الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّه تعالى.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل ترجيح المعاني)
يعنى بذلك
الترجيح بين علل المعاني
.
ثم قال: (قال أصحابنُا: إنَّ العلةَ ترجحُ بما يرجحُ به الخبرُ، مِنْ موافقتِها لدليلٍ آخر مِن كتابٍ، أو سنةٍ، أو قولِ صحابيٍّ، أو خبرٍ مرسلٍ).
ومن أمثلة ذلك: قولُ المالكيِّ: علة تحريم الربا في البرِّ الاقتياتُ والادخار، مع قول الشافعيِّ: علةُ الربا فيه الطعمُ؛ لأنَّ علة الشافعيِّ هنا قد ترجح بموافقتها لحديث معمر بنِ عبد اللَّه في صحيح مسلم: كنت أسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعامُ بالطعامِ مثلًا بمثل. . . " الحديث.
وقصدُنا مطلق المثال لا مناقشة الأقوال.
والشأنُ لا يعترضُ المثالُ
…
إذ قد كفى الفرضُ والاحتمالُ
وترجح العلة أيضًا بكونها ناقلةً عن الأصل، كالخبر.
فقولُه في حديث عدم نقض الوضوء بمس الذكر: "هل هو إلا
(1)
(3/ 1039).
بضعةٌ منكَ؟ " علةٌ في عدم نقض الوضوء بذلك؛ إذ لا ينقض الوضوء بمسِّ عضوٍ لعضوٍ من إنسانٍ واحدٍ.
وحديث "مَنْ مسَّ ذكرَه فليتوضأ" يدلُّ بمسلك الإيماء والتنبيه على أنَّ علة الوضوء فيه مسُّ الذكر؛ فهذه العلة ناقلة عن الأصل، والعلة المقتضية البقاء على الأصل في عدم وجوب الوضوء التي هي "وهل هو إلا بضعة منك؟ " موافقة للبراءة الأصلية، فتقدَّم عليها الناقلة عن الأصل، فيجب الوضوء من مسِّ الذكر.
وهذان الحديثان صالحان لمثالِ الحكم الناقلِ عن الأصل، والعلة الناقلة عن الأصل، معًا، ولذا مثَّلنا لهما بهما.
ثم ذكر المؤلفُ
(1)
رحمه الله أنَّه إذا تعارضت علتان إحداهما حاظرةٌ والأخرى مبيحةٌ، أو علتان إحداهما مسقطةٌ للحدِّ والأخرى موجبةٌ له، أو علتان إحداهما موجبةٌ للعتق والأخرى نافيةٌ له، فقد اختلف أهل العلم في ترجيح الحاظرة، والمسقطة للحدِّ، والموجبة للعتق، على مقابلاتها.
فرجَّح بذلك قومٌ، احتياطًا للحظر، ونفي الحدِّ، ولأنَّ الخطأ في نفي هذه الأحكامِ أسهلُ من الخطإ في إثباتها.
ومنع آخرون الترجيح بذلك، مِنْ حيث إنَّهما حكمان شرعيان فيستويان، ولأنَّ سائرَ العلل لا ترجحُ بأحكامها، فكذا هنا.
(1)
(3/ 1040).
هكذا قال المؤلف.
ثم ذكر أنَّ كلَّ هذه الترجيحاتِ مع الاختلاف فيها ضعيفةٌ.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
الذي يظهر لي أنَّ العلة الحاظرة مغ غير الحاظرة، كالنصِّ الحاظر مع غيره، إلى آخره، فالأظهر إجراءُ العلل في الترجيحِ بما ذكر مجرى أحكامها، لأنَّ الجميع أدلةٌ.
والأظهر -عندي- تقديم الحاظر على المبيح؛ لأنَّ ترك مباح أهون من ارتكاب حرامٍ. وتقديم المقتضية لنفي الحدِّ؛ لأنَّ الخلاف شبهةٌ، والحدودُ تدرأُ بالشبهات، كما عليه جماعةٌ من الأصوليين، ما لم يقم مرجحٌ آخر أقوى يترجحُ به جانب الحدِّ. وأنَّ الموجبة للحرية أرجح؛ لشدة تشوُّف الشارع للحرية وترغيبه فيها، ما لم يقم مرجحٌ آخر أقوى يترجح به جانب الرقِّ.
ثم ذكر المؤلف
(1)
أنَّه إن تعارضت علتان إحداهما أخف حكمًا؛ والأخرى أثقل حكمًا أنَّ قومًا رجحوا التي هي أخف حكمًا، لأنَّ الشريعة خفيفة مرفوع فيها الحرج، وأنَّه قال آخرون بالعكس؛ لأنَّ الحقَّ ثقيلٌ.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
لا يمكنُ الحكم مطلقًا في هذه المسألة؛ لأنَّ التخفيف يكون
(1)
(3/ 1040).
أرجح تارة، والتثقيل يكون أرجح أخرى.
وممَّا يوضح ذلك أنَّ اللَّه تعالى قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106]، ولا خلاف أنَّه تارة ينسخ الأثقل بالأخف لأنَّ الأخف خير في ذلك المحلِّ، وتارة ينسخ الأخف بالأثقل لأنَّ الأثقل خير في ذلك المحلّ؛ كما أوضحناه في النسخ.
ثم ذكر المؤلف أنَّه إن كانت علتان إحداهما حكم شرعيٌّ، والآخر وصف حسيٌّ، ككونه مسكرًا أو قوتًا، أنَّ القاضي اختار ترجيح الحسِّية، وأن أبا الخطاب مال إلى ترجيح الحكمية، وذكر ما رجح به كلٌّ منهما قوله، وقد تركنا ذكره لعدم اتجاه شيء منه عندنا.
ثم قال المؤلف
(1)
: (وقيل: هذا كله ترجيح ضعيف).
وقد صدق من قال ذلك. واللَّه أعلم.
والمالكية ومن وافقهم يرجحون العلة التي هي وصف حسيٌّ على التي هي حكم شرعي.
ووجه ترجيحهم لها أنَّها ألزم للمحلِّ منها. ولا يخفى عدم ظهوره كما ترى.
ثم ذكر المؤلف عن أبي الخطاب أنَّه ذكر ترجيح العلة التي هي أقلُّ أوصافًا على التي هي أكثر أوصافًا، ووجَّه ذلك بمشابهتها العلة العقلية، وبأنَّ ذلك أجرى على الأصول.
(1)
(3/ 1041).
ولا يخفى ضعف هذا التوجيه -أيضًا-.
ووجَّه المالكية ومن وافقهم ترجيح العلة التي هي أقلُّ أوصافًا على التي هي أكثر أوصافًا بأنَّ تطرق البطلان أقل في التي هي أقلُّ أوصافًا؛ لأنَّ المركب يسرى إليه البطلان ببطلان كلِّ واحد من أوصافه، فاحتمال البطلان في كثيرة الأوصاف أكثر منه في قليلة الأوصاف.
ويُفْهَمُ منه أنَّ غير المركبة -أعني العلة التي هي وصف واحد- تقدم على المركبة من وصفين فأكثر -على ما ذكرنا-؛ لأن تطرق الخلل للمتعدد أقوى احتمالًا من تطرقه لغير المتعدد، كما كان أقوى احتمالًا في الأكثر أوصافًا من الأقلِّ أوصافًا.
وقال بعضهم: إنَّ العلة التي هي أكثر أوصافا مقدَّمةٌ على العلة التي هي أقلُّ أوصافًا؛ لأنَّ كثرة أوصاف العلة الجامعة بين الفرع والأصل تدلُّ على كثرة الشبه بينهما.
وقد قدمنا الكلام في القياس على العلة المركبة وغيرها.
ثم ذكر عن أبي الخطاب أنَّه ذكر ترجيح العلة بكثرة فروعها وعمومها، قال
(1)
: (ثم اختار التسوية وأنَّ هذين لا يرجح بهما؛ لأنَّ العلتين سواء في إفادتهما حكمهما وسلامتهما من الفساد، ومتى صحَّت لم يلتفت إلى كثرة فروعها، ولا كثرة أوصافها).
ومثال ترجيح التي هي أقل أوصافًا على التي هي أكثر أوصافًا:
(1)
(3/ 1042).
ترجيحُ علة الحنفي والحنبلي في تحريم الربا بالكيل؛ لأنَّ الكيل وصفٌ واحدٌ = على علة المالكية تحريم الربا في البرِّ المركبة من أكثر من وصف وهي: الاقتيات والادخار وغلبة العيش، على خلافٍ في الوصف الأخير.
ومثال الترجيح بكثرة فروعها: الكيل -أيضًا- مع الاقتيات والادخار؟ لأنَّ المكيلات أكثر من المقتات المدَّخر، فالكيل تحته فروع كثيرة، كالنُّورة، والأشنان، ونحو ذلك، لم تدخل في الاقتيات والادخار، فهو أكثر فروعًا.
واعلم أنَّ الترجيح بكثرة الفروع مبنيٌّ على ترجيح العلة المتعدية على القاصرة، فالمتعدية التي هي أكثر فروعًا ترجح على المتعدية التي هي أقلُّ فروعًا، وعلى العكس بالعكس.
وقد مثَّلنا -سابقًا- لتقديم المتعدية على القاصرة.
ومن أمثلته: تعليل بعضهم منع الربا في النقدين بالوزن، فالوزن علة متعدية إلى غيرهما كالحديد والنحاس، مع تعليل بعضهم منع الربا فيهما بالثمنية أو النقدية، فهي قاصرةٌ عليهما.
واعلم أنَّ المؤلف ذكر عن أبي الخطاب أنَّ العلة المتعدية ترجح على القاصرة، وهو المعروف عند الأصوليين.
ثم قال
(1)
: (ومنع ذلك قومٌ، لأنَّ الفروع لا تنبئ عن قوة في ذات
(1)
(3/ 1043).
العلة بل القاصرة أوفق للنصِّ. والأول أولى، فإنَّ المتعدية متفق عليها، والقاصرة مختلف فيها).
ولا يخفى أنَّ المؤلف قد قدَّم في القياس أنَّ العلة القاصرة مردودة لا يصحُّ التعليل بها أصلًا، واستدلَّ لذلك بأمور -كما أوضحناه هنالك، وبيَّنا الصواب فيه-.
وما ذكرنا عن المؤلف أنَّه ذكر عن أبي الخطاب من ترجيح العلة بعمومها، معناه: أنَّ العلة العامة في جميع أفراد أصلها، أعني الشاملة لجميعها بوجودها في جميعها، مقدَّمةٌ على ما ليست كذلك.
ومثَّل له بعضهم بتعليل الشافعيِّ منع الربا في البرِّ بالطعم، مع تعليل الحنفيِّ بالكيل، فالطعمُ موجود في جميع البرِّ على كل حال من أحواله قليلًا كان أو كثيرًا، بخلاف الكيل، فلا يوجد في ملء كفٍّ من البر، فعلة الطعم عامةٌ في جميع أفراد الأصل بخلاف علة الكيل.
والقصدُ مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.
ثم ذكر
(1)
عن أبي الخطاب ترجيح العلة المنتزعة من أصولٍ على المنتزعة من أصلٍ واحد؛ لأنَّ الأصول شواهد للصحة، وما كثرت شواهدُه كان أقوى في إثارة غلبة الظنِّ.
قصورُ كلامه هذا ظاهرٌ.
ومثَّل له بعضهم بقياس الوضوء في وجوب النية وعدم وجوبها،
(1)
(3/ 1042).
فإنَّ الذي يقول بعدم وجوب النية فيه يقيسه على وصفٍ منتزع من أصل واحد، وهو أنَّه تنظيفٌ لا تلزم فيه النيةُ كطهارة الخبث. وطهارةُ الخبث التي قاس علمها الوضوء أصلٌ واحدٌ.
أمَّا القائل بوجوب النية فيه، فيقول: هو قربةٌ، فتجب فيه النية، كالصلاة والصوم والحج ونحو ذلك من القرب، فهذه أصولٌ كثيرة، وذلك أصلٌ واحد.
ومثَّل له بعضهم بما ورد من تضمين الغاصب، وتضمين المستعير من الغاصب.
ويستنبط من كلٍّ منهما أنَّ علة الضمان وضع اليد على مال الغير، وظاهره: ولو لغير تملكٍ.
فهما أصلان يشهدان بأن علة ضمان مال الغير وضع اليد عليه، ولو بغير تملكٍ.
قالوا: فيرجح ذلك على ما قاله أبو حنيفة من كون العلة وضع اليد بقصد التملك، وإن صحَّ استنباط ذلك من تضمينِ مُسْتَامِ السلعة.
ثم ذكر عن أبي الخطاب أنَّه رجَّح العلة المطردة المنعكسة على ما لا تنعكس، قال
(1)
: (لأنَّ الطرد والعكس دليلٌ على الصحة ابتداءً؛ لما فيه من غلبة الظنِّ، فلا أقلَّ من أنْ يصلح للترجيح).
(1)
(3/ 1043).
قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-:
وقد أوضحنا فيما مضى أنَّ الطرد في اصطلاح الأصوليين هو ملازمة العلة والحكم في الثبوت.
وقضيته: كلما وُجِدَتْ العلةُ وُجِدَ الحكمُ، وإن وُجِدَتْ العلة بدون الحكم هو المسمَّى بالنقض.
وقد قدَّمنا الكلام عليه مستوفى، هل هو قادح أو تخصيص للعلة؟
وأنَّ العكس
(1)
هو الملازمة في الانتفاء.
وقضيتُه: كلما انتفت العلة انتفى الحكم.
واختلف في القدح بعدم الانعكاس، والصواب أنَّه يقدح عند من يمنع تعدد العلل، أمَّا مع تجويز تعدد العلة فلا يقدح تخلف العكس قولًا واحدًا.
وقد علمت ممَّا قدَّمنا أنَّ العلة المنصوصة تتعدَّد بلا خلافٍ، ولا يقدح فيها تخلف العكس إجماعًا.
فلو قلت: البول علةٌ لنقض الوضوء، وهو معدومٌ من هذا الشخص، مع أنَّ وضوءه منتقض، قلنا: لثبوت نقض وضوئه بعلة أخرى غير البول، كالغائط، والنوم، والتقبيل.
وكما لو قلت: الجماع علةٌ لوجوب الغسل، وهو منتفٍ عن هذه
(1)
معطوف على قوله: "وقد أوضحنا فيما مضى أن الطرد. . . ".
المرأة، مع أنَّ الغسل واجب عليها، فإنَّا نقول: لثبوته بعلةٍ أخرى، وهي انقطاع دم الحيض عنها. وهكذا.
أمَّا العلل المستنبطة فهي التي اختلف في جواز تعددها، فعلى القول بجواز تعددها فتخلف العكس ليس بقادح؛ لأنَّه قد تنتفي العلة، ويثبت الحكم بأخرى.
أمَّا على القول بمنع تعددها فتخلف العكس قادحٌ ما لم يرد نصٌّ ببقاء الحكم مع تخلف العلة، كالرَّمل في الأشواط الثلاثة الأُول في طواف القدوم، فعلَّته واحدة، وهي أن يعتقد المشركون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقوياء، وأنَّهم لم تُنهكهم حمَّى يثرب، وقد زالت علة هذا الحكم مع بقائه، فتخلف العكس هنا ليس بقادح؛ لأنَّ الدليل ورد ببقاء الحكم المذكور مع زوال علته؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال علة الرَّمل التي فعل من أجلها.
وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله في القوادح:
وعدم العكس مع اتحاد
…
يقدح دونَ النصِّ بالتمادي
فإذا علمت ذلك فمثال المطردة المنعكسة: الإسكار للتحريم.
ومثال غير المطردة: العلة التي ورد عليها نقضٌ.
وقد قدَّمنا أمثلة ذلك مستوفاة.
ومثال غير المنعكسة: الكيل بالنسبة إلى ملء كفٍّ من البرِّ عند من يقول: إنَّ الربا حرامٌ فيه، مع أنَّ الكيل منتفٍ عنه لقلَّته، فقد انتفت علة
الربا، وبقي حكم الربا على هذا.
والقصدُ المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.
والمعروف عند أهل الأصول أنَّ المطردة المنعكسة مقدَّمةٌ على المطردة، والمطردة مقدَّمةٌ على المنعكسة.
وإليه أشار في "المراقي" في ترجيح العلل بقوله:
وذات الانعكاسِ واطرادِ
…
فذات الآخر بلا عناد
ثم ذكر المؤلف عن أبي الخطاب أنَّه رجَّح ما كانت علته وصفًا على ما كانت علته اسمًا بأنَّه متفق على الوصف مختلف في الاسم، فالمتفق عليه أقوى.
مثال التعليل بالوصف: تعليل الربا في البرِّ بالطعم أو الكيل.
ومثال التعليل بالاسم: تعليله فيه بكونه برًّا.
وتعليلُه في الذهب بكونه موزونًا تعليلٌ بالوصف، وتعليلُه بكونه ذهبًا تعليلٌ بالاسم. والوصف مقدَّم على الاسم.
وهذا راجع في الحقيقة إلى مسألة تعدي العلة وقصورها. واللَّه تعالى أعلم.
ثم ذكر عن أبي الخطَّاب أنَّه رجح ما كانت علتُه إثباتًا على التعليل بالنفي لهذا المعنى أيضًا.
والظاهر أنَّ مراده بهذا المعنى أن التعليل بالإثباتِ متفقٌ عليه،
وبالنفي مختلفٌ فيه، وليس ذلك على إطلاقه؛ لأنَّ تعليل النفي بالنفي لا خلاف فيه، إنَّما الخلاف في تعليل الإثبات بالنفي -كما تقدَّم-، ولا يبعد ترجيح تعليل الإثبات على النفي مطلقًا من حيث إنَّ الموجود أولى من المعدوم في الجملة، واللَّه تعالى أعلم.
ثم ذكر عن أبي الخطاب أنَّه رجَّح العلة المردودة إلى أصل قاس الشارع عليه، كقياس الحجّ على الدَّين في أنَّه لا يسقطُ بالموت، فهو أولى من قياسهم له على الصلاة، لتشبيه النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالدَّين.
وإيضاحُه: أنَّ الإنسان إذا مات ولم يحجَّ حجة الإسلام، وقد ترك مالًا، فقد قال بعض أهل العلم: يجب أن يُحَجَّ عنه من ماله؛ لأنَّ الحجَّ دينٌ في ذمته، فيجب قضاؤه عنه بعد الموت كسائر ديونه.
فقاسوا الحجَّ على دين الآدمي بجامع أنَّه مطالب بالجميع، ويسقط عنه بالأداء في الجميع، وينتفعُ بالقضاء في الجميع.
وقال بعض أهل العلم: لا يلزم الحجُّ عنه من ماله إن لم يوص به؛ لأنَّ الحجَّ عبادٌ بدنيةٌ، فتسقطٌ المطالبة بها بالموت قياسًا على الصلاة.
فيرجَّح القياس الأول بأنَّه وردت أحاديث متعددة بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الحجِّ عن الميت؟ فشبَّهه بالدَّينِ، وقال:"أرأيت لو كان على أمِّكَ دينٌ فقضيته عنها، أكان ينفعُها؟ " قالت: نعم. قال: "فدينُ اللَّه أحقُّ بالقضاء".
والحاصلُ أنَّ القياس الأول يترجَّح بأنَّ علته جَمَعَ بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك الأصل والفرع، فصارت مردودةً إلى أصلٍ قاس الشارع عليه كما
مثَّلنا.
ثم قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(ومتى كان أصل إحدى العلتين متفقًا عليه والآخر مختلفًا فيه كانت المتفق على أصلها أولى، فإنَّ قوة الأصل تؤكد قوة العلة، وكذلك ترجَّحُ كل علةٍ قَوِيَ أصلُها.
مثل أن يكون أحدهما محتملًا للنسخ والآخر لا يحتمل، أو يثبت أحدهما بخبر متواتر والآخر بآحاد، أو أحدهما ثابت بروايات كثيرةٍ والآخر برواية واحدة، أو أحدهما بنصٍّ صريح والآخر بتقدير أو إضمار).
وحاصل كلامه: أنَّ العلة ترجح بقوة حكمها، فإذا تعارضت علتان وكان ما يثبت به حكم إحداهما أقوى ممَّا يثبت به حكم الأخرى، فإنَّ قوة حكمها مرجحة لها؛ لأنَّ قوة الأصل تؤكد قوة العلة.
هكذا قال.
والأسبابُ التي تقوي أحدَ الحكمينِ على الآخرِ كثيرةٌ:
منها: أن يكونَ أحد الحكمين منصوصًا، والآخر مستنبطًا، فعلة المنصوصِ تقدم على علة المستنبطِ، كما لو قال أحد المجتهدين: الأرز يمنعُ فيه الربا قياسًا على البرِّ بجامع الكيل، وقال الآخر: الأرز
(1)
(3/ 1045).
يمنعُ فيه الربا قياسًا على الذرة بجامع الاقتيات والادخار.
فترجَّح العلة الأولى لأنَّ أصلها وهو البرُّ منصوص على تحريم الربا فيه، بخلاف الذُّرة التي هي الأصل في القياس الآخرِ فتحريم الرِّبا فيها مستنبطٌ لا منصوص.
ويمثل لهذا -أيضًا- بما إذا كان أحد الأصلين متفقًا على حكمه، والآخر مختلفًا فيه، فإنَّ تحريم الرِّبا في البرِّ مجمعٌ عليه، وتحريمه في الذُّرة خالف فيه الظاهرية.
ومنها: أن يشهد لحكمها أصلان، كما قدَّمنا في ضمان الغاصب والمستعير منه بمطلق وضع اليد، مع قول القائل: إنَّه لا بدَّ مع وضع اليد من قصد التملك.
ومرادُه بمحتمل النسخ: النصُّ، وبما لا يحتمله: الإجماعُ؛ لأنَّه لا ينسخ.
وقدَّم قومٌ العلة التي مستند حكمها النصُّ على التي مستند حكمها الإجماع؛ لأنَّ الإجماع فرع النصِّ؛ لأنَّه مستنده.
وقول المؤلف
(1)
: (أو يكونَ أحدُهما أصلًا بنفسه، والآخرُ أصلًا لآخر).
فيه تعقيدٌ، والظاهرُ أنَّ مراده المثال الذي ذكرنا في قياس الأرز على البرِّ، وقياسه على الذُّرة، لأنَّ البرَّ أصل بنفسه، والذُّرة ليست
(1)
(3/ 1045).
أصلًا مستقلًّا، وإنَّما هي أصلٌ بالنسبة إلى إلحاقها بالبرِّ، فتكون فرعًا بالنسبة إلى البرِّ، وأصلًا آخر بالنسبة إلى الأرز في المثال المذكور.
وقد قدَّمنا أنَّ مثل هذا لا يجوز عنده، وأنَّ الصحيح جوازه، فلعله مشى أولًا على منعه، وثانيًا على جوازه، كما صنع في العلة القاصرة، فإنَّه أولًا ذكر منع التعليل بها، وأخيرًا ذكر جوازه. واللَّه تعالى أعلم.
وقول المؤلف
(1)
: (أو يكون أحدهما اتفق على تعليله، والآخر اختلف فيه).
يمكن أن يمثَّل له بما لو قال أحدهما: ينبغي إزالة النجاسة عن المكان، قياسًا على إزالتها عن بدن الإنسان.
وقال الآخر: ينبغي إزالة النجاسة عن المكان، قياسًا على غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلبُ، فإنَّه لإزالةِ
(2)
ما أصابه من نجاسة لعاب الكلب.
فإنَّ الأصل الأول وهو إزالتها من البدن مجمعٌ على أنَّه معلَّل بأنَّه ينبغي إزالة الأقذار عن البدن والنظافة منها، بخلاف غسل الإناء من ولوغ الكلب فهو مختلف في كونه معللًا، فالشافعيُّ يقول: علة غسل الإناء نجاسة لعاب الكلبِ، ومالك -مثلًا- يقول: لعاب الكلب طاهرٌ وغسلُ الإناء من ولوغه تعبديٌّ، وليس معللًا أصلًا، إذ لو كان معللًا لما احتاج إلى سبعٍ، كغسل سائر النجاسات، ولأنَّ لعاب الكلب
(1)
(3/ 1045).
(2)
في الأصل المطبوع: فإن إزالة. ولعل المثبت هو الأشبه.
عنده طاهرٌ بدليل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 4] ولم يرد أمرٌ بغسلِ ما مسَّه لعابُ الكلب، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقول المؤلف
(1)
: (أو يكون أحدهما مفيدًا للنفي الأصلي. . .) الخ = تقدم إيضاحُه.
وقولُه
(2)
: (وترجح العلة المؤثرة على الملائمة، والملائمة على الغريبة).
قد قدَّمنا إيضاح المؤثر والملائم والغريب -عند المؤلف-.
أمَّا عند غير المؤلف فالغريب لا يصحُّ التعليل به -أصلًا-، فلا مدخل له في الترجيح كما تقدم.
وقولُه
(3)
: (وترجح المناسبة على الشبهية؛ لأنَّها أقوى في تغليب الظنِّ).
قد قدَّمنا إيضاح المناسب وأنواعه، والشبه وأنواعه، فراجعه إن شئت، واللَّه أعلم.
وهنا انتهى كتاب روضة الناظر.
(1)
(3/ 1045).
(2)
(3/ 1046).
(3)
(3/ 1046).