الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو الخطاب. فالعقل يجيز التعبد به ولا يمنعه ولا يوجبه، وهذا هو الحق إن شاء اللَّه تعالى.
قال المؤلف:
(1)
(فصل
فأما
التعبد بخبر الواحد سمعًا
، فهو قول الجمهور، خلافًا لأكثر القدرية، وبعض أهل الظاهر، ولنا دليلان قاطعان. .) إلخ.
خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الفصل أنَّ التعبد بخبر الواحد بالنظر إلى الحكم الشرعي -فهو مراده بقوله: "سمعًا"- هو مذهب الجمهور، خلافًا لأكثر القدرية، وبعض أهل الظاهر، وأن للجمهور دليلين قاطعين على التعبد به شرعًا:
الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في وقائع لا تنحصر على قبوله، كرجوع أبي بكر لقول المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة لما أخبراه أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.
ومنها: رجوع عمر رضي الله عنه إلى قول المذكورين في دية الجنين أنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغرةٍ عبد أو وليدة.
ومنها: رجوع عمر إلى قول الضحاك بن سفيان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وكرجوعه إلى قول عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.
(1)
(1/ 370).
ومنها: رجوع عثمان رضي الله عنه إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالسكنى في دار زوجها لما قتل حتى تنقضي عدتها.
إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تنحصر
(1)
، والمقصودُ المثال لا حصر جميعها، وقد جاء عنهم التصريح برجوعهم عمَّا كانوا يرونه لنفس تلك الأخبار التي هي آحاد، كما جاء في بعض روايات حديث الغرَّة في الجنين أن عمر قال:"اللَّه أكبر، لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره"، عند أبي داود وغيره،
كما روي عنه أنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وكان قد قُتِلَ خطأ.
وأمثال هذا كثيرة.
فإن قيل: قد جاء ما يدل على ترك العمل بخبر الواحد في وقائع أخرى، كعدم قبوله صلى الله عليه وسلم لخبر ذي اليدين لما قال له: أقصرت الصلاة أم نسيت، وأخبره أنه سلم من اثنتين.
ولم يقبل أبو بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة.
(1)
ومن أقواها وأصرحها تحول بني سليم إلى الكعبة وهم في صلاة الظهر، لما أخبرهم رجل واحد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح إلى الكعبة، فاستداروا إليها حالًا. "عطية".
ولم يقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ثلاثًا حتى شهد معه أبو سعيد الخدري.
ولم تقبل عائشة خبر ابن عمر في حديثه أن الميت يعذب ببكاء أهله.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن هذا اعتراف من المخالف بقبول خبر الآحاد، وإذن فهو إقرار منه بمحل النزاع؛ لأنَّ شهادة محمد بن مسلمة مع المغيرة، وأبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر من كونه آحادًا؛ لأنَّ خبر الاثنين خبر آحاد كما ترى.
الثاني: أنَّ تلك الوقائع ليس فيها ما يدلُّ على عدم قبول خبر الآحاد؛ لأنَّ عدم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لأنه كان يظنُّ خلاف ما أخبر به، ولذا قال له:"كل ذلك لم يكن" أي لم أنس ولم تقصر الصلاة، أي في ظني، ولا يكلف الإنسان بقبول خبر هو يظنُّ عدم صدقه، ولما أخبره الصحابة بصدق ذي اليدين أتم صلاته وسجد للسهو.
وهذا هو الصواب في الجواب عن هذا، خلافًا لما ذكره المؤلف رحمه الله من أنَّ الجواب عنه أنَّ عدم تصديقه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ليعلمهم أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد، لأنهم كانوا خلفه صلى الله عليه وسلم كثيرين جدًّا، وفيهم من هو أضبط للصلاة وأحرص على كمالها من ذي اليدين، فكان انفراده بالتنبيه على ذلك دون جميعهم بعيدًا؛ ولذا
لم يصدقه حتى أخبر غيره.
وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يرد قول المغيرة، وإنما طلب الاستظهار بشهادة آخر معه، ولو لم يجد غيره لقبله منفردًا، كقول إبراهيم:{بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة/ 260].
وأمَّا عمر رضي الله عنه فإنه قال لأبي موسى [ما قال] سدًّا للذريعة، لئلا يكون الناس كما توجه إلى أحد منهم لَوْمٌ وضع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعُ به عنه ذلك اللوم، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه غيرُ مُكَذِّبٍ ولا مُتَّهِمٍ لأبي موسى، ولكنه خشي أن يتقول الناس على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا عائشة فهي لم تكذِّب ابن عمر، بل قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، كما ثبت عنها رضي الله عنها في الصحيح.
وفي رواية عنها في الصحيح أيضًا أنها قالت: رحم اللَّه أبا عبد الرحمن -تعني ابن عمر- سمع شيئًا فلم يحفظه. . . إلخ.
ولكنها ظنَّت أنه غلط، لاعتقادها أنَّ ما أخبر به مخالف لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164، الإسراء/ 15، فاطر/ 18، الزمر/ 7]؛ لأن بكاء أهل الميت ليس من فعله، فلو عُذِّب به لكان من مؤاخذته بعمل غيره، والقرآن ينفي هذا، ومن هنا ظنت أنه غلط.
وظنُّ شخصٍ غلطَ شخصٍ معين في حادثة معينة لسبب معين، ليس فيه البتة ما يقتضي رد قول ذلك المخبر مطلقًا كما ترى، مع أن
الصواب في هذه المسألة مع ابن عمر رضي الله عنهما، وليس الأمر كما ظنت عائشة رضي الله عنها، وتوجيهه عند العلماء من أربعة أوجه:
الأول: أنَّ ذلك الميت أوصى أهله بالبكاء عليه، كقول طرفة بن العبد في معلقته:
إذا متُّ فانعيني بما أنا أهلُه
…
وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
وحينئذ فتعذيبه بفعله الذي هو أمره وإيصاؤه بالمنكر.
الثاني: أن يعلم أن أهله يفعلون ذلك بعد موته ولم ينههم عنه؛ لأن اللَّه فِيأمره بنهيهم عن ذلك المنكر، كما قال تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم/ 6]، وتعذيبه إذن بتقصيره وإهماله ما أمره اللَّه به من نهي أهله عن المنكر.
الثالث: أنَّ معنى تعذيبه ببكاء أهله توبيخ الملائكة له بما يندبُه أهلُه به.
الرابع: أنَّ معنى تعذيبه تألُّمه بما يقع من أهله من النياحة وغيرها.
قال ابن حجر في "الفتح": وهذا اختيارُ أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة، ومحل الشاهد في كلامه من حديثها قوله صلى الله عليه وسلم:"فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد اللَّه لا تعذبوا موتاكم".
قال: وهذا حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم.
الدليل الثاني: ما تواتر من إنفاذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمراءه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبيلغ الأحكام والقضاء وتبليغ الرسالة.
ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول، ليكون مفيدًا، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغهم الرسالة، ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفى به. وهذا دليل قاطع على قبول أخبار الآحاد.
وقال البخاريُّ في صحيحه: باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، قول اللَّه تعالى:{وَفَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة/ 122]، ويسمى الرجلُ طائفة لقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات/ 9] فلو اقتتل رجلان دخل في معنى الآية، وقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات/ 6]، وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدًا بعد واحدٍ، فإن سها أحد منهم رد إلى السنة.
ثم ساق رحمه الله أحاديث في وقائع متعددة كلَّها دالة على إلزامه صلى الله عليه وسلم بقبول خبر الآحاد، فانظرها فيه إن شئت.
ومراد البخاري رحمه الله أن العمل بخبر الواحد دلَّ عليه الكتاب والسنة.
فمن الآيات الدالة عليه قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ} الآية [التوبة/ 122]؛ لأن تلك الطائفة لم يقل أحد بشرط بلوغها عدد التواتر، مع أن اللَّه يُلزم بقبول خبرها في قوله:{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة/ 122]، بل ذكر البخاري أن الطائفة تصدق بالرجل الواحد، واستدل على ذلك بالآية التي ذكرناها آنفًا، وقد سبقه للاستدلال بالآية على ذلك الشافعي ومجاهد رحمهم اللَّه تعالى.
ومن الآيات الدالة على قبول خبر الواحد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية، فإنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية -أعني مفهوم مخالفتها- أن ذلك الجائي بنبأ لو كان غير فاسق، بل كان معروفًا بالعدالة والصدق، فإنه لا يلزم التبين في خبره على قراءة "فتبينوا"، ولا التثبت على قراءة "فتثبتوا"، بل يلزم العمل به حالًا من غير تبين ولا تثبت.
والتحقيق اعتبار مفهوم المخالفة، كما تقرر في الأصول، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تغالى.
قال المؤلف
(1)
رحمه اللَّه تعالى:
(دليل ثالث، وهو أن الإجماع انعقد على قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنِّه، فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى).
(1)
(1/ 380).
قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(فصل
وذهب الجبَّائي إلى أنَّ خبرَ الواحد إنَّما يُقبلُ إذا رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم اثنان ثم يرويه عن كلِّ واحد منهما اثنان، إلى أن يصير في زماننا إلى حدٍّ يتعذر معه إثبات حديث أصلًا. .) إلخ.
خلاصةُ ما ذكره في هذا الفصل أنَّ الجبَّائي قاس الروايةَ على الشهادة، وهذا مذهب باطل بإجماع من يعتد به من العلماء.
فروايةُ المرأةِ كروايةِ الرجل، وليست شهادتُها كشهادته، وروايةُ النساء مقبولةٌ في الدماء والحدود ونحو ذلك، ولا تقبلُ شهادتهن في ذلك، والشهادةُ في الزنا لا بدَّ فيها من أربعة، والرواية فيه لا تحتاج إلى ذلك. إلى غير ذلك من الفوارقِ بينهما التي لا نزاع فيها بين أهل العلم.
قال المؤلف
(2)
رحمه الله:
(ويعتبر في الراوي المقبول روايتُه أربعةُ شروط: الإسلام والتكليف والعدالة والضبط. .) إلخ.
اعلم أنَّ الكافر لا تقبل روايتُه على التحقيق ولو كان متأولًا معظمًا للدين، لأنَّ منصب القبول لا يستفاد بغير الإسلام. وخلاف من خالف في هذا لا يعوَّل عليه.
(1)
(1/ 382).
(2)
(1/ 383).
وأمَّا غير المكلَّف، كالصغير والمجنون، فلا تقبلُ روايته -أيضًا- على التحقيق.
أمَّا المجنون فلا تقبل مطلقًا، لا في التحمل ولا في الأداء.
وأمَّا الصبيُّ فيقبل في التحمل دون الأداء على التحقيق، والمعنى أنه إن سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فتحمله عنه وهو صغير عاقل ثم أدَّاهُ بعد بلوغه، قُبِلَ، كما هي حالة رواية ابن عباس والحسن والحسين وعبد اللَّه بن جعفر وعبد اللَّه بن الزبير والنعمان بن بشير وأضرابهم.
أمَّا لو أداه في حال صغره فإنه لا تقبلُ روايته؛ لكونه لا يخافُ اللَّه ولا يعرفُه، ولو فرضنا أنه يعرفه فهو يعلم أن الصبي مرفوعٌ عنه القلم، فلا يخاف عاقبة الكذب، ولأنه لا يقبلُ قولُه فيما يخبر به عن نفسه وهو الإقرار، فما يخبر به عن غيره أولى بعدم القبول.
ولا ينتقض هذا بالعبد، فإن إقراره لا يقبل مع أن روايته مقبولة؛ لأن المانع من قبول إقراره هو حق سيده الذي يملكه، وليس لأحد إقرار بملك غيره، مع أن قومًا أجازوا إقراره في العقوبات البدنية. وهو مذهب مالك.
وقول من قال من العلماء بقبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من الجنايات لا يرد على ما ذكرنا؛ لأنه من قبيل الاستدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق، مع مسيس الحاجة لذلك، لكثرة وقوع الجنايات بينهم، وانفرادهم غالبًا عن غيرهم.
وأمَّا الضبط فلا خلاف في اشتراطه، فلا تقبلُ روايةُ غير المميز ولا
المجنون ولا المغفل الذي لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه، فلا ثقة بقوله وإن كان غير فاسق.
والضبط في اللغة: هو حفظُ الشيء بالحزم.
وفي الاصطلاح: هو كون الراوي غير كثير الغلط والخطأ، بل خطؤه نادر.
ويعرف ذلك بمخالفته للجماعة المشهورين بالعدالة والضبط، فمن كثرت مخالفته لهم فليس بضابط فلا تقبل روايتُه، ومن ندرت مخالفتُه لهم فهو الضابطُ المستكملُ لهذا الشرط.
قال في "طلعة الأنوار" معرفًا للضابط:
كذاك لا يُقبلُ إلا من ضبط
…
من زايل الخطأ كثيرًا والغلط
بالضابطين اعتبرن فإن غلب
…
وفق فضابطٌ وإلا يُجتنب
وأما العدالة فلا اختلاف في اشتراطها في الراوي.
والعدالة في اللغة: التوسط.
وفي الاصطلاح: سلامةُ الدين من الفسق والمروءة من القوادح.
وعرفها ابن عاصم في رجزه بقوله:
والعدل من يجتنب الكبائرا
…
ويتقي في الأغلب الصغائرا
وما أبيح وهو في العيان
…
يقدح في مروءة الإنسان
وقال بعض علماء الأصول: العدالةُ هيئةٌ راسخةٌ في النفس تحمل
على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا حتى تحصل ثقةُ النفوس بصدقه.
فلا ثقة بقول من لا يخاف اللَّه تعالى خوفا وازعًا عن الكذب.
وخلاف أهل الأصول في اشتراط الملكة المانعة من فعل ما يُخِلُّ بالدين والمروءة مشهور.
وممَّن جزم باشتراط الملكة فيها صاحب "جمع الجوامع" والغزالي والأبياري والفهري وغيرهم.
وأكثر أهل العلم على أنَّ العدل هو من يجتنب الكبائر مطلقًا، وصغائر الخسة مطلقًا، كسرقة لقمة وتطفيف حبة، لدلالة ذلك على سقوط مروءته، وساقط المروءة لا ثقة بقوله، ويجتنبُ صغائر غير الخسة في أغلب الأحوال، ويجتنب ما يخلُّ بالمروءة عرفًا من المباحات، كالبول في الطريق، والأكل في السوق لغير سوقي، ونحو ذلك.
وظاهر كلامهم سواء كان ذلك الاجتناب بسبب ملكة، أي هيئة راسخة في النفس لا تزول أصلًا، أو بسبب علةٍ
(1)
مانعة من ذلك، أو بسبب علاج النفس ومجاهدتها دون فعل ذلك.
وهذا هو الأظهر عندي، وممن مال إليه ابن حلولو في "الضياء اللامع"، والعبادي في "الآيات البينات". واللَّه تعالى أعلم.
واعلم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة؛ لإشعاره بعدم
(1)
في الأصل المطبوع: أو إلا بعسر. ولعل المثبت هو الصواب.
التقوى من فاعله، قال في "المراقي":
ولا صغيرة مع الإصرار
…
المبطل الثقة بالأخبار
وخلاف العلماء في حد الكبيرة معروفٌ فلا نطيلُ به الكلام.
هذا وما ذكره المؤلف من اشتراط العدالة يُعلم منه أنه لا تقبل رواية فاسق، وهو كذلك، كما نص اللَّه على ذلك في قوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور/ 4]، وقوله:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات/ 6].
أما إن كان فسقه بارتكاب كبيرة، كقذف المحصنات، ونحو ذلك، فلا خلاف في عدم قبول روايته.
وأمَّا إن كان فسقه عن تأول، كبعض أهل الأهواء الذين لم تبلغ بهم بدعهم الكفر البواح، فاختلاف أهل الأصول والحديث في قبول رواياتهم معروف.
وأمَّا من كان منهم يرى أن الكذب لترويج بدعته جائزٌ، كالخطابية وغيرهم، فلا تقبل روايته قولًا واحدًا، وكذلك من يدعو منهم إلى بدعته.
أما الذي لا يدعو إلى بدعته ولا يرى جواز الكذب، بل عرف بالصدق والتحرز من الكذب واحترام الدين، فأكثر أهل العلم على قبول روايته؛ لأن صدقه مما يغلبُ على الظن، وقد روى الشيخان وغيرهما عن جماعة من المبتدعة من خوارج ومرجئة وقدرية.
وممن أخرج له البخاري عمران بن حطان، وهو القائل في ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمدحه على ذلك:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يومًا فأحسبه
…
أوفى البرية عند اللَّه ميزانا
ولقد صدق من رد عليه بقوله:
بل ضربة من غويٍّ أوردته لظى
…
وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
وفي هذه المسألة أعني الرواية عن أهل البدع كلام كثير للعلماء لم نُطِلْ به الكلام، وأظهره هو ما ذكرنا. واللَّه تعالى أعلم.
وإنَّما تثبتُ العدالة بواحد من ستة أمور:
الأول: الاختبارُ بالمعاملة والمخالطة التي تطلعُ على خبايا النفوس ودسائسها.
الثاني: التزكيةُ ممن ثبتت عدالته، وهي إخبارُ العدول المبرزين عنه بصفات العدالة.
الثالث: السماعُ المتواتر أو المستفيضُ عنه أنَّه عدل، فمن اشتهرت عدالتُه بين أهل العلم وشاع الثناءُ عليه بالعدالة كفى ذلك في ثبوت عدالته، كمالكٍ والسفيانَيْن والأوزاعي والشافعي وأحمد وأشباههم.
الرابع: قضاء قاضٍ بشهادة شاهد إن كان معروفًا عنه أنه لا يحكم بعلمه، أو لم يكن عالمًا بالواقعة مع شهرته بالعدالة، وعدم الحكم
بقول غير العدل أو مجهول الحال، فإن احتمل أنه حكم بعلمه لا بشهادة الشاهد، فليس ذلك تعديلًا له.
وحكى ابن الحاجب الإجماع على أن حكم القاضي بشهادة الشاهد نحو ما ذكرنا تعديل له، والظاهر أنه لا يخلو من خلاف.
الخامس: أن يروي عنه من عرف من عادته أو من لفظه أنه لا يروي إلا عن العدل، كالبخاري في صحيحه، ومالك، فإنَّ تلك الرواية عنه تعديل له، وذهب جماعة من علماء الحديث إلى أن ذلك ليس تعديلًا له، لاحتمال مخالفته عادته، وكونُ ذلك تعديلًا له هو اختيار الأصوليين. أما إن كان يروي عن غير العدل فليست روايتُه عن شخص تعديلًا له قولًا واحدًا.
السادس: أن يعمل عالمٌ بروايته، بشرط أن يُعرف من لفظ ذلك العالم أو عادته أنه لا يعملُ إلا بقول العدل. وعلى هذا جماعة من الأصوليين.
وقالت جماعة من أهل الحديث: ليس عمل العالم بروايته تعديلًا له، ولا تصحيحًا لمرويه؛ لجواز أن يكون عمل به احتياطًا، أو في فضائل الأعمال التي أجاز بعضهم العمل فيها بالضعيف بشرطه المعروف في علم الحديث.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
إن كان العملُ المذكور في الترغيب أو كان أحوط، فالظاهر أن العمل به لا يستلزم تعديل راويه، أما إن كان ليس من مواضع الترغيب،