المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تعارض الجرح والتعديل - مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر- ط عطاءات العلم

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌حقيقة الحكم وأقسامه

- ‌(أقسامُ أحكام التكليف

- ‌(ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌المندوب

- ‌المباح

- ‌ الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها

- ‌المكروه

- ‌الأمرُ المطلقُ لا يتناول المكروه

- ‌الحرام

- ‌ خطابُ الكفَّار بفروع الإسلام:

- ‌ الشروط المعتبرةُ لفعل المكلَّف به

- ‌المقتضى بالتكليف فعلٌ وكفٌّ

- ‌ العلة

- ‌ السبب

- ‌ الشرط

- ‌ الصحة

- ‌ الفساد

- ‌باب أدلة الأحكام

- ‌كتاب اللَّه

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌(باب النسخ

- ‌ الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌ نسخُ الأمر قبل التمكن

- ‌ نسخ العبادة إلى غير بدل

- ‌ النسخ بالأخف والأثقل

- ‌ نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد

- ‌ نسخ السنة بالقرآن

- ‌ نسخ القرآن بالسنة المتواترة

- ‌ النسخ بالقياس

- ‌ما يُعرف به النسخ:

- ‌السُّنَّة

- ‌حدُّ الخبر:

- ‌ العلمُ الحاصلُ بالتواتر

- ‌ ما حصل به العلم في واقعة يحصل به في غيرها

- ‌ أخبارُ الآحاد

- ‌ حصول العلم بخبر الواحد

- ‌ التعبد بخبر الواحد سمعًا

- ‌ خبرُ مجهول الحال

- ‌ التزكية والجرح

- ‌ تعارض الجرحُ والتعديل

- ‌ الدليل على جواز الرواية والعملِ بالإجازة

- ‌زيادة الثقةُ

- ‌ الرفع والوصل نوعٌ من الزيادة

- ‌ رواية الحديث بالمعنى

- ‌ نقل الحديث بالمعنى في التَّرجمة

- ‌ الإجماع

- ‌ اعتبارِ علماء العصرِ من أهل الاجتهاد

- ‌إجماعُ أهل المدينة ليس بحجةٍ

- ‌إجماعُ أهل كلِّ عصر حجةٌ

- ‌ الإجماع السكوتي

- ‌ مستندِ الإجماع

- ‌الأخذُ بأقل ما قيلَ

- ‌الأصول المختلف فيها

- ‌ شرع من قبلنا

- ‌قول الصحابي

- ‌قول الصحابي الذي ليس له حكمُ الرفعِ

- ‌الاستحسان

- ‌الاستصلاح

- ‌ التأويل

- ‌التأويل الفاسد، والتأويل البعيد

- ‌ المجمل

- ‌ الإجمال في لفظ مركب

- ‌ البيان

- ‌ لا يجوزُ تأخير البيان عن وقت الحاجة)

- ‌ تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة:

- ‌باب الأمر

- ‌ الأمرِ بعد الحظر

- ‌الأمرُ المطلقُ لا يقتضى التكرارَ

- ‌الواجبُ المؤقتُ لا يسقطُ بفواتِ وقته

- ‌ الأمر يقتضي الإجزاءَ بفعل المأمور به

- ‌الأمر بالأمر بالشيء

- ‌ألفاظ العموم خمسةُ

- ‌أقلُّ الجمع

- ‌ الدليلُ على أنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السبب

- ‌ تخصيص العموم إلى أن يبقى واحدٌ

- ‌اللفظ العامُّ يجبُ اعتقادُ عمومه

- ‌ الأدلة التي يُخصُّ بها العمومُ

- ‌فصل في الاستثناء

- ‌ تعدد الاستثناء

- ‌إذا تعقب الاستثناءُ جُمَلًا

- ‌ الشرط

- ‌ المطلق والمقيد

- ‌ إذا كان هناك مقيدان بقيدين مختلفين

- ‌ دلالةُ الاقتضاء

- ‌ دلالة الإشارة:

- ‌ دلالةُ الإيماء والتنبيه:

- ‌ مفهومُ الموافقة

- ‌الفرقُ بين مفهوم الصفة ومفهومِ اللقب:

- ‌ موانع اعتبارِ مفهوم المخالفة

- ‌باب القياس

- ‌ تحقيقُ المناطِ

- ‌ تنقيحُ المناط

- ‌ تخريج المناط

- ‌ إثباتِ القياسِ على منكريه

- ‌(أوجه تطرقِ الخطأ إلى القياس)

- ‌أَضْرُبُ إثباتِ العلةِ بالنقل:

- ‌أضربُ إثباتِ العلةِ بالاستنباطِ

- ‌ المناسبة

- ‌الدورانِ

- ‌النقضُ برائحة الخمر

- ‌الطرد

- ‌ قياسِ الشَّبه

- ‌ غلبةَ الأشباهِ

- ‌ قياس الدلالة

- ‌أركان القياس

- ‌ العلة:

- ‌ اطراد العلةِ

- ‌المستثنى من قاعدةِ القياسِ

- ‌ الصفاتِ الإضافيةِ

- ‌ تعليلُ الحكم بعلتين)

- ‌ إجراءُ القياس في الأسباب)

- ‌(فصل القوادح

- ‌الأول: الاستفسار:

- ‌السؤالُ الثاني: فساد الاعتبار:

- ‌فائدة:

- ‌السؤالُ الثالث: فساد الوضع:

- ‌تنبيهان:

- ‌السؤال الرابع: المنع:

- ‌السؤالُ الخامس: التقسيم:

- ‌(ويشترطُ لصحةِ التقسيمِ شرطان):

- ‌السؤال السادس: المطالبة:

- ‌السؤال السابع: النقض:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيهات:

- ‌السؤال الثامن: القلب:

- ‌السؤال التاسع: المعارضة:

- ‌السؤال العاشر: عدمُ التأثير:

- ‌تنبيهان:

- ‌السؤال الحادي عشر: التركيب:

- ‌السؤال الثاني عشر: القول بالموجب:

- ‌تنبيهان:

- ‌ التقليد)

- ‌ ترتيب الأدلة

- ‌الترجيح

- ‌ الترجيح: بأمرٍ يعودُ إلى المتن

- ‌ النكرة في سياق النفي

- ‌العامُّ الذي لم يدخله تخصيصٌ مقدم على العامِّ الذي دخله تخصيصٌ

- ‌ الترجيح بين علل المعاني

- ‌ الترجيح بين المرجحات

- ‌ المرجحات يستحيل حصرها

- ‌مسائل كتاب الاستدلال

الفصل: ‌ تعارض الجرح والتعديل

وروي عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث صالح المري؟ فقال: وما تصنع بصالح؟ ذكروه يومًا عند حماد بن سلمة فامتخط حماد.

وأشباه هذا كثيرة.

ولأجل هذا احتج الشيخان في صحيحيهما بجماعة سبق من غيرهما تجريحهم، فلم يقبلوا ذلك التجريح لعدم بيان السبب.

ومن أمثلة ذلك روايةُ البخاري عن عكرمة وعمرو بن مرزوق، وروايةُ مسلم عن سويد بن سعيد وغيره.

قال العراقي في ألفيته:

وربما رد الكلام الجارح

كالنَّسَئِي في أحمد بن صالح

قال المؤلف

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(أمَّا إذا‌

‌ تعارض الجرحُ والتعديل

قدَّمنا الجرح. .) الخ.

خلا ما ذكره في هذا المبحث: أنَّ الجرح إذا تعارض مع التعديل قدِّم الجرح؛ لأنَّ المجرِّح اطَّلع على أمر خفي على المعدِّل، هذا إن تساوى عدد المجرِّحين والمعدِّلين، أو كان المجرِّحون أكثر.

فإن كان المعدِّلون أكثر من المجرِّحين، فكذلك على الصحيح؛ لأنَّ سبب تقديم الجرح علم المجرِّح بما خفي على المعدِّل، وذلك لا

(1)

(1/ 398).

ص: 188

ينتفي بكثرة عدد المعدِّلين. وقيل: قُدِّم التعديلُ؛ للكثرة، وهو ضعيف.

هذا حاصل كلامه.

وتحقيق المقام في هذه المسألة أنَّ المجرِّحين إن كانوا أكثر فالتجريح مقدم إجماعًا، فإن تساوى عدد المجرِّحين والمعدِّلين أو كان المعدِّلون أكثر فكذلك على الصحيح، وقيل بالترجيح فيهما.

وأسباب الترجيح ستأتي إن شاء اللَّه تعالى في آخر الكتاب.

وأشار في "المراقي" إلى هذه المسألة بقوله:

والجرح قدم باتفاق أبدا

إن كان من جرَّح أعلى عددا

وغيرُه كهو بدون مَيْنِ

وقيل بالترجيح في القسمينِ

وشذ من زعم أن التعديل يقدَّم في جميع الصور.

قال المؤلف

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(فصل

في التعديل، وذلك إمَّا بقول وإمَّا بالرواية عنه. .) الخ.

قد قدَّمنا ما ذكره في هذا المبحث مستوفى في الكلام على اشتراط العدالة، فلا حاجة إلى إعادته هنا.

وأعلى أنواعِ التزكية الشهاده له بأنه عدلٌ رضا، وإنْ لم يبين أسباب

(1)

(2/ 400).

ص: 189

ذلك.

واعلم أنَّ التحقيق قبولُ التعديل بدون بيان السبب، كما هو مذهبُ الجمهور من أصوليين ومحدِّثين.

واعلم أنَّ عدم العمل بشهادة شاهد ليس تجريحًا له، كما هو ظاهر.

قال المؤلف

(1)

رحمه اللَّه تعالى:

(فصل

والذي عليه سلفُ الأمة وجمهورُ الخلف أنَّ الصحابة رضي الله عنهم معلومةٌ عدالتُهم بتعديل اللَّه تعالى وثنائه عليهم، قال اللَّه تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة/ 100]، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح/ 18] وقال:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح/ 29]. .) الخ.

خلاصةُ ما ذكره في الفصل أنَّ الصحابة كلَّهم عدول؛ للثناء عليهم في كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا قولُ جمهور علماء المسلمين، وهو الصواب إن شاء اللَّه تعالى.

وعلى هذا فجهالةُ الصحابي لا تضرُّ لأنَّهم كلَّهم عدول.

والصحابيُّ: هو من اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ومات على ذلك.

(1)

(2/ 403).

ص: 190

والصحبة تثبتُ بقوله عن نفسه: إنَّه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، إنْ كان أدرك عصره، وكذلك تثبتُ بقول غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

هذا حاصل كلامه رحمه الله.

وخالف جماعة، فقالوا: لا تثبتُ العدالةُ إلا لخصوص الذين لازموه صلى الله عليه وسلم، واهتدَوْا بهديه، أمَّا من رآهُ مرة مثلًا ثم فارقه، فلا تثبتُ له العدالة بذلك.

وممَّن اختار هذا التفصيل المازريُّ في شرح "البرهان" لإمام الحرمين، والقرافي، وغيرهما.

والصواب -إن شاء اللَّه تعالى- هو مذهبُ الجمهور، وأنهم كلُّهم عدولٌ رضي الله عنهم وأرضاهم، سواء لازموه أو اجتمعوا به وذهبوا.

وقد أطبقَ العلماءُ على قبول رواية وائل بن حُجر، ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص الثقفي، وغيرهم، ممَّن اشتهرتْ صحبتُهم وروايتُهم عنه صلى الله عليه وسلم، مع أنَّهم وفدُوا إليه، واجتمعُوا به صلى الله عليه وسلم، ورجعُوا إلى أهليهم، ولم يلازموه.

وقال ابنُ حجر في مقدمة "الإصابة": اتفق أهل السنة على أنَّ الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة.

وذكر الخطيبُ في "الكفاية" فصلًا نفيسًا في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل اللَّه لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 110]، وقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

ص: 191

[البقرة/ 143]، وقوله {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح/ 18]، وقوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة/ 100]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال/ 64]، وقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} إلى قوله: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر/ 8 - 10].

في آيات كثيرة يطول ذكرُها، وأحاديث كثيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل اللَّه إلى تعديل أحدٍ من الخلق، على أنه لو لم يرد من اللَّه ورسوله فيهم شيء ممَّا ذكرناه، لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطعَ بتعديلهم.

إلى أن قال: والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة، ومن أدلَّها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مغفَّل قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّه اللَّه في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا، فمن أحبَّهم فبحبي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذى اللَّه، ومَنْ آذى اللَّه فسيوشك أنْ يأخذه".

وقال أبو محمد بن حزم: الصحابةُ كلُّهم من أهل الجنة قطعًا، قال اللَّه تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً

ص: 192

مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد/ 10]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء/ 101]؛ فثبت أنَّ الجميع من أهل الجنَّة، وأنَّه لا يدخلُ أحد منهم النار؛ لأنَّهم هم المخاطبون بالآية السابقة.

فإنْ قيل: التقييد بالإنفاق والقتال يُخرج من لم يتصف بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في قوله:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة/ 100] يخرج من لم يتصف بذلك.

فالجواب أنَّ التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب، وإلا فالمرادُ من اتصف بالإنفاق بالفعل أو القوة. انتهى منه مع حذف واختصارٍ غير مخل بالمقصود.

وأشار في "مراقي السعود" إلى مسألة عدالة الصحابي جامعًا معها الفرق بين الرواية والشهادة بقوله:

شهادةُ الأخبار عمَّا خصَّ إنْ

فيه ترافع إلى القاضي زُكِنْ

وغيرُه رواية والصحب

تعديلُهم كلٌّ إليه يصبو

واختار في الملازمين دون مَنْ

رآه مرةً إمامٌ مؤتمن

ومراده بالإمام المؤتمن القرافي، وقد سبقه إلى ذلك القول المازريُّ وغيره، كما تقدم.

فالحاصلُ أنَّ الحق الذي عليه من يعتدُّ به من المسلمين أنَّ الصحابة كلَّهم محكوم لهم بالعدالة، ولا يبحثُ عن عدالة أحد منهم،

ص: 193

وليسوا معصومين، فمن ثبت عليه في خصوصه قادح ثبوتًا واضحًا لا مطعن فيه، عُمِلَ به، وقد ارتد بعضهم كعبيد اللَّه بن جحش الذي كان زوج أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة رضي الله عنها، والرِّدة أعظم من ارتكاب كبيرة توجب الفسق، وقد مات والعياذ باللَّه على ردته متنصِّرًا.

قال المؤلف

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(فصل

المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة، فلا يرد خبره؛ لأن نقصان العدد ليس من فعله، ولهذا روى الناس عن أبي بكرة، واتفقوا على ذلك، وهو محدود في القذف، وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايتُه حتى يتوب).

حاصل ما ذكر في هذا الفصل أن في إبطال الرواية بالحد في القذف تفصيلًا:

فإنْ كان المحدودُ شاهدًا عند الحاكم بأن فلانًا زنى، وحُدَّ لعدم كمال الأربعةِ، فهذا لا تردُّ به روايتُه؛ لأنَّه إنما حُدَّ لعدم كمالِ نصاب الشهادة في الزنا، وذلك ليس من فعله، وإن كان القذف ليس بصيغة الشهادة كقوله لعفيف: يا زاني، ويا عاهر، ونحوِ ذلك، بطلت روايتُه حتى يتوب، أي ويُصْلِح، بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا

(1)

(2/ 405).

ص: 194

وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور/ 4 - 5].

واستدل المؤلفُ رحمه الله لما ذكره من الفرق بين الحدِّ على سبيل القذف، والحدِّ على سبيل عدم كمال النصابِ في الشهادة، بقصة أبي بكرة؛ لأنه متفق على قبول روايته، مع أنَّه محدود في شهادته على المغيرة بن شعبةَ الثقفي بالزنا، والشهادةُ في هذا ليست كالرواية، فلا تُقْبَلُ شهادة المحدود في قذفٍ أو شهادةٍ حتى يتوب ويصلح، بدليلِ قول عمرَ لأبي بكرة:"تُبْ أَقبل شهادتك"، خلافًا لمن جعل شهادته كروايتهِ فلا تُردُّ، وهو محكيٌّ عن الشافعي.

والحاصلُ أنَّ القاذفَ بالشتمِ تردُّ شهادتُه وروايتُه بلا خلافٍ حتى بتوب ويُصْلح، والمحدود في الشهادةِ لعدمِ كمالِ النصابِ تقبلُ روايتُه دون شهادته، وقيل: تقبلُ شهادتُه وروايتُه.

وقصةُ أبي بكرةَ المشارُ إليها أنه شهد على المغيرة بن شعبةَ بالزِّنا، هو وأخوه زياد ونافع بن الحارثِ وشبل بن معبد

(1)

، فتلكأ زياد أو غيرُه في الشهادة، فجلد عمر الثلاثةَ المذكورين.

قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-:

يظهرُ لنا في هذه القصةِ أن المرأةَ التي رأوا المغيرةَ رضي الله عنه مخالطًا لها عندما فتحت الريح الباب عنهما إنَّما هي زوجتُه، ولا يعرفونها، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على

(1)

وقع في المطبوع: سعيد بن سهيل، وهو خطأ، والإصلاح من مصادر القصة.

ص: 195

المغيرة وغيره من الأمراء، فظنُّوا أنها هي، فهم لم يقصدُوا باطلًا، ولكنَّ ظنَّهم أخطأَ، وهو لم يقترف إن شاء اللَّه فاحشة، لأنَّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازعُ الدينيُّ الزاجرُ عمَّا لا ينبغي في أغلب الأحوال، والعلمُ عند اللَّه تعالى.

قال المؤلف

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(فصل

في كيفية الرواية، وهي على أربع مراتب. .) الخ.

خلاصةُ ما ذكره في هذا الفصل أنَّ كيفية الروايةِ -يعنى الرواية عن غير النبيَّ صلى الله عليه وسلم، بدليل ما تقدم- على أربع مراتب.

الأولى، وهي أعلاها عند المؤلف: قراءةُ الشيخ عليه في معرض الإخبار، ليروي عنه، وذلك يسوغُ للراوي أنَّ يقول حدَّثني، وأخبرني، وسمعته يقول، وقال كذا، ونحو ذلك من صيغ الأداء.

المرتبة الثانية: أن يقرأَ على الشيخِ فيقول: نعم، أو يسكت، فتجوزُ الروايةُ به، خلافا لبعض أهلِ الظاهرِ القائل بأنه لابد من إقرار الشيخِ نطقًا، ولا يكفي سكوتُه، لأنَّ الساكتَ لا يُنسبُ إليه قول عندهم، واستدلاله -أيضًا- بظاهر قوله:{أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران/ 81].

والجمهور على قبول الرواية ولو سكتَ، لأنَّ عدالته تمنعه من أن

(1)

(2/ 406).

ص: 196

يسكت مع علمه بعدم صحةِ ما يقرأُ عليه، ما لم تكن هناك مخيلة إكراه، أو غفلة، ونحو ذلك، فلا يكتفى بسكوته.

وهذه المرتبةُ الثانيةُ تسوغُ للراوي أن يقول: أنبأنا، وحدَّثنا فلانٌ قراءةً عليه.

وهل يجوزُ الاقتصارُ على حدثنا فلانٌ، دون ذكره قراءةً عليه؟

فيه روايتان:

إحداهما: يجوزُ ذلك. وعزاه المؤلف لأكثر الفقهاء.

والأخرى: لا يجوزُ ذلك، كما لا يجوز سمعت من فلان في ذلك.

وهل يجوز للراوي أنْ يُبْدِلَ قوله، شيخه "حدثنا" بأخبرنا، أو عكسه؟ فيه روايتان أيضًا بالجوازِ والمنع.

ووجه القولِ بجواز ذلك اتحادُ اللفظين في المعنى لغةً.

ووجه المنع من ذلك اختلاف مقتضى اللفظين عند المحدِّثين، لأنهم يخصُّون "حدَّثنا" بما سُمع من لفظ الشيخ، و"أخبرنا" يصلحُ عندهم لذلك أيضًا ولما قُرئ على الشيخ فأقرَّ به، فالإخبارُ عندهم أعمُّ من التحديث.

المرتبة الثالثة: الإجازة، وهي أربعة أنواع:

الأول: الإجازةُ لمعيَّن في معيَّن، "كقوله: أجزت لك أو لكم أنْ تروي، أو ترووا عني الكتاب الفلاني.

ص: 197

الثاني: الإجازةُ لمعيَّن في غير معيَّن، كقوله: أجزتُ لك، أو لكم أنْ ترووا عني جميع مروياتي.

الثالث: الإجازةُ لغير معيَّن في معيَّن، كأنْ يقولَ: أجزتُ للمسلمين أنْ يرووا عني الكتاب الفلاني.

الرابع: الإجازة لغير معيَّن في غيرِ معيَّن، كأنْ يقولَ: أجزت للمسلمين أنْ يرووا عنِّي جميع مروياتي.

وجمهورُ أهل العلم على جواز الرواية والعمل بالإجازة، واستقر عليه عملُ عامة أهل العلم، وحكى الإجماع على ذلك أبو الوليد الباجي وعياضُ من المالكية.

ومنع الروايةَ بالإجازة والعمل بها جماعةٌ من الطوائف، ممَّن روى عنه ذلك شعبةُ بنُ الحجاجِ، قائلا: لو جازتْ الإجازةُ لبطلت الرحلة، وإبراهيم الحربي، وأبو نصر الوائلي، وأبو الشيخ الأصبهاني. ومِمَّن قال بذلك من الفقهاء القاضي حسين، والماوردي، وأبو بكر الخجندي الشافعي، وأبو طاهر الدبَّاس الحنفي، وهذا هو إحدى الروايتين عن الشافعي، وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك، وقال ابن حزم: إنها بدعة غيرُ جائزة.

وفيها أقوال آخر غيرُ ما ذكرنا، بالتفصيل بين أنواع الإجازة، مذكورة في الأصول وعلوم الحديث.

والحقُّ جواز الرواية بالإجازة، كما عليه الجمهور.

ص: 198