الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأنكر عليه إبدال لفظ النبي بلفظ الرسول، وهذا يدلُّ على منع نقل الحديث بالمعنى.
قلنا: قد أُجيب عن هذا بأجوبة متعددة، والذي يظهر لي -واللَّه تعالى أعلم- أن وجه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على البراء إبدال النبي بالرسول أن لفظ الرسول لا يقوم مقام لفظ النبي في الحديث المذكور لتفاوت معنى الكلمتين، فإنَّك لو قلت "ورسولك الذي أرسلت" كان قولك "الذي أرسلت" لا حاجة له مع قولك "ورسولك" فهو تكرار ظاهر، وتأكيد لا حاجة إليه، بخلاف لفظ النبي، فإن النبي قد يكون غير مرسل، فصرَّح بأنه مرسل، فيكون قولُه "الذي أرسلت" تأسيسًا لا تأكيدًا، ومعلوم أن التأكيد لا يساوي التأسيس.
وقد تقرَّر في الأصول أنَّه إنْ دار اللفظ بين التأكيد والتأسيس فحملُه على التأسيس أرجح إلَّا لدليل، كما أوضحناه في كتابنا "أضواء البيان" في سورة النحل في الكلام على قوله:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل/ 97].
تنبيهات:
الأول: حكى قوم الإجماع على جواز
نقل الحديث بالمعنى في التَّرجمة
، أعني إبدال اللفظ العربي بلفظ أعجمي لإفهام أهل ذلك اللسان الأعجمي، وحكى قوم الإجماع -أيضًا- على إبدال لفظ بمرادفه، وأدخل ذلك في الخلاف قوم آخرون.
والفرقُ بين إبدال اللفظ بمرادفه وبين مسألة نقل الحديث بالمعنى،
أن إبدال اللفظ بمرادفه لابدَّ فيه من بقاء التركيب الأول على حالته من غير تقديم ولا تأخير، ولا إبدال فعل باسم -مثلًا- ولا عكسه، فلو فرضنا مثلًا أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد "أريقُوا على بوله سجلًا من ماء" فقال الراوي: أريقوا على بوله دلوًا ملأى، أو ذنوبًا من ماء، فهذا من إبدال لفظ بمرادفه، لأنَّه لم يغير فيه شيئًا من تركيب الكلام، وإنَّما أبدل السَّجْل بمرادفه، وهو الذَّنوب أو الدلو المليء، ولو قال -مثلًا-: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب دلوٍ ملأى من الماء على بول الأعرابي، فهذا من النقل بالمعنى، لأنه غيَّره من تركيب إلى تركيب آخر يساويه في المعنى.
وببيان الفرق بين المسألتين يظهر أن المؤلف أدخل إحداهما في الأخرى في قوله: (فيبدل لفظًا مكان لفظٍ).
التنبيه الثاني: اعلم أنَّ الخلاف في جواز نقل الحديث بالمعنى إنَّما هو في غير المتعبد بلفظه، أمَّا ما تُعبد بلفظه كالأذان والإقامة والتشهد والتكبير في الصلاة، ونحو ذلك، فلا يجوز نقله بالمعنى لأنَّه متعبد لفظه.
وقال بعض أهل العلم: وكذلك جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فلا يجوزُ نقلُها بالمعنى إذْ لا يقدر غيره على الإتيان بمثلها.
قال: ومثال ذلك قوله: "الخراجُ بالضمان"، "البينةُ على المدَّعي"، "العجماء جُبار"، "لا ضرر ولا ضرار"، "الآن حمي الوطيس"، ونحو ذلك.
التنبيه الثالث: اختلف أهلُ العلم في الاحتجاج بألفاظ الحديث على مسائل اللغة العربية، فقال قوم: لا يجوز ذلك؛ لأنَّ الغالب الرواية بالمعنى دون اللفظ، وكثير من الرواة الذين يروون بالمعنى لا يحتجُّ بهم في اللغة؛ لأنَّ أصلهم عجم أو عرب لا يحتجُّ بقولهم.
واستدلُّوا لهذا بكثرة اختلاف ألفاظ الرواة في الواقعة الواحدة، إذْ ليس كل تلك الألفاظ المختلفة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن قال بهذا القول الدَّمامينيُّ زاعمًا أن علماء عصره، كالبلقيني، وابن خلدون، وغيرهم، وافقوه في ذلك، كما ذكره العبَّادي في "الآيات البينات" عن شهاب الدين عميرة.
وذهب آخرون إلى جواز الاحتجاج بألفاظ الحديث على اللغة العربية بناءً على أن الأصل والغالب الروايةُ باللفظ.
قالوا: ولا حجة على خلاف ذلك باختلاف الألفاظ في الواقعة الواحدة؛ لجواز كونه صلى الله عليه وسلم حدث عن واقعة واحدةٍ في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة، فروى كلُّ راوٍ كما سمع.
وممَّن اشتهر بالاستدلال بلفظ الحديث على اللغة ابن مالك رحمه الله.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
الذي يظهر لي في هذه المسألة -واللَّه أعلم- هو التفصيل فيها، فما غلب على الظن أنَّه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، كبعض الأحاديث التي اتفق فيها جميع الرواة أو معظمهم على لفظ واحد، فإنَّه حجة في اللغة، وما
غلب على الظن أنَّه من لفظ الراوي بالمعنى، لا يحتج بقوله في العربية، فلا يحتج بلفظه، والعلم عند اللَّه تعالى.
وأشار صاحبُ "المراقي" إلى ما في هذه المسألة من الأقوال بقوله:
والنقلُ للحديث بالمعنى مُنع
…
ومالك عنه الجواز قد سُمع
لعارف يفهمُ معناه جزم
…
وغالبُ الظنِّ لدى البعض انحتم
والاستواء في الخفاء والجلا
…
لدى المجوِّزين حتمًا حصلا
وبعضُهم منع في القصارِ
…
دون التي تطول لاضطرار
وبالمرادفِ يجوزُ قطعًا
…
وبعضُهم يحكون فيه المنعا
وجوزت وفقًا بلفظ عجمي
…
ونحوه الإبدال للمترجمِ
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
مراسيلُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الجمهور، وشذَّ قومٌ فقالوا: لا يُقبل مرسل الصحابي إلَّا إذا عرف بصريح خبره أو عادته أنَّه لا يروي إلَّا عن صحابي، وإلَّا فلا، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبتُه. . .) الخ.
(1)
(2/ 425).
حاصل ما ذكره في هذا الفصل أن مراسيل الصحابة لها حكم الوصل، لأنَّ الصحابي لا يروي -غالبًا- إلَّا عن صحابي، ولأن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عبَّاس ونظرائه من صغار الصحابة، مع إكثارهم من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وكثير من روايتهم عنه مراسيل.
وشذَّ قوم فخالفوا في ذلك، إلَّا إذا عرف عن الصحابي أنَّه لا يروي غالبًا إلَّا عن صحابي.
هذا خلاصة ما ذكره في هذا الفصل.
وقبول مرسل الصحابي هو الصواب.
والذي يظهر لي أن الصحابي لو علم أن أكثر روايته عن التابعين كان مرسله كمرسل غيره، واللَّه تعالى أعلم.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
فأمَّا مرسلُ غير الصحابة، وهو أن يقول: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره، أو يقول: قال أَبو هريرة ولم يدركه، ففيها روايتان:
إحداهما: تقبل، اختارها القاضي، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعة من المتكلمين.
والأخرى: لا تقبل، وهو قولُ الشافعي، وبعضِ أهل الحديث،
(1)
(2/ 428 - 429).
وأهل الظاهر. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن في قبول الحديث المرسل روايتين عن الإمام أحمد، وأن مذهب مالك وأبي حنيفة ومَنْ ذكر معهم قبوله، ومذهب الشافعي ومن ذكر معه عدم قبوله.
وحجة من قال بقبوله هي: أنَّ العدل لا يحذفُ الواسطة مع الجزم بالخبر إلَّا وهو عالم أنَّ الواسطة التي حذف ثقة، فحذفُه لها مع الجزم بالخبر بمثابة قوله: أخبرني فلان وهو ثقة؛ لأنَّ إخباره عنه صلى الله عليه وسلم بالجزم مع عدم عدالة الناقل الذي لم يذكره ينافي عدالته، لما في ذلك من إحلال الحرام وتحريم الحلال، وإلزام الناس بالعبادات بأمر مشكوك فيه.
وحجة من قال بعدم قبوله: أنَّ الواسطة المحذوفة في المرسل لا تعرفُ عينُها، ومن لا تعرف عينه لم تعرف عدالتُه، وروايةُ مجهول العدالة مردودة كما تقدَّم، ولأنَّ شهادة الفرع لا تقبل على شهادة الأصل، فكذلك الرواية، وافتراق الشهادة والرواية في بعض الأحكام -كما تقدم- لا يستلزمُ افتراقهما في هذا المعنى، كما أنهما لا فرق بينهما في عدم قبول رواية المجروح والمجهول.
هذا هو خلاصة ما ذكره في هذا المبحث، وما أشار إليه هنا من الفوارق بين الشهادة والرواية تقدمت الإشارةُ إلى ما فيه كفاية منه.
تنبيهات:
الأول: اعلم أنَّ المرسل في اصطلاح أهل الأصول غيرُ المرسل
في الاصطلاح المشهور عند المحدثين.
فضابط المرسل في الاصطلاح الأصولي: هو ما عُرف أنَّه سقطت من سنده طبقة من طبقات السند، كما مثَّل له المؤلف في هذا الفصل.
فالمرسل في اصطلاح أهل الأصول يشملُ أنواع الانقطاع، فيدخلُ فيه المنقطع والمعضل، فمن قال من أهل الأصول بقبول المرسل، فإنه يقبلُ المنقطع والمعضل، كما بينَّا.
والمرسل في الاصطلاح المشهور عند المحدثين: هو قولُ التابعي مطلقًا، أو التابعي الكبير خاصة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وبعض أهل الحديث يُطلقُ الإرسال على كل انقطاع، كاصطلاح أهل الأصول.
التنبيه الثاني: اعلم أن من يحتجُّ بالمرسل يحتج بعنعة المدلسين من باب أولى، كما نبَّه عليه غير واحد.
التنبيه الثالث: اعلم أن في المرسل لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب:
الأول: أنَّه مردود؛ للجهل بالساقط فيه، وعلى هذا جماهيرُ أهل الحديث.
الثاني: أنَّه مقبول كما تقدَّم، وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأحمد، ولكنه يقدَّم عليه عند التعارض المسندُ؛ لأنَّه أرجح منه.
الثالث: قولُ جماعةٍ: إنَّ المرسل يرجخ على المسند عند التعارض؛ لأنَّ الراوي ما حذف الواسطة في المرسل إلَّا لأنَّه جازم
بعدالتها، بخلاف المسند، فقد يحيل فيه الناظر على تعديل الراوي.
ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول لأنَّ من كانت عدالتُه معروفة لا شك أنَّه أولى ممن لم تعرف عدالته ولا عينه إلَّا بحسن الظن بمن روى عنه أنَّه عالم بأنه عدلٌ وإلَّا لما جزم بالخبر.
التنبيه الرابع: اعلم أن قول المؤلف "فأمَّا مراسيل الصحابة" فيه بحث عربي وهو أن يقال: الياءُ في المراسيل من أين جاءت، والمفردُ مرسل، فالقياس مراسل، كمساجد، لعدم موجب للياء؟
وأظهر ما يقالُ في ذلك -عندي- أن إشباع الكسرة في بعض الكلمات أسلوب عربيُّ معروف، ومنه قولُ كعب بن زهير:
أمست سعادُ بأرض لا يبلغُها
…
إلَّا العتاق النجيبات المراسيل
وقول الآخر، وهو من أبيات كتاب سيبويه:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
…
نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
فالدراهيم بالياء جمع درهم، وأمَّا على زعم من قال: إنَّها جمعُ درهام لغةٌ في درهم، فلا شاهد في البيت.
وأشار في المراقي إلى تعريف المرسل ومذاهب العلماء فيه بقوله:
ومرسل قولةُ غير من صحب:
…
قال إمامُ الأعجمين والعرب
عند المحدثين قول التابعي
…
أو الكبير قال خير شافع
وهو حجة ولكن رجحا
…
عليه مسند وعكس صححا
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ويُقبل خبرُ الواحد فيما تعمُّ به البلوى، كرفع اليدين في الصلاة، ومسِّ الذكر، ونحوه، في قول الجمهور.
وقال أكثر الحنفية: لا يقبل، لأنَّ ما تعمُّ به البلوى، كخروج النجاسة من السبيلين، يوجد كثيرًا، وتنتقض به الطهارة، ولا يحلُّ للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يشيع حكمه، إذْ يؤدي إلى إخفاء الشريعة وإبطال صلاة الخلق، فتجبُ الإشاعة فيه، ثم تتوفر الدواير إلى نقله، وكيف يخفى حكمه وتقف روايته على الواحد. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أنَّ مذهب الجمهور هو قبول أخبار الآحاد فيما تعمُّ به البلوى، أي فيما يعمُّ التكليف به، وأن أكثر الحنفية خالف في ذلك قائلًا: إنَّ ما تعمُّ به البلوى تتوفر الدواعي إلى نقله، فلا يقبل إلَّا متواترًا، وأن الحق قبوله، بدليل أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى، كقبولهم خبر عائشة في وجوب الغسل من الجماع بدون إنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، ولأنَّ الراوي عدل جازم بالرواية، وصدقُه ممكن، فلا يجوز تكذيبه مع إمكان صدقه، وأنَّ ما تعمُّ به البلوى يثبت بالقياس، والخبر
(1)
(2/ 432).
أوْلى من القياس؛ لأنَّه أصل له، ومقدَّم عليه.
وما ذكره الحنفية في توجيه عدم قبوله يَبْطُلُ بالوتر، والقهقهة، وخروج النجاسة من غير السبيل، وتثنية الإقامة، فإنَّ كلَّ ذلك ممَّا تعمُّ به البلوى، وقد أثبتوه بخبر الواحد.
هذا خلاصة ما ذكره رحمه الله في هذا الفصل.
والمخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، مشتقة من الخَبار كسحاب، وهي الأرض الرخوة ذات الحجارة، أو الخبراء وهي القاع ينبت السدر.
وحديث رافع المذكور فيه النهي عن بعض أنواع المزارعة، كأن يشترط رب الأرض أن له ما نبت في بقعة معينة من الأرض، كالبقعة التي تلي مجرى السيل، لأنَّه قد ينبت الزرع فيها دون غيرها، كالعكس، وغير ذلك مما هو مذكور في حديثه، كاشتراط القصارة، وما يسقي الربيع، ونحو ذلك، والقصارة: ما بقي في السنبل من الحب بعد ما يداس.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
التحقيق هو قبولُ أخبار الآحاد فيما تعمُّ به البلوى، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يقبلون أخبار الآحاد فيما يعمُّ التكليف به كالصلاة والطهارة والصوم وغير ذلك، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد يبلغ الشاهد ويأمره بتبليغ الغائب.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ويقبلُ خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات، وحكي عن الكرخي أنَّه لا يقبل؛ لأنه مظنون، فيكون ذلك شبهة، فلا يقبل، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل: أن خبر الواحد يقبل فيما يسقط بالشبهة كالحدود، وأن الكرخي خالف في ذلك، زاعمًا أن خبر الواحد
إنَّما يفيد الظن، وعدمُ إفادته القطع شبهةٌ فيدرأ بها الحدُّ، للحديث المذكور.
وهذا باطل؛ لما قدَّمنا من أن أخبار الآحاد من جهة العمل بها قطعية، فتثبت بها الحدود كسائر الأحكام، ولأن الحدود تثبت بشهادة العدول، وهي أخبار آحاد، والمشهور جواز القياس في الحدود، كما عقده في المراقي بقوله:
والحدُّ والكفَّارة التقديرُ
…
جوازُه فيها هو المشهور
والضمير في "جوازه" راجع إلى القياس، وإذا جاز فيها القياس فخبرُ الواحد أولى منه كما تقدم.
وحديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات" الذي استدلَّ به المؤلف، كل طرقه ضعيفة، والمعروف أنَّه من قول عمر بمعناه لا بلفظه.
(1)
(2/ 434).
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ويُقبل خبر الواحد فيما يخالفُ القياس، وحكى عن مالك أنَّ القياس يقدم عليه، وقال أَبو حنيفة: إذا خالف الأصول أو معنى الأصول لم يُحْتَجَّ به. . .) الخ.
خلاصة مما ذكره في هذا الفصل: أنَّ خبر الواحد يقبل فيما يخالفُ القياس، وأنَّ مالكًا حكي عنه تقديم القياس على خبر الآحاد، وأن أبا حنيفة لا يقبل خبر الواحد إذا خالف الأصول أو معنى الأصول.
واستدل المؤلف لقبوله بحديث معاذ، فإنه قدَّم الكتاب والسنة على الاجتهاد وصوَّبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وبأنَّ الصحابة كانوا لا يستعملون القياس إلَّا عند عدم النص. ومن ذلك: رجوع عمر إلى حديث حمل بن مالك بن النابغة في غُرَّة الجنين. وكان يفاضل بين ديات الأصابع، ويقسمها على منافعها، فرجع عن ذلك لحديث:"في كل اصبع عشر من الإبل" وهو آحاد.
ولأنَّ الحديث من كلام المعصوم، والقياس استنباط، وكلام المعصوم أولى من الاستنباط لأنه أبلغ منه.
واحتج المؤلف على أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله بأنَّهم أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر، وأبطلوا الوضوء
(1)
(2/ 435).
بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها، وحكموا في القسامة بخلاف القياس، وهو مخالف للأصول.
هذا هو خلاصةُ ما ذكره في هذا الفصل.
وقوله في هذا الفصل: (وحُكي عن مالك أنَّ القياس يقدَّم عليه)، هذا الذي ذكر عن مالك بصيغة "حكي" هو المقررُ في أصولِ الفقه المالكي، وعقده في "المراقي" بقوله في أول كتاب القياس:
والحامل المطلق والمقيد
…
وهو قبل ما رواه الواحد
يعني أن القياس مقدَّم عند مالك على خبر الواحد، لكنَّ فروعَ مذهبه تقتضي خلاف هذا، وأنَّه يقدم خبر الواحد على القياس، كتقديمه خبر صاع التمر في المصراة على القياس الذي هو ردُّ مثل اللبن المحلوب من المصراة؛ لأنَّ القياس ضمان المثلي بمثله، وهذا هو الذي يدلُّ عليه استقراء مذهبه، مع أنَّ المقرر في أصوله أيضًا: أن كل قياس خالف نصًّا من كتاب أو سنة، فهو باطل بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول: فساد الاعتبار.
وعقده في "المراقي" بقوله في القوادح:
والخُلْفُ للنص أو اجماع دعا
…
فسادَ الاعتبارِ كلُّ من وعى
وهذا القول هو الحقُّ الذي لا شك فيه؛ لأنَّ القياس لا يجوز مع وجود النص من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-:
قدَّم مالك وغيره من العلماء الخبر على نوع القياس المسمى عند الشافعي بالقياس في معنى الأصل، وهو المعروف بتنقيح المناط، وهو مفهوم الموافقة، في صورة لا يكاد العقل السليم يستسيغ فيها تقديم الخبر على القياس المذكور، وقد بينَّا في كتابنا "أضواء البيان" في سورة بني إسرائيل أن ذلك لا يمكن فيما يظهر لنا، كما أنكره ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وذلك هو ما رواه مالك في "الموطأ" والبيهقي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنَّه قال لسعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلتُ. فكم في أصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. قلتُ: فكم في ثلاثة أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل. قلتُ: فكم في أربعة أصابع؟ قال: عشرون من الإبل. قلتُ: حين عَظُمَ جرحُها واشتدت مصيبتُها نقص عَقْلُها، قال سعيد: أعراقي أنت؟ ! قلتُ: بل عالم متثبِّتٌ أو جاهل متعلم. قال: هي السنَّة يا ابن أخي.
فكونُ عقل ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثين من الإبل، وعقل أربعة أصابع من أصابعها عشرين من الإبل، ينافي ما علم من حكمة الشرع الكريم، ووضعه الأمور في مواضعها، وإيقاعها في مواقعها، كما بيناه في كتابنا المذكور، وتكلمنا على سند الحديث المقتضي لذلك، وعلى المراد بالسنَّة في قول سعيد بن المسيب: هي السنة يا ابن أخي.
وبالجملة؛ فلزوم ثلاثين من الإبل في ثلاثة أصابع يقتضي بقياس
التنقيح الأحروي المعروف بالقياس في معنى الأصل أن أربعة أصابع لا يمكن أن تقل ديتها عن ذلك، لأنَّها مشتملة على الثلاثة وزيادة أصبع.
وحديث معاذ الذي استدلَّ به المؤلف ضعَّفه غير واحد، والمناقشة في تضعيفه وتصحيحه كثيرة معروفة، وممَّن انتصر لتضعيفه ابن حزم وغيره.
وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره، بعد أن ساق حديث معاذ المذكور بصيغة الجزم بقوله: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فبم تحكم. . . " إلى قوله: "الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" ما نصُّه: وهذا الحديثُ في المسند والسنن بإسناد جيِّد، كما هو مقرر في موضعه.
وقال ابن قدامة في "روضة الناظر"
(1)
في كتاب "القياس" بعد أنْ ساق حديث معاذ المذكور ما نصُّه: قالوا: هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. . . إلى أن قال: قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، ثم هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول، فلا يضرُّه كونه مرسلًا. اهـ.
وقد أوضحنا الكلام على وجه الاحتجاج بالحديث المذكور، وبطلان الطريق التي أشار لها عن عبادة بن نسي، في كتابنا "أضواء
(1)
(3/ 820).
البيان" في سورة الأنبياء وسورة بني إسرائيل.
وما استشهد به المؤلف رحمه الله من رجوع عمر إلى حديث حمل بن مالك في دية الجنين كان الأولى له أن يستدلَّ لذلك برجوع عمر في دية الجنين إلى قول المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة؛ لأنَّ رجوعه لحديثهما في ذلك متفق عليه.
تنبيه:
فإن قيل: ما الفرقُ بين مخالفة الأصولِ أو معنى الأصول؟
فالظاهر في الجواب: أنَّ مخالفة القياس أخصُّ من مخالفة الأصول؛ لأنَّ القياس أصل من الأصول، فكلُّ قياس أصل، وليس كلُّ أصل قياسًا، فما خالف القياس خالف أصلًا خاصًّا، وما خالف الأصول يصدقُ بما خالف قياسًا، أو نصًّا، أو إجماعًا، أو استصحابًا، أو غير ذلك.
فوجوب الوضوء بالنوم -مثلًا- موافق للقياس من حيث إنه تعليق حكم بمظنَّته، كسائر الأحكام المعلَّقة بمظانِّها، مع أنَّه مخالف لبعض الأصول، وهو استصحابُ العدمِ الأصلي في خروج الحدث حتى يُعْلَمَ أمرٌ ناقلٌ عن استصحاب العدم الأصلي في ذلك.
والمراد بمعنى الأصل في الاصطلاح: نفي الفارق، كما عقده في "المراقي" بقوله:
قياسُ معنى الأصل عنهم حَقِّقِ
…
لما دُعِي الجمعَ بنفي الفارق
ومن أمثلة ذلك ما قدمنا من كون ثلاثة أصابع من أصابع المرأة فيها ثلاثون من الإبل، وأربعة أصابع من أصابعها فيها عشرون؛ لأنَّ نفي الفارق المؤثر في نقص الأصابع المذكورة محقق يقينًا، وإنَّما الفارق بينهما فارق مستوجب للزيادة، لأنَّ الأربعة مشتملة على الثلاثة مع زيادة أصبعٍ كما ترى.