فلا واللَّهِ أشربها صحيحًا
…
ولا أشفي بها أبدًا سقيما
ولا أعطي بها ثمنًا حياتي
…
ولا أدعو لها أبدًا نديما
لأنَّ الخمر تفضحُ شاربيها
…
وتجنيهم بها الأمر العظيما
فقوله: لأنَّ الخمرَ تفضحُ شاربيها. . . البيت، دليلٌ على أنَّه أدرك بعقله مناسبة الإسكارِ للتحريم، كما لا يخفى.