الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(اختلفت الرواية عن إمامنا رحمه الله في
حصول العلم بخبر الواحد
. . .) الخ.
حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة التي هي هل يفيد خبر الآحاد اليقين، أو لا يفيد إلا الظن؟ أن فيها للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول -وهو مذهب جماهير الأصوليين-: أنَّ أخبار الآحاد إنَّما تفيد الظن فقط، ولا تفيد اليقين، وهو مراد المؤلف بالعلم، فالعلم هو اليقين في الاصطلاح.
وحجة هذا القول أنك لو سئلت عن أعدل رواة خبر الآحاد، أيجوز في حقه الكذب والغلط؛ لاضطررت أن تقول: نعم، فيقال: قطعُك إذن بصدقِه مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له.
المذهب الثاني: أنه يفيد اليقين إن كان الرواة عدولًا ضابطين.
واحتج القائلون بهذا بأن العمل بخبر الآحاد واجب، والظن ليس من العلم حتى يجب العمل به؛ لأنَّ اللَّه تعالى يقول:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس/ 36]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إياكم والظن فإن الظن كذب الحديث".
وهذا القول بإفادته العلم رواية عن أحمد، وحكاه الباجي عن
(1)
(1/ 362).
ابن خويز منداد من المالكية، وهو مذهب الظاهرية.
المذهب الثالث: هو التفصيلُ بأنَّه إن احتفت به قرائنُ دالة على صدقه، أفاد اليقين، وإلا أفاد الظن.
ومثال ما احتفَّت به القرائن: إخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء وإحضار الكفن والنعش.
ومن أمثلته -أيضًا-: أحاديث الشيخين؛ لأنَّ القرائن دالةٌ على صدقها، لجلالتهما في هذ الشأن، وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق، كما قاله غير واحدٍ.
واختار هذا القول ابنُ الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي، والبيضاوي. قاله صاحب "الضياء اللامع".
وممَّن اختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى.
وحمل بعضُهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائنُ على صدقه خاصة دون غيره.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
الذي يظهر لي أنَّه هو التحقيق في هذه المسألة -واللَّه جل وعلا أعلم- أنَّ خبر الآحاد -أي الذي لم يبلغ حد التواتر- ينظر إليه من جهتين؛ هو من إحداهما قطعي، ومن الأخرى ظني.
ينظر إليه من حيث إن العمل به واجب، وهو من هذه الناحية
قطعي؛ لأن العمل بالبينات -مثلًا- قطعي منصوص في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليه المسلمون، وهي أخبار آحاد.
وينظر إليه من ناحية أخرى، وهي هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر؟ فلو قتلنا رجلًا قصاصًا بشهادة رجلين، فقتلنا له هذا قطعي شرعًا لا شك فيه، وصدق الشاهدين فيما أخبرا به مظنونٌ في نفس الأمر لا مقطوعٌ به؛ لعدم العصمة.
ويوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: "إنَّما أنا بشر تختصمون إليَّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلمٍ فإنَّما هي قطعةٌ من نارٍ فليأخذها أو ليتركها".
فعمل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعي الصواب شرعًا، مع أنه صرَّح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس الأمر كما ترى.
وأشار في "المراقي" إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله في خبر الآحاد:
ولا يُفيد العلم بالإطلاق
…
عند الجماهير من الحذَّاق
وبعضهم يفيد إن عدل روى
…
واختير ذا إن القرينة احتوى
وفي الشهادة وفي الفتوى العمل
…
به وجوبه اتفاقًا قد حصل
كذاك جاء في اتخاذ الأدوية
…
ونحوها كسفر والأغذية
ويوضحُه -أيضًا-: قول علماء الحديث في تعريف الصحيح: إنَّ
المراد صحتُه في ظاهر الأمر.
تنبيه:
اعلم أنَّ التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تُقبل في الفروع تقبلُ في الأصول؛ فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات اللَّه يجب إثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال اللَّه وجلاله على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى/ 11].
وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أنَّ أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، ولا يثبت بها شيء من صفات اللَّه، زاعمين أنَّ أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، وأنَّ العقائد لا بدَّ فيها من اليقين، باطل لا يُعَوَّلُ عليه.
ويكفي من ظهور بطلانه أنَّه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل. والعقولُ تتضائل أمام عظمة صفات اللَّه.
وقد جرت عادة المتكلمين أنَّهم يزعمون أنَّ ما يسمونه الدليل العقلي -وهو القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها- أنَّه مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل؛ لأن ما يسمونه الدليل العقلي، ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعيٌّ، هو جهل وتخبط في الظلمات.
ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقولُ -
مثلًا-: إن العقل يمنع كذا من الصفات، ويوجب كذا منها، وينفون نصوص الوحي بناءً على ذلك.
فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون: هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعُه كذبتم فيه، بل العقل يوجبه، وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه، كذبتم فيه، بل هو يمنعه، وهذا معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة، كاختلافهم في أفعال العبد، وجواز رؤية اللَّه بالأبصار، وهل العرض يبقى زمانين. . . إلى غير ذلك.
فيجب على المسلم أن يتقبل كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، ويعلم أنه إن لم يحصل له الهدى والنجاة باتباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يحصل له ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل.
وعلى كل حال، فإثبات صفات اللَّه بأخبار الآحاد الصحيحة، واعتقاد تلك الصفات، كالعمل بما دلت عليه من أوامر اللَّه ونواهيه، كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه، وكذلك تثبت بها صفاته.
وقد بينَّا أنها من إحدى الجهتين قطعية.
قال المؤلف
(1)
:
(فصل
وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلًا. .) إلخ.
(1)
(1/ 366).
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن قومًا أنكروا جواز التعبد بخبر الآحاد عقلًا، قالوا: لا يجوز عقلًا أن يأمر اللَّه خلقه أن يعبدوه بمقتضى ما يبلغهم عنه وعن رسله على ألسنة الآحاد، وعللوا ذلك الامتناع العقلي بأن الآحاد غير معصومين، فخبرهم غير مقطوع بصدقه، وغير المقطوع بصدقه ليس من العلم، والتكليف بما ليس بمعلوم علفا يقينيًا يقبح، والقبيح مستحيل في حق اللَّه تعالى.
وممن يروي عنه هذا القول ابن عُليَّة والأصم والجبائي وجماعة من المتكلمين، وهذا القول لا شك في بطلانه، كما أنَّه لا شك أنَّ التحقيق هو مذهب الجمهور، وهو جوازُ وقوع التعبد بأخبار الآحاد، فالعمل بها قطعي، والموافقة لما في نفس الأمر ظنية، ولا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة من بناء قطعي شرعًا على أمر ظني بالنسبة لما في نفس الأمر، كما تقدَّم قريبًا.
قال المؤلف
(1)
:
(فصل
وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة. .) إلخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أن أبا الخطاب قال: إن العمل بخبر الآحاد يوجبُه العقلُ؛ لثلاثة أمور:
(1)
(1/ 368).
الأول: أن الأمور القطعية في الشرع قليلة، والأغلب فيه الظنيات، فلو علِّق العمل على القطع لتعطل أغلب الأحكام؛ لندرة القواطع، وقلة مدارك اليقين.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافةً، ولا تمكن مشافهةُ جميعهم، ولا إبلاغ جميعهم بالتواتر.
الثالث: أن العدل الراوي لخبر الواحد مظنونُ الصدق لعدالته، والظن أرجح من مقابله، والعمل بالراجح يوجبه العقل، فمتى ترجح وجود أمر اللَّه ورسوله بإخبار العدل فالعمل به إذن أرجح من مقابله، فالعقل يقتضيه.
وأجاب المخالفون عن الأمور الثلاثة بأنه لا يلزم من عدم التعبد به تعطل الأحكام؛ لإمكان البقاء على البراءة الأصلية، واستصحاب العدم الأصلي.
وكذلك الظن الناشئ منه، قالوا: لا يرفع حكم اليقين الثابت بالبراءة الأصلية واستصحاب العدم الأصلي.
قالوا: والنبي يكلَّف بتبليغ من أمكنه تبليغه من أمته دون من لم يمكنه.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
التحقيق أن العقل بالنظر إليه وحده لا يمنع التعبد بخبر الواحد ولا يوجبه، فكلا القولين المتقدمَيْن باطل بلا شك، أعني قول من قال: يمنعه العقل، كالأصم والجبائي، وقول من قال: يوجبه، وهو