الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولُ المؤلف
(1)
في هذا المبحث:
(وهذا يبطل بالحج الفاسد، فإنَّه يؤمر بإتمامه وهو فاسد).
إيضاحُ مراده: أنَّ قول المتكلمين إن الصحة موافقةُ ذي الوجهين الشرعي منهما يقدح فيه بأن إتمام الحج الفاسد بعد فساده مأمور به، فتتميمه موافق للوجه الشرعي، ولو كانت الصحة موافقته لكان صحيحًا، مع أنَّه فاسد.
ويجاب عن هذا بأن الحج إنَّما فسد لأنَّه وقع مخالفًا للوجه الشرعي بارتكاب ما يفسده أولًا. وهو واضح.
وأمَّا
الفساد
فهو في اللغة: ضد الصلاح.
وهو في اصطلاح الفقهاء يُعْرَفُ من تعريف الصحة المتقدم.
فالفساد في اصطلاح الفقهاء في العبادات: هو عدم الإجزاء وعدم إسقاط القضاء، وكلُّ عبادةِ فُعِلَتْ على وجهِ لم يجزئ ولم يسقط القضاء فهي فاسدة. وفي المعاملات: عدمُ ترتبِ الأثر المقصود من العقد على العقد، فكلُّ نكاح لم يفد إباحة التلذذ بالمنكوحةِ فهو فاسد، وكلَّ شراءٍ لم يفد إباحة التصرف في المشترى فهو فاسد.
وعند المتكلمين، فالفساد: هو مخالفة ذي الوجهين الشرعي منهما.
(1)
(1/ 252).
والفاسد والباطل مترادفان، فمعناهما واحد عند الجمهور، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فجعل الباطل هو ما منع بوصفه وأصله، كبيع الخنزير بالدم، وجعل الفاسد هو ما شرع بأصله ومنع بوصفه، كبيع الدرهم بالدرهمين، فهو مشروع بأصله وهو بيع درهم بدرهم، ممنوعٌ بوصفه الذي هو الزيادة التي سببت الربا، ولذا لو حذف الدرهم الزائد عنده صح البيع في الدرهم الباقي بالدرهم، على أصل بيع الدرهم بالدرهم يدًا بيد.
قال في مراقي السعود:
وقابل الصحة بالبطلان
…
وهو الفساد عند أهل الشان
وخالف النعمانُ فالفسادُ
…
ما نهيُه بالوصف يستفاد
وأمَّا الإعادة فهي في اللغة: تكرير الفعل مرة أخرى. ومنه قول توبة بن الحمير:
من الخفرات البيض ودَّ جليسها
…
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وهي في اصطلاحهم: فعل العبادة مرة أخرى؛ إمَّا لبطلانها -مثلًا- فتعاد في الوقت وبعده، وإمَّا لغير ذلك، كإعادتها لفضل الجماعة في الوقت.
وأمَّا القضاء في اللغة، فيأتي لمعان كثيرة، ومنها: فعل العبادة كيف ما كان في وقتها أم لا، لقوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء/ 103]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} الآية [البقرة/ 200]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} الآية [الجمعة/ 10].
وهو في اصطلاح أهل الأصول: فعلُ جميع العبادة المؤقتة خارج الوقت المقدَّر لها.
وقولنا: "جميع العبادة" لأنَّها إن فعل بعضها في الوقت كانت أداء على الأصح.
وأمَّا الأداء في اللغة: فهو إعطاء الحق لصاحب الحق، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء/ 58]، وقوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 75]:
والأداء في الاصطلاح: هو إيقاع العبادة في وقتها المعيَّن لها شرعًا لمصلحة تشتمل عليها في الوقت.
وعرفه صاحب مراقي السعود بقوله:
فعلُ العبادة بوقت عُيِّنا
…
شرعًا لها باسم الأداء قُرِنا
وكونه بفعل بعض يحصل
…
لعاضد النصِّ هو المعولُ
وقيل ما في وقته أداء
…
وما يكون خارجًا قضاء
وعرَّف القضاءَ بقوله:
وضدُّه القضا تداركًا لما
…
سبق الذي أوجبه قد علما
وعرَّف الوقت بقوله:
والوقتُ ما قدره من شرعا
…
من زمن مضيقًا موسعًا
وعرَّف الإعادة بقوله:
وانتفيا في النفل والعبادة
…
تكريرُها لو خارجًا إعادة
تنبيه:
قد يجتمع الأداء والقضاء في العبادة، كالصلوات الخمس، فإنَّها تؤدَّى في وقتها وتُقضى بعد خروجه.
وقد ينفرد الأداء دون القضاء، كصلاة الجمعة، فإنها تُؤدَّى في وقتها ولا تقضى بعد خروج الوقت بل يجب قضاؤها ظهرًا.
وقد ينفرد القضاء دون الأداء، كما في صوم الحائض، فإنَّ أداءه حرام، وقضاءه واجب.
وقد ينتفيان معًا في النوافل التي ليس لها أوقات معينة.
ولا يخفى أن القضاء في الاصطلاح إنَّما هو فيما فات وقته المعين له، وقد سبق له وجوب في وقته، فما لم يعين له وقت لا يُسمى قضاءً، كالزكاة إذا أخرَّها عن وقتها، وكمن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخرها، فلا يقال: إنَّ صلاته بعد التأخير قضاء القضاء.
وهنا سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقال: الحائض في بعض أيام رمضان يجبُ عليها القضاء إجماعًا مع أن الوقت فات، والصوم عليها حرام، فكيف يجب قضاء ما فات وقته وهو حرام؟
وكذلك يُقال في الناسي والنائم؛ لأنَّهما فات عليهما وقت الصلاة وهي غير واجبة عليهما، بدليل الإجماع على سقوط الإثم عنهما.
وقد تكلَّمنا فيما سبق على مسألة الناسي والنائم بما يُغني عن إعادة الكلام هنا.
وأمَّا الحائض فقد اختلف في إطلاق وجوب الصوم عليها زمن الحيض وعدمه، فأكثر العلماء على أنَّ انعقاد السبب مع وجود المانع يكفي في إطلاق الوجوب على العبادة المنعقد سببها المانع منها مانع.
وقال بعضهم: انعقاد سبب الوجوب مع وجود المانع لا أثر له، فلا يوصفُ بوجوب إلا ما توفرت شروطه وانتفت موانعه.
وعلى قول الجمهور: إنَّه يكفي في إطلاق اسمِ الوجوب عليه انعقادُ سببه وإن منع منه مانع، فالفعل الثاني قضاء للأول، وعلى قول من قال: إنه لا يطلق عليه اسم الوجوب، فالفعل الثاني أداء بأمر جديد وليس قضاء للأول.
وفرق بعض العلماء بين النائم والناسي والمسافر وبين الحائض، فقال: الفعل في غير زمن الحيض كزمن النوم والنسيان والسفر يوصف بالوجوب، ففعله الثاني قضاء لذلك الواجب، وأمَّا الحيض فالصوم فيه حرام، فلا يمكن وصفه بالوجوب، فصوم الحائض عدَّة من أيام أخر على هذا أداءٌ بأمر جديد لا قضاء.
وذكر ابن رشد في "المقدمات" أنَّ هذا التفصيل هو الراجح عند المالكية. وعليه درج في المراقي بقوله:
هل يجب الصوم على ذي العذر
…
كحائضٍ ومُمْرَضٍ وسَفْرِ
وجوبه في غير الأول رجح
…
وضعفه فيه لديهمُ وَضَح
وهذا القول بأن صوم الحائض ما فاتها من رمضان إذا طهرت أداءٌ لا قضاءٌ هو الذي رده المؤلف بقوله
(1)
:
(وهذا فاسد؛ لوجوهٍ ثلاثة:
1 -
ما روي عن عائشة رضي الله عنها: "كُنَّا نحيض على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرُنا بقضاء الصلاة".
2 -
أنَّه لا خلافَ بين أهلِ العلمِ في أنهم ينوون القضاء.
3 -
أنَّ العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه لا يجب بعده. . .) الخ.
هذه الأوجه الثلاثة التي رد بها المؤلف ذلك:
الوجه الأول منها لا دليل فيه؛ لأنَّ إطلاق عائشة رضي الله عنها اسم القضاء على صوم الحائض ما فاتها من رمضان لا دليل فيه؛ لأن القضاء يطلق في اللغة على فعل العبادة مطلقًا في وقتها أم لا.
وتخصيصه بفعلها بعد خروج الوقت اصطلاح خاص للأصوليين والفقهاء، فلا دليل قطعًا في لفظ عائشة المذكور؛ لأن الاصطلاح المذكور حادث بعدها.
وأما الوجه الثاني، وهو الإجماع على أنهم ينوون القضاء، فهو الدليل الجيد المعتمد في محل النزاع، مع أن بعض أهل العلم ناقش
(1)
(1/ 256 - 257).
هذا الدليل قائلًا: إنه لم ينعقد فيه إجماع، وإنه لا مانع من قصد الحائض الأداء بأمر جديد.
وعليه -أي الخلاف في ذلك- درج في المراقي بقوله:
وهو في وجوب قصد للأدا
…
أو ضده لقائل به بدا
والاكتفاء بانعقاد سبب الصوم -مثلًا- في وجوب القضاء، وإن منع من تمام الوجوب مانع كالحيض، هو مراد المؤلف بقوله
(1)
:
(ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمَّة بناء على وجود السبب مع تعذُّرِ فعلها، كما في النائم والناسي، وكما في المحدث تجب عليه الصلاة مع تعذر فعلها منه في الحال، وديون الآدميين تجب على المعسر مع عجزه عن أدائها) وهذا واضحٌ كما ترى.
وأمَّا العزيمة فقد عرَّفها المؤلف رحمه الله في اللغة بقوله
(2)
: (العزيمة في اللسان: القصدُ المؤكد، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه/ 115] {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران/ 159]).
وعرفَّها -أيضًا- في عرف حملة الشرع بقوله
(3)
: (فالعزيمة الحكمُ الثابتُ من غير مخالفةِ دليلٍ شرعيٍّ. وقيل: ما لزم بإيجاب اللَّه تعالى).
والتعريفُ الأولُ أكمل؛ لأنَّ العزيمة تشملُ الواجب والمندوب
(1)
(1/ 825).
(2)
(1/ 258).
(3)
(1/ 259).
والحرام والمكروه.
وكثير من أهل الأصول يُطْلِقُ اسم العزيمة على كل ما ليس برخصةٍ كما سيأتي.
وأما الرُّخصة فهي في اللغة: النعومة واللِّين، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
وثَدْيًا مثل حق العاج رخصًا
…
حصانًا من أكف اللامسينا
وعرَّفها المؤلف لغة بأنها السهولة واليسر، قال
(1)
: (ومنه رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء).
وعرَّفها في اصطلاح أهل الأصول بأنها: (استباحة المحظور مع قيام الحاظر. وقيل: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح)
(2)
.
وهذا التعريف الأخير الذي حكاه بقيل أجود من الأول.
ومثاله: إباحة الميتة للمضطر، ففيها استباحة المحظور الذي هو أكل الميتة مع قيام الحاظر أي المانع الذي هو خبث الميتة الذي حُرِّمت من أجله، وهو -أيضًا- ثابت على خلاف دليل شرعيِّ هو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة/ 3] لمعارضٍ راجح، كقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} الآية [المائدة/ 3] ونحوها من الآيات.
(1)
(1/ 258).
(2)
(1/ 259).
ومن أجود تعاريف الرُّخصة، ما عرُّفها به بعضُ أهل الأصول من أنَّها: هي الحكم الشرعي الذي غُيِّر من صعوبة إلى سهولةٍ لعذرٍ اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي.
فخرج بالتغيير ما كان باقيًا على حكمه الأصلي، كالصلوات الخمس، وخرج بالسهولة نحو حرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، لأنه تغيير من سهولة إلى صعوبة، وكذلك الحدود والتعازير، مع تكريم
(1)
الآدمي المقتضي للمنع من ذلك قبل وروده.
وخرج بالعذر ما تغيَّر من صعوبة إلى سهولة لا لعذر، كترك تجديد الوضوء لكل صلاة، فإنَّ التجديد لكل صلاة كان لازمًا ثم غير إلى سهولةٍ هي أنَّه يصلي بوضوء واحد كلَّ الصلوات ما لم يُحْدِث، إلا أن هذا التغيير لا يسمى رخصة اصطلاحًا، لأنه لم يكن لعذر جديد.
وخرج بقيام سبب الحكم الأصلي النسخُ، كتغيير إيجاب مصابرة المسلم الواحد العشرة من الكفارِ بمصابرة اثنين منهم فقط المنصوص في أخريات الأنفال؛ لأنَّ الحكم الأصليَّ الذي هو مصابرة العشرة كان في أول الإسلام لقلة المسلمين وكثرة الكافرين، وفي وقت النسخ زال هذا السبب بكثرة المسلمين، وكذلك ما لو قطع من إنسان بعض أعضاء الوضوء فإن غسله يسقط عنه وجوبه ولا يسمى رخصة؛ لأن سبب الحكم الأصلي وجود محله وقد زال هنا بقطعه.
(1)
أي أن إكرام الآدمي حق له، فتغير هذا الحق بصعوبة، وهو التعزير، فليس ذلك رخصة. "عطية"
وعرَّف صاحب المراقي الرخصة والعزيمة بقوله:
للعذر والرخصة حكمٌ غُيِّرا
…
إلى سهولةٍ لعذر قُرِّرا
مع بقاء علة الأصلي
…
وغيرها عزيمة النبي
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المبحث أنَّ إباحة التيمم إنْ كانت مع القدرة على استعمال الماء لمرضٍ أو لزيادة ثمنٍ سميت رخصة، وإن كانت مع العجز عنه كعدم الماء فلا تسمى رخصة؛ لأنّ سبب الحكم الأصلي وهو وجود الماء زائل هنا، فلا تكليف بمعجوز عنه. وهو ظاهر.
والأكثرون على أنَّ إباحة الميتة للمضطر رخصة وإنْ وجب عليه الأكل لإحياء نفسه، لأنَّ الرخصة قد تجبُ كما هنا، وسميت رخصة لما فيها من التسهيل عليه بالإذن في أكل الميتة، ولم يضيق عليه بإلزامه ترك الأكل منها حتى يموت. وقيل: من جهة التوسيع رخصة، ومن جهة وجوب الأكل عزيمة، والواحد بالشخص له جهتان كما تقدم.
وذكر المؤلف في هذا المبحث أيضًا ما خلاصتُه: أنَّ الصورة المخرجة من العموم بمخصص إن كانت توجد فيها علة الحكم العام تسمى رخصة، وإن كانت لا توجد فيها لا تسمى رخصة.
مثال ما وجدت فيه علة الحكم العام من صور التخصيص: مسألة بيع العرايا؛ لأنَّ بيع الرطب بالتمر اليابس فيها داخل في عموم أدلة النهي عن المزابنة، وعلة تحريم المزابنة التي هي عدم تحقق المماثلة الواجب تحققها في التمر بالتمر إجماعًا موجودة في الصورة المخرجة
من حكم العام بدليل خاص، وهي إباحة بيع العرايا المذكور.
ومثال ما لم توجد فيه علة العام: إباحة رجوع الأب فيما وهب لابنه، فإنه داخل في عموم المنع في حديث الواهب:"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" ولكنه خرج بدليل خاص، وعلةُ المنع غيرُ موجودةٍ في الأب؛ لأنَّ الأبوة تجعل له من التسلط على ما تحت يد الولد ما لم يكن لغيره.
وناقش بعضُ العلماء في الفرق بينهما، وقال: لا فرق بين المسألتين.
* * *