الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأولى: أن يعلم أن هذا الأمر أخبر به عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة.
الثانية: أن يعلم أن ما أخبر به عدد على تلك الصفة فهو حقٌّ يقينًا.
فينتج من ذلك أن هذا الخبر يقين.
وأكثر أهل الأصول على الأول.
قال المؤلف
(1)
:
(فصل
ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعةٍ يفيدُه في كل واقعة، وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع. . .) الخ.
خلاصة ما ذكر في هذا الفصل أن القدر الموجب للعلم اليقيني لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، بل
ما حصل به العلم في واقعة يحصل به في غيرها
، وما حصل به لشخص يحصل به لغيره من غير تفاوت.
وقيل: لا مانع من تفاوته باعتبار الأشخاص والوقائع، ومحلُّ هذا في الخبر المتجرد عن القرائن، أما إن احتفت به قرائن فلا
(1)
(1/ 353).
شكَّ أنَّ حصول اليقين به يتفاوت، لأن القرائن الخفية يفهمها الذكي، وتخفى على الغبي، فتقوم القرائن للذكي مقام عدد من المخبرين، وكذلك القرائن الظاهرة إن علم بها بعض المخبرين دون بعض، كما لو تواتر الخبر لجماعة أن فلانًا مات وفلانًا تزوج، وأحدهم قد رأى قبل ذلك الذي أخبروا بموته في النزع، والذي أخبروا بتزويجه في السوق يشتري ما يحتاج إليه المتزوج، فإنَّ العالم بمثل هذه القرائن يحصل له اليقين قبل حصوله لغير العالم بها، لأنَّ القرائن قد تفيد العلم منفردة عن الأخبار، فإنَّا نعلم محبة شخص لآخر، وخوف شخص من آخر بما نرى من القرائن الدالة على ذلك، ونحو ذلك كثير. فإذا انضمَّت القرائن إلى الأخبار قامت مقام بعض المخبرين في إفادة العلم.
قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(وللتواتر ثلاثة شروط. . .). الخ.
اعلم أن التواتر في اللغة: هو مجئ الواحد بعد الواحد بفترة بينهما. ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون/ 44] لأنَّ التاء الأولى مبدلة من واوٍ كتاء تقوى.
وقيل التواتر: التتابع مطلقًا، ومنه قولُ لبيد في معلقته:
يعلو طريقة متنها متواتر
…
في ليلة كفر النجومَ غمامُها
(1)
(1/ 356).
والتواترُ في الاصطلاح: هو إخبارُ جماعةٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة عن أمر محسوس.
وخلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أن التواتر المفيد للعلم اليقيني تشترط فيه ثلاثةُ شروط:
الأول: أن يكون إخبارهم عن أمر محسوس، أي مدرك بإحدى الحواس، كقولهم: رأينا وسمعنا، لأنَّ تواطؤ الجم الغفير على الخطأ في المعقولات لا يستحيلُ عادة، فترى الآلاف من العقلاء يتواطؤون على قدم العالم، وعلى كذب الأنبياء، مع أن تواطؤهم باطل، لأنه ليس في إخبار عن محسوس، أمَّا تواطؤهم على الكذب في الإخبار عن محسوس فهو مستحيل عادةً مع كثرتهم وعدم الدواعي إلى التواطؤ.
الشرط الثاني: أن يكون العددُ بالغًا حدًا يستحيلُ معه التواطؤ على الكذب عادةً.
الثالث: أن يكون العدد المذكور في كل طبقة من طبقات السند من أوله إلى آخره.
واختلف أهل الأصول في تحديد العدد الذي يحصلُ بخبرهم اليقين. والمذهب الصحيح المعتمدُ أنَّه ليس له حد معين، بل ما حصل به العلمُ اليقيني فهو العدد الكافي، كالخبز نقطع بأنَّه يشبع، والماء نقطع بأنه يُروي، مع عدم تحديد الحدِّ الذي يقع به الشبعُ والري منهما.
وقيل: أقلُّه اثنان. وقيل: أقلُّه أربعة. وقيل: خمسة. وقيل: عشرون. وقيل: ثلاثون. وقيل: سبعون.
والصحيح الأول. وبطلان القول بالأربعة فما دونها واضح؛ لوجوب تزكية الأربعة في شهادتهم على الزنا، ومعلوم أنَّ عدد التواتر لا تشترط فيه العدالة، بل ولا الإسلام.
ومثال المتواتر: حديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وأشار في "مراقي السعود" إلى هذه المسألة بقوله:
واقطع بصدق خبر التواتر
…
وسوِّ بين مسلم وكافر
واللفظ والمعنى وذاك خبر
…
من عادة كذبهم منحظر
عن غير معقول وأوجب العدد
…
من غير تحديد على ما يعتمد
وقيل بالعشرين أو بأكثرا
…
أو بثلاثين أو اثني عشرا
إلغاء الأربعة فيه راجحُ
…
وما عليها زاد فهو صالح
وأوجبن في طبقات السند
…
تواترًا وفقًا لدى التعدد
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ليس من شروط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولًا. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن التواتر لا يُشترط في المخبرين به إسلام ولا عدالة؛ لأنَّ القطع بصدق خبرهم من حيث إن اجتماعهم وتواطأهم على الكذب مستحيلٌ عادة لكثرتهم، والعادة تحيل ذلك في الكفار والمسلمين، وليس صدق خبرهم من حيث إن المخبرين به عدولٌ مسلمون، وأنهم لا يُشترط فيهم ألا يحصرهم بلد، بل يحصل القطعُ بخبرهم وإن حصرهم بلد أو مسجد، كالحجيج إذا أخبروا بواقعة صدَّتهم عن الحج، وأهل الجمعة إذا أخبروا عن حادثة منعتهم من صلاة الجمعة، عُلِم صدقهم في الأمرين مع حصرهم في محل أو مسجد.
قال المؤلف
(2)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ولا يجوز على أهل التواتر كتمانُ ما يحتاجُ إلى نقله ومعرفته، وأنكر ذلك الإمامية. .) الخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن أهل التواتر لا يجوز عليهم
(1)
(1/ 360).
(2)
(1/ 361).
كتمان ما يحتاج إلى نقله؛ لأنَّ كتمانه يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو عليه، فلم يجزْ وقوعُ ذلك منهم، وتواطؤهم عليه، فإن قال رجل من أهل الجمعة: إن الخطيب ضربه رجل بالسيف فقتله وهو يخطب على المنبر، ولم يذكر هذا باقي أهل الجمعة، جزمنا بأن ذلك الرجل كاذب، لأنَّ توطأهم على كتمان مثل هذا الأمر مستحيل عادة، ومن هنا قالوا: ما نُقل آحادًا مع توفر الدواعي إلى نقله تواترًا حكم ببطلانه.
فإن قيل: لم ينقل النصارى كلام عيسى في المهد نقلًا متواترًا مع أنه حقٌّ واقع؟
فالجواب: أن كلامه في المهد وقع قبل ظهوره واتباعهم له.
وخالف في هذه المسألة الإمامية قائلين: إن أهل التواتر قد يكتمون، ورتَّبوا على ذلك أنَّ جميع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع كثرتهم كتموا كلُّهم النصوص المصرحة بإمامة علي رضي الله عنه، وقالوا: والوقوع دليل على الجواز
(1)
.
حاشا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ممَّا يفتريه عليهم الإمامية من المختلقات.
(1)
قولهم: "والوقوع دليل على الجواز" يعنون به ما زعموه من كتمان الصحابة رضي الله عنهم نصوص إمامة علي رضي الله عنه، وليس هناك وقوع كتمان آخر. وهذا الاستدلال باطل؛ لأنه استدلال بصورة الخلاف، والممانع يقول لهم: لم توجد النصوص التي زعمتم، ولو وجدت لنقلت؛ لأن أهل التواتر لا يتواطؤون على الكتمان. "عطية".