الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو معترض؛ لأنَّه لا يشمَلُ النسخَ قبل التمكن من الفعل.
واعلم أنَّ حدَّ المعتزلةِ للنسخ الذي ذكره المؤلف باطل، فلا حاجة له.
وما أوردَ من الاعتراضاتِ على حدِّ النسخِ الذي ذكرنا بأنه رفع الحكم، كلُّه ساقطٌ، والحدُّ صحيح.
واعلم أنَّ النسخَ لا يلزمُه البداء الذي هو الرأي المتجدد، لأنَّ اللَّه يشرع الحكم الأولَ وهو يعلمُ أنه سينسخه في الوقتِ الذي تزول مصلحتُه فيه وتصير المصلحةُ في الناسِخ، فإذا جاءَ ذلك الوقتُ نَسخَ الحكم الأول وعوَّضَ منه الحكمَ الناسخ على وَفْقِ ما سبقَ في علمه أنَّه سيفعله، كما أنَّ المرض بعد الصحة، وعكسه، والموتَ بعد الحياة، وعكسه، والفقر بعد الغنى، وعكسه، ونحو ذلك، ليس فيه بداءٌ؛ لسبقِ علمه تعالى بأنَّه سيفعل ذلك في وقته، كما هو ظاهر.
قال المؤلف
(1)
:
(فإن قيل: فما
الفرق بين النسخ والتخصيص
. . .) إلى آخره.
اعلم أنَّ السلف يطلقون اسم النسخ على ما يطلقه عليه الأصوليون، وعلى التخصيص والتقييد، فالجميع يسمونه نسخًا كما نبَّه عليه غير واحد.
وأمَّا الأصوليون فلا يطلقون النسخ على التخصيص، ولا
(1)
(1/ 289).
التخصيص على النسخ، وحد النسخ عندهم هو ما تقدَّم.
وحدُّ التخصيص في اصطلاحهم هو: قصر العام على بعض أفراده بدليل يقتضي ذلك، كما سيأتي إن شاء اللَّه.
وبتعريف كل منهما يظهر الفرق، وذكر المؤلف الفرق بينهما من سبعة أوجه:
الأول: أنَّ التخصيص بيان أنَّ المخصوص غير مراد باللفظ، والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه.
وإيضاحه: أنَّ مثل قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} [العنكبوت/ 14] ظاهره أنَّها ألف كاملة، لكن قوله:{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} بين أنَّ هذه الخمسين غير مراد دخولها في الألف، وأن المراد بالألف تسعمائة وخمسون، بدليل قوله:{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ، وهذا المثال بناء على أن الاستثناء بِـ "إلَّا" ونحوها من العدد تخصيص، وهو قول الأكثر، كما أشار إليه في "المراقي" بقوله:
وعدد مع كـ "إلا" قد وجب
…
له الخصوص عند جلَّ من ذهب
بخلاف النسخ، فالذي يرفعه الناسخ كان قبل النسخ مقصودًا دخولُه في معنى اللفظ وفي الحكم، كما هو واضح.
الثاني: أنَّ النسخ يشترط تراخيه كما تقدم، بخلاف التخصيص فإنه يجوز اقترانه، وربما لزم، كالتخصيص بالشرط والصفة والغاية والاستثناء وبدل البعض من الكل، كما يأتي إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى في مبحث المخصِّصات.
الثالث: أنَّ النسخ يدخل في الشيء الواحد، كنسخ استقبال بيت المقدس ببيت اللَّه الحرام، فالمنسوخ شيء واحد، بخلاف التخصيص فلا يدخل إلا في عام له أفراد متعددة يخرج بعضها بالمخصِّص، ويبقى بعضها الآخر.
الرابع: أنَّ النسخ لا يكون إلا بخطاب جديد، والتخصيص قد يقع بغير خطاب، كالتخصيص بالقياس وبالعقل وبالعرف المقارن للخطاب، وغير ذلك كما سيأتي إيضاحُه في مبحث المخصِّصات المنفصلة.
الخامس: أنَّ النسخ لا يدخل الأخبار، وإنما هو في الإنشاء فقط، بخلاف التخصيص فإنَّه يكون في الإنشاء وفي الخبر.
السادس: أنَّ النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته، والتخصيص لا ينتفي معه ذلك.
إيضاحه: أنَّ مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة/ 240] لمَّا نُسِخَ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [البقرة/ 234] لم تبق دلالةُ الآية الأولى على الحول في العدَّة مقصودة في المستقبل بعد ورود الناسخ بخلاف التخصيص.
وسيأتي أن التحقيق عند متأخري الأصوليين أنَّ العام المخصوص يراد فيه شمول جميع الأفراد من حيث تناول اللفظ لها، دون الحكم لها، لوجود المخصص، أمَّا العام المراد به الخصوص، فالأفراد
الخارجة بالمخصص لم ترد فيه تناولًا ولا حكمًا، كما يأتي إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى.
السابع: أنَّ المتواتر لا يُنسخ بالآحاد بخلاف التخصيص، فإنَّ المتواتر يخصَّص بالآحاد، لأنَّ النسخ رفع والتخصيص بيان، فقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24] متواتر، خُصِّصَ عمومه بحديث "لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها" وهو آحاد.
وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء/ 11] خُصِّص بقوله: "إنا معاشر الأنبباء لا نورث" الحديث، وهو آحاد.
وأمثلته كثيرة، وسيأتي في مبحث التخصيص كثير منها إن شاء اللَّه تعالى.
وأشارَ في "المراقى" إلى جواز بيان المتواتر بالآحاد، وبيان المنطوق بالمفهوم بقوله:
وبين القاصر من حيث السند
…
أو الدلالة على ما يعتمد
تنبيه:
اعلم أنَّ التخصيص إن لم يرد فيه المخصِّص -بالكسر- إلا بعد العمل بالعام، والتقييد إن لم يرد فيه المقيِّد -بالكسر- إلا بعد العمل بالمطلق، فكلاهما حينئذ نسخ، ولا يجوز أن يكون تخصيصًا وتقييدًا؛ لأنَّ التخصيص والتقييد بيان، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل، فلمَّا تأخر عن وقته تعين كونه نسخًا، وأشار إلى ذلك في "المراقي" في الأول بقوله:
وإن أتى ما خَصَّ بعد العملِ
…
نَسَخَ والغيرُ مخصِّصًا جلي
وفي الثاني بقوله:
وإن يكن تأخر المقيد
…
عن عمل فالنسخ فيه يعهد
قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(فصل
وقد أنكر قوم النسخ، وهو فاسد. . .) إلى آخره.
لا شكَّ أنَّ إنكار النَّسخ فاسد، وأن النسخ جائز عقلًا، كما قدمنا أنَّه لا يلزمُه البداء، وواقع شرعًا، والدليل قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة/ 106]، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل/ 101].
وإنكار أبي مسلم الأصفهاني له معناه أنَّه يميل إلى أنَّه تخصيص في الزمن، لا رافع للحكم، كما تقدمت الإشارة إليه.
قال المؤلف
(2)
:
(فصل
يجوز نسخ تلاوة الآية دون حكمها، ونسخُ حكمها دون تلاوتها، ونسخهما معًا).
(1)
(1/ 292).
(2)
(1/ 294).
معنى كلامه ظاهر.
ومثال نسخ التلاوة دون الحكم: نسخ تلاوة آية الرجم وبقاء حكمها، وهي قوله تعالى:{والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم} قيل: كانت هذه الآية من براءة، وقيل: من الأحزاب.
ومنه: نسخ تلاوة آية (خمس رضعات) عند الشافعي ومن وافقه.
ومثال نسخ الحكم دون التلاوة: آية العدة المذكورة آنفًا. وهو أغلب ما في القرآن من النسخ.
ومثال نسخهما معًا: نسخ آية (عشر رضعات)، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن".
تنبيه:
يتوجه على هذا الذي ذكر في هذا البحث ثلاثة أسئلة:
الأول: أن يقال: كيف ساغ نسخ الحكم دون التلاوة مع أن التلاوة دليل الحكم، فكيف يرفع المدلولُ مع بقاء دليله؛ لأنَّ هذا يلزمه الدليل بلا مدلولى وهو محال، إذ لا تعقل الدلالة بدون مدلول؟
الثاني: أن يقال: تقدَّم في حد النسخ أنه رفع الحكم. . . إلى آخره، فكيف يدخل نسخ التلاوة مع بقاء الحكم؛ لأنَّ الحكم فيه لم يرفع؟
الثالث: أن يقال: ما حكمة نسخ اللفظ مع أنه إنما نزل ليُتلى ويُثاب عليه، فكيف يرفع، إذ رفعه يقتضي انتفاء حكمته؟
الجواب عن السؤال الأول: هو أنا لا نُسَلِّمُ كون اللفظ دليلًا على الحكم بعد نسخ الحكم، بل هو إنَّما يكون دليلًا عليه عند انفكاكه عمَّا يرفع حكمه، فإذا جاء الخطاب الناسخُ لحكمه زالت دلالته على الحكم بالكلية، كما قدمنا في الفوارق بين النسخ والتخصيص.
وإيضاحه: أن الحكم الشرعي المنسوخ مع بقاء اللفظ الدال عليه سابقًا، وتلاوة ذلك اللفظ، وكتابته في القرآن، وانعقاد الصلاة به، كلها أحكامٌ شرعية مع أحكام ذلك اللفظ، وكل حكم شرعي فهو قابل للنسخ.
قال في "المراقي":
وكل حكم قابل له وفي
…
نفي الوقوع لاتفاق قد قفي
وإذا عرفت ذلك عرفت أنه لا مانع من نسخ بعض أحكام اللفظ كالتحريم، والوجوب المفهوم منه، مع بقاء أحكام أخر من أحكامه لم تنسخ، كالتعبد به وإجزائه في الصلاة ونحو ذلك.
فآية الاعتداد بحولٍ -مثلًا- نُسِخَ ما دلَّت عليه من إيجاب تربص الحول على المتوفى عنها، وبقيتْ أحكام أخر من أحكامها لم تنسخ، وهي قراءتها في الصلاة، وكتابتها مع القرآن في المصحف. وهو واضح كما ترى.
والجواب عن السؤال الثاني: هو أنَّ نسخ التلاوة فقط معناه نسخُ
التعبد بلفظه والصلاة به وكتبه مع القرآن في المصحف، وهذه أحكام من أحكامه، فلا مانع من نسخها مع بقاء حكم آخر لم ينسخ، وهو ما دل عليه اللفظ، فآية الرجم -مثلًا- لا مانع من نسخ التعبد بها والصلاة بها، وكتبها في المصحف، مع بقاء حكم آخر من أحكامها لم ينسخ، وهو رجم الزانيين المحصنين، كما تقدَّم مثله.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قولهم: هذا منسوخ تلاوة لا حكمًا؛ لأنَّه يفهم منه أن نسخ التلاوة منافٍ لنسخ الحكم؟
فالجواب: أنَّ الحكم المنفي عنه النسخ في قولهم (لا حكمًا) غير الحكم المثبت له النسخ بنسخ التلاوة؛ لأنَّها أحكام قد نسخ بعضها دون بعض كما تقدم قريبًا.
والجواب عن السؤال الثالث: هو أنه لا مانع من أن يكون أصل المقصود من المنسوخ تلاوة لا حكمًا إنَّما هو الحكم دون التلاوة، لكنه أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلفظ معين ليثبت به الحكم وليستقر، والحال أنه هو المقصود فلا مانع من نسخ اللفظ؛ لأن المقصود هو مجرد الحكم.
فإن قيل: فإن جاز نسخ التلاوة فلينسخ الحكمُ معها، لأنَّ الحكم تبع للتلاوة، فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل؟
فالجواب: أن التلاوة حكم، وانعقاد الصلاة بها حكم آخر، ودلالتها على ما دلَّتْ عليه حكم آخر، فلا يلزم من نسخ التعبد بها وعدم الصلاة بها نسخ حكمها الذي دلَّت عليه، فكم من دليل لا يتلى ولا