الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخفى.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
في
الأدلة التي يُخصُّ بها العمومُ
، ولا نعلمُ اختلافًا في جوازِ تخصيصِ العمومِ. . .) إلخ.
أعلم -أولًا- أنَّه رحمه الله لم يذكر تعريف التخصيص، ولا تقسيم المخصِّصِ إلى متصل ومنفصل، ونحنُ نوضحُ ذلك إن شاء اللَّه.
فالتخصيص في الاصطلاح: قصرُ العامِّ على بعضِ أفراده بدليل يدلُّ على ذلك.
وعرَّفه في "المراقي" بقوله:
قصرُ الذي عمَّ مع اعتمادِ
…
غير على بعض من الأفراد
والمخصِّصُ ينقسمُ عند أهل الأصولِ إلى متصلٍ ومنفصل:
[أ - المتصل: وهو ما لا يستقلُّ بنفسه دون العام، بل لابدَّ من مقارنته للعام. وهو خمسةُ أقسام]
(2)
:
1 -
الاستثناء: نحو: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 4 - 5]، وقوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
(1)
(2/ 721).
(2)
زيادة يقتضيها السياق. وانظر: "نثر الورود"(1/ 280).
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق/ 1].
2 -
الشرط: نحو: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء / 11]، وقوله:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور/ 33].
3 -
الصفة: نحو: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النساء/ 25]، و"في الغنم السائمة الزكاة".
4 -
الغاية: نحو: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية [البقرة/ 222]، {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة/ 235].
5 -
بدل البعضِ من الكلِّ: نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران/ 97].
وأشار في "المراقي" للتخصيص بالاستثناء بقوله في المخصص المتصل:
حروف الاستثناءِ والمضارع
…
مِنْ فعلِ الاستثنا وما يضارع
وأشار في "المراقي" للشرط بقوله:
ومنه ما كان مِن الشرط أَعِدْ
…
للكلِّ عند الجلِّ أو وفقًا تُفِدْ
أخرجْ به وإنْ على النصف سما
…
كالقومِ أكرمْ إن يكونوا كُرما
وإن ترتب على شرطين
…
شيءٌ فبالحصولِ للشرطين
وما على البدلِ قد تعلقا
…
فبحصولِ واحدٍ تحققا
وأشار للوصف بقوله:
ومنه في الإخراج والعود يرى
…
كالشرط قُلْ وصفٌ وإن قبل جرى
وأشار للغاية بقوله:
ومنه غاية عموم يشملُ
…
لو كان تصريحٌ بها لا يحصلُ
وما لتحقيقِ العمومِ فدع
…
نحو سلامٌ هي حتَّى مطلع
وهي لما قبل خلا تعود
…
وكونها لما تلي بعيد
وأشار لبدلِ البعضِ مِن الكلِّ بقوله:
وبدلُ البعضِ مِن الكلِّ يفي
…
مخصصًا لدى أناسٍ فأعرف
ب - وأمَّا المخصِّصُ المنفصلُ: فهو ما يستقلُّ بنفسه دونَ العامِّ مِنْ لفظٍ أو غيره.
وهو ثمانيةُ أقسامٍ عند أهلِ الأصول:
1 -
الحس: وهم يمثلون له بقوله تعالى في ريح عادِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأحقاف/ 25]، فيقولون: أثبت الحسُّ أمورًا لم تدمرْها تلك الريحُ، كالسماواتِ، والأرضِ، والجبال.
قلتُ: وفيه عندي نظرٌ؛ لأنَّ التخصيصَ قد يفهمُ مِنْ قوله تعالى: {بِأَمْرِ رَبِّهَا} ، وقوله:{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات/ 42].
نعم قد يصلحُ مثالُه بقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [النمل/
23]، و {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا} الآية [القصص/ 57]؛ لأنَّه مَنْ تتبَّعَ أقطار الدُّنيا قد يشاهدُ بالحسِّ بعض الأشياءِ التي لم تؤتَها بلقيس، ولم تُجْبَ إلى الحرم.
2 -
العقل: ويمثلون له بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [الرعد/ 16، الزمر/ 62].
يقولون: دلَّ العقلُ على أنَّه تعالى لا يتناولُه ذلك، وإن كان لفظُ الشيءِ يتناوله، كقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص/ 88]، وقوله:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام/ 19].
ومثَّل له المؤلفُ بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران/ 97]؛ فإنَّ العقلَ دلَّ على أنَّ فاقد العقلِ بالكليةِ لا يدخلُ في هذا الخطاب.
3 -
الإجماع: ومثَّل له بعضهم بإجماع المسلمين على أنَّ الأختَ من الرضاع لا تحل بملك اليمين، فيلزمُ تخصيصُ:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الآية [المعارج/ 30] بالإجماع.
والإجماعُ في الحقيقةِ -هنا- إنَّما يدلُّ على مستندٍ للتخصيصِ، فمستندُ هذا الإجماعِ الذي ذكرنا هو قوله تعالى:{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء/ 23].
الرابع: القياس، كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} الآية [النور/ 2]، فإنَّ عموم الزانية خُصِّصَ بالنَّصِّ وهو قوله في الإماءِ:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الآية [النساء/ 25]، فقِيسَ عليها
العبدُ، فخُصَّ عمومُ الزاني بهذا القياس، أعني قياسَ العبدِ على الأمة في تشطير الحدِّ عنها المنصوصِ عليه بقوله:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} بجامع الرقِّ، فيلزمُ جلدُ العبدِ خمسين، لقياسه على الأمَة، ويخرج بذلك مِنْ عموم "الزاني" الذي يُجلدُ مائةً. وهذا التخصيصُ في الحقيقةِ إنَّما هو بما دل عليه قوله:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} مِنْ أنَّ الرقَّ مناطُ تشطيرِ الحدِّ.
الخامس: المفهوم، وهو:
أ - مفهوم موافقة.
ب - ومفهوم مخالفة.
فمثالُ التخصيص بمفهوم الموافقةِ: تخصيصُ قوله صلى الله عليه وسلم: "ليُّ الواجدِ ظلمٌ يحلُّ عرضَه وعقوبتَه" الحديث، بمفهومِ الموافقةِ في قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23]، فإنَّه يفهمُ منه منع حبس الوالد في الدَّينِ، فلا يحبسُ في دَيْنِ ولده.
ومثالُ التخصيصِ بمفهوم المخالفةِ: تخصيصُ حديثِ "في أربعين شاةً شاة" بمفهوم المخالفةِ في قوله: "في الغنمِ السائمةِ الزكاة"، فمفهومُ "السائمة" أنَّه لا زكاةَ في المعلوفة، فتخرجُ مِنْ عموم "في أربعين شاةً شاةٌ".
السادس: العرف المقارنُ للخطاب، ولم يذكره المؤلف رحمه الله. ومثالُه: ما رواه الإمامُ أحمد ومَسلمٌ مِنْ حديثِ مَعْمرِ بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: كنتُ أسمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الطعامُ بالطعامِ
مثلًا بمثل" وكان طعامُنا يومئذٍ الشعير.
فمَنْ يقولُ بأنَّ علة الربا غير الطعم خَصَّصَ عموم الطَّعام في هذا الحديثِ بالشعيرِ؛ للعرف المقارنِ للخطاب.
السابع: نصٌّ آخر يُخصِّصُ العمومَ، وهذا النوع أربعةُ أقسام؛ لأنَّ كلًّا من المخصِّص والمخصَّص -باسم الفاعلِ والمفعولِ- تارةً يكونُ كتابًا، وتارةً يكونُ سنةً؛ فالمجموعُ أربعةٌ مِنْ ضرب اثنتين في اثنتين:
الأولى: تخصيصُ كتابٍ بكتاب، كتخصيص عموم {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية [البقرة/ 228] بقوله:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} الآية [الطلاق/ 4] وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب/ 49].
وكتخصيص: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة/ 221] بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية [المائدة/ 5].
الثَّانية: تخصيص كتابٍ بسنة، كتخصيص:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية [النساء/ 24] بحديث "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" الحديث.
وتخصيص: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية [النساء/ 11] بحديث "إنَّا معشر الأنبياء لا نُورث" الحديث.
الثَّالثة: تخصيص سُنَّة بسنة، كتخصيص:"فيما سقت السماءُ العشر" بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
ويدخل في هذا النوع التخصيصُ بفعله صلى الله عليه وسلم أو تقريره؛ لأنَّ التقريرَ فعل ضمنيٌّ، وفعلهُ مِنْ سنَّته صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة تخصيص القرآن بالفعلِ تخصيصُ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة/ 222] بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يأمرُ بعضَ أزواجه أن تشدَّ إزارَها ثم يباشرها وهي حائض.
الرابعة: تخصيصُ السنة بالكتاب، ومثالُه: حديث "ما أبينَ مِنْ حيٍّ فهو ميِّتٌ"، فإنَّ عمومَه مخصَّصٌ بقوله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} الآية [النحل/ 80].
وكتخصيص حديث "أمرتُ أن أقاتِل النَّاسَ حتَّى يشهدوا أن لا إله إلَّا اللَّه" بقول اللَّه تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة/ 29].
وأشار في "المراقي" إلى تعريف المخصِّصِ المنفصل وأقسامه بقوله:
وسم مستقله منفصلا
…
للحسِّ والعقلِ نماه الفضلا
وخصص الكتاب والحديث به
…
أو بالحديث مطلقًا فلْتنتبه
واعتبر الإجماعَ جُلُّ النَّاسِ
…
وقِسمي المفهومِ كالقياسِ
والعرفُ حيث قارنَ الخطابا
…
ودع ضميرَ البعضِ والأسبابا
وأعلم أنَّ التحقيقَ أنَّه يجوزُ تخصيصُ المتواتر بأخبار الآحاد؛ لأنَّ التخصيص بيانٌ، وقد قدَّمنا أن المتواترَ يُبيَّنُ بالآحاد قرآنًا أو سنة، كما
أنَّ التحقيق -أيضًا- جوازُ تخصيص السنة بالكتاب، كما ذكرنا، خلافًا لِمَنْ منعه محتجًّا بقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 44]، ومن الحجة عليه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الآية [النحل/ 89].
وأعلم -أيضًا- أنَّ التحقيقَ هو تخصيصُ العامِّ بالخاصِّ سواء تقدَّم عنه أو تأخرَ؛ خلافًا لأبي حنيفةَ القائلِ بأنَّ المتأخِّر منهما ناسخٌ، محتجًّا بقول ابن عباس أو الزُّهريّ: كانوا يأخذون بالأحدثِ فالأحدث، وبأنَّ العامَّ قطعيُّ الشمول للأفرادِ -عنده-، وعليه إنْ جُهِلَ التَّاريخ يلزمُ التوقف حتَّى يدلَّ دليلٌ آخر على أحدهما. وهذا المذهبُ روايةٌ -أيضًا- عن أحمد.
والدليلُ على تقديم الخاص على العامِّ مطلقًا أمران:
الأوَّل: أن الصحابة كانوا يقدمونه عليه، كما قاله المؤلفُ وغيرُه، ومَنْ تتبع قضاياهم تحقَّق ذلك عنهم.
الثَّاني: أن دلالة الخاصِّ أقوى من تناولِ العامِّ له، فلا شك أنَّ دلالة "إنا معاشر الأنبياءِ لا نورث" على عدم إرثِ فاطمة له صلى الله عليه وسلم أقوى من دلالة عمومِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء/ 11] على إرثها له صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها.
وزاد المؤلفُ من المخصِّصاتِ المنفصلةِ قولَ الصحابي عند مَنْ يراه حجةً، وقد قدَّمنا أنَّ قولَ الصحابي لا يمكنُ أن يُخَصَّ به العامُّ إلَّا إذا كان له حكم الرفعِ بكونه لا مجالَ للرأي فيه.
والمؤلفُ جعل فعله وتقريره صلى الله عليه وسلم مخصِّصين مستقلَّين، ونحنُ أدرجناهما في التخصيصِ بالسنة؛ لأنَّ السنة قولٌ وفعلٌ وتقريرٌ، وقد مثلنا للفعلِ، ومثَّل بعضهم للتقرير بتقريره صلى الله عليه وسلم على عدم إخراجِ الزكاة مِنَ الخيلِ فإنَّه يُخَصِّصُ وجوبَ الزكاة، مع أنَّ الخيل جاء بها نصٌّ وهو حديثُ "ليس على مسلمٍ في عبده ولا في فرسه صدقةٌ" متَّفقٌ عليه. والمخالفُ يقول: إن كثرت وكانت سائمةً ففيها الزكاة.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
إذا تعارضَ العمومان فإن أمكنَ الجمعُ بينهما جمع. . .) إلخ.
قال مقيِّده -عفا اللَّه عنه-:
حاصلُ كلامِ أهل الأصولِ في التعارض أنَّ له ثلاث حالات:
الأولى: تعارضُ عامٍّ وخاصٍّ، وهي التي قدمنا أنَّ العامَّ فيها يُحملُ على الخاصِّ، خلافًا لأبي حنيفة القائل بأنَّ المتأخرَ ناسخٌ، وهو رواية عن أحمد.
الثَّانية: تعارضُ خاصَّين، فيجبُ الترجيح، كتعارضِ حديثِ ابن عباسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوجَ ميمونةَ وهو مُحرمٌ، مع حديثِ ميمونةَ وأبي رافعٍ بخلاف ذلك.
(1)
(2/ 740).
فيرجحُ حديثُ ميمونة بأنَّها صاحبةُ القصة، فهي أدرى بها، وحديثُ أبي رافعٍ بأنَّه هو السفير بينهما، والمباشرُ أعلم بالقصة من غيره.
الثالثة: تعارضُ عامَّين مطلقًا أو مِنْ وجهٍ، فإنْ أمكن الجمعُ جُمِعَ وإلَّا وجبَ الترجيحُ.
مثالُ ما أمكن فيه الجمع: أحاديثُ ذمِّ مَنْ يشهدُ قبلَ أنْ يُستشهد، مع أحاديث مدحه. فيجمعُ بحمل ذمِّه على أنْ يكون عالمًا بأنَّ صاحبَ الحقِّ عالمٌ بأنَّه يعرفُ حقَّه، ويحملُ مدحُه على كونه لم يعلم بأنَّه شاهدٌ له على حقِّه.
ومثالُ ما يجب فيه الترجيح: حديثُ وجوبِ الوضوء مِنْ مسِّ الذكر، وحديث عدم وجوبه. فيرجحُ حديثُ الوجوبِ بأنَّه أحوطُ في الخروج من العهدة.
ومثال الترجيع في الأعمَّين مِن وجهٍ: ترجيحُ عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6، المعارج/ 30] بأنَّه أحوطُ -أيضًا-، وبأنَّه نصٌّ مقصودٌ لتحريم النساء وتحليلهنَّ، بخلاف:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فإنَّه في معرض مدحِ المتقين.
وحاصلُ تحريره أنَّ المتعارضَيْنِ يجبُ الجمعُ بينهما إنْ أمكن، فإنْ لم يمكنْ رُجِّحَ أحدُهما، فإن لم يرجحْ فالأخيرُ ناسخٌ، فإن لم يُعلم الأخيرُ طُلِبَ الدليلُ من غيرهما.