الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الاستثناء
صيغُ الاستثناء هي المعروفة في النحو، وأمُّ البابِ "إلا".
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(وحدُّه: أنَّه قولٌ ذو صيغةٍ متصل يدلُّ على أنَّ المذكور معه غيرُ مرادٍ بالقول الأول).
وذكر المؤلف أن الاستثناء يفارق التخصيص في شيئين:
الأول: أنَّ اتصاله لازمٌ بخلاف التخصيص.
الثاني: أنه يتطرق إلى النصِّ الذي لا يحتملُ إلا معنى واحدًا، نحو: عشرة إلا ثلاثة، بخلاف التخصيص فهو من العمومات، وهي ظواهر.
قلتُ: وقد قدَّمنا أنَّ غير المؤلف يعدُّ الاستثناء من المخصصات المتصلة.
قال المؤلف
(2)
:
(ويفارقُ النسخَ -أيضًا- في ثلاثة أشياء:
أحدها: في اتصاله.
(1)
(2/ 743).
(2)
(2/ 744).
والثاني: أنَّ النسخَ رافعٌ لما دخل تحت اللفظ، والاستثناء يمنعُ أنْ يدخل تحت اللفظ ما لولاه لدخل.
الثالث: أنَّ النسخ يرفعُ جميع حكم النصِّ، والاستثناء إنما يجوزُ في البعض).
قلتُ: وقد يجوز النسخُ في البعض، كحديث عائشة الثابت في مسلم من نسخ عشر رضعاتٍ بخمسٍ معلوماتٍ.
واشترط المؤلفُ ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون متصلًا بالمستثنى منه.
الثاني: أن يكون من جنس المستثنى منه.
الثالث: أن يكون المستثنى أقل من النصف.
وقال: في استثناء النصف وجهان.
وحكى المؤلفُ جوازَ تأخيرِ الاستثناء عن ابن عباس. وحكى عن طاووسٍ والحسن جوازه في المجلس. قال
(1)
: (وأومأ إليه أحمد رحمه الله في الاستثناء في اليمين، والأولى ما ذكرناه).
قلتُ: التحقيق أنَّ الاستثناء لا بدَّ أنْ يكون متصلًا بالمستثنى منه، ويدلُّ له قوله تعالى في قصة أيوب:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص/ 44]؛ إذْ لو كان تدارك الاستثناء ممكنًا لقال: قل إن شاء
(1)
(2/ 747).
اللَّه.
والظاهرُ فيما روي عن ابن عباس أنَّ مراده به الخروج من عهدةِ النهي في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية [الكهف/ 23]، وليس مراده أنْ تُحَلَّ به الأيمانُ وغيرها مع تأخيره عنها.
وأمَّا اشتراط كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فاسْتُدِلَّ له بأنَّ الاستثناء أخرج بعض ما دخل في المستثنى منه، وغير جنسه لم يدخل حتى يخرج.
وأكثر الأصوليين على جواز الاستثناء المنقطع، واستدلوا له بكثرةِ وروده في القرآن وفي كلام العرب، كقوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم/ 62]، وقوله:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة/ 25، 26]، وقوله تعالى:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل/ 19، 20]، وقوله:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء/ 29].
وقال النابغة الذبياني:
وقفتُ فيها أُصَيْلالًا أُسائلُها
…
عيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
إلا الأواريَّ لأيًا ما أُبيِّنُها
…
والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقال الراجز:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ
…
إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ
وينبني على الخلاف في هذه المسألة ما لو قال: له عليَّ ألف درهم إلا ثوبًا، فعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع تسقط قيمة الثوب بتقدير مضافٍ، أو على المجاز عندهم من إطلاق الثوب وإرادة قيمته.
وفرَّق بعضهم بين الإقرار فأسقط فيه قيمة الثوب، وبين العقد فجعل "إلا" فيه بمعنى الواو، وهو مقتضى كلام مالك في "المدونة".
وأشار في "المراقي" إلى هذه المسألة مع تعريف الاستثناء المتصل والمنقطع بقوله:
والحكم بالنقيض للحكم حصل
…
لما عليه الحكمُ قبل متصل
وغيرُه منقطعٌ ورجِّحا
…
جوازُه فهو مجازًا وَضَحَا
فَلْتَنْمِ ثوبًا بعد ألف درهم
…
للحذف والمجاز أو للندمِ
وقيل: بالحذف لدى الإقرارِ
…
والعقد معنى الواوِ فيه جار
وأمَّا اشتراطُ كون المستثنى أقلَّ من النصف فقد استُدِلَّ له بأنَّ استثناءَ الأكثر ليس من لغة العرب.
قال: وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير.
وقال ابنُ جني: لو قال قائلٌ: له عليَّ مائةٌ إلا تسعةً وتسعين، ما كان متكلمًا بالعربية، وكان كلامهُ عيًّا من الكلام ولُكْنَةً.
قلتُ: وهذا القولُ عزاه غيرُ واحدٍ لمالك، وهو قولُ الباقلاني والبصريين، وعليه أكثر النحاة.
وقال أكثر الأصوليين: يجوزُ استثناءُ الأكثر، واستدلُّوا بأنَّ اللَّه تعالى قال في آية:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [الآية ص/ 82، 83]، وقال في أخرى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر/ 42]، قالوا: فلا بدَّ أنْ يكون الغاوون أكثر من المخلصين، أو العكس، وعلى كلٍّ فقد استثنى اللَّه الأكثر.
قلتُ: وهذا الدليلُ في المسألة قويٌّ. وجواب المؤلف رحمه الله عنه بدخول الملائكة في آية استثناء الغاوين وخروجهم من آية استثناء المخلصين، ليس بمتجهٍ فيما يظهرُ لي، بل الظاهر إخراجهم من الآيتين، أو إدخالهم فيهما. أمَّا إخراجهم من واحدةٍ وإدخالهم في الأخرى بلا دليلٍ، فهو تحكمٌ لا دليلَ عليه.
أمَّا البيتُ الذي استدلَّ به بعضهم وهو قوله:
أدُّوا التي نقصتْ تسعين عن مائةٍ
…
ثم ابعثُوا حَكَمًا بالحقِّ قوَّامًا
فقد أجاب عنه المؤلفُ بجوابين:
أحدهما: أنَّه ليس فيه استثناء أصلًا.
والثاني: أنه مصنوعٌ، وعزاهُ لابن فضَّالٍ النحوي.
وأشار في "المراقي" إلى جميع الأقوال في هذه المسألة بقوله:
وجُوِّزَ الأكثرُ عند الجلَّ
…
ومالكٌ أوجبَ للأقلِّ
ومنع الأكثر من نصِّ العدد
…
والعقدُ منه عند بعضٍ انفقد