الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضاربة، والحديث الوارد فيها ضعيف لا يحتجُّ به، إلَّا أنَّ الصحابة أجمعوا على جواز المضاربة، وكذلك من بعدهم، فقدِّم هذا الإجماع على ظاهر تلك النصوص الدالة على منع الغرر؛ لعلمنا بأنَّهم استندوا في إجماعهم إلى شيء علموه منه صلى الله عليه وسلم يدلُّ على إباحة ذلك. واللَّه أعلم.
واعلم أنَّ التعارض لا يكون بين قطعيَّين، ولا بين قطعيٍّ وظنِّيٍّ، وإنَّما يكون بين ظنيَّين فقط.
واعلم أنَّ تعادل الدليلين الظنيَّين بحسب ما يظهر للمجتهد جائزٌ اتفاقًا، أمَّا تعادلهما في نفس الأمر فاختُلف فيه، فنقل عن الإمام أحمد والكرخيِّ أنَّه لا يمكن تعادلهما في نفس الأمر، وصححه صاحب "جمع الجوامع"، والأكثرون على جوازه، ومنهم من قال: هو جائز غير واقع.
الترجيح
والترجيحُ في الاصطلاح: تقوية أحد الدليلين المتعارضين.
واعلم أنَّه إن حصل التعارض وجب الجمع أوَّلًا إن أمكن، كتنزيلهما على حالين، كما أكثرنا من أمثلته القرآنيةِ في كتابنا "دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب".
ومن أمثلته في الحديث: الحديث الوارد بذمِّ الشاهد قبل أن تطلب منه الشهادة، مع الحديث الوارد بمدحه.
فيجمع بينهما بأن ينزَّل كلٌّ منهما على حالٍ:
فيحملُ حديثُ المدحِ على مَنْ شهد في حقِّ اللَّهِ، ومَنْ يعلمُ أنَّ المشهود له لا يعلمُ أنه شاهدٌ له.
ويحمل حديث الذمِّ على الشاهد في حقِّ الآدميِّ العالم بأنَّ الشاهد يعلم ما يشهد به ولم يطلبه.
فإن لم يمكن الجمعُ فالمتأخر ناسخٌ للمتقدم، فإن لم يعرف المتأخر فالترجيح.
والترجيحُ في الأخبار مِن ثلاثةِ أوجه:
الأول: يتعلقُ بالسندِ، وهو خمسة:
أولًا: كثرةُ الرواية.
ثانيًا: ثقة الراوي، وضبطه، وقلة غلطه.
ثالثًا: ورع الراوي وتقواه؛ لشدة تحرزه من رواية من يشك فيه.
رابعًا: أن يكون صاحب القصة، كحديث ميمونة أنَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلالٌ.
خامسًا: أن يكون مباشرًا للقصة، كحديث أبي رافع بذلك، لأنَّه هو السفير بينه وبين ميمونة. فكلاهما يرجح على حديث ابن عباس أنَّه تزوجها وهو محرم.
وللأصوليين في الترجيح باعتبار السند أمور كثيرةٌ زائدةٌ على ما ذكره المصنف:
منها: علوُّ السند، فالسند الذي هو أعلى يقدَّم على غيره؛ لأنَّ قلة الوسائط بين المجتهدِ وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أرجح من كثرتها؛ لأنَّ قلة الوسائط يقلُّ معها احتمال النسيانِ والاشتباهِ والزيادةِ والنقص.
ومنها: السلامةُ من البدع، فالراوي غير البدعيِّ أرجح من الرواي البدعيِّ.
ومنها: فقهه في الباب المتعلق به المروي، فالفقيهُ في البيوع مثلًا يُقَدَّم خبره على غير الفقيه فيها.
وكذا يُقَدَّمُ زائد الفقه على غيره، ولذا قالت المالكية: يُقَدَّمُ خبرٌ رواه ابن وهب في الحجِّ على ما رواه ابن القاسمِ فيه؛ لأنَّه أفقه منه فيه، وإن كان ابن القاسم أفقه منه في غيره.
ويُقَدَّمُ عندهم العالمُ باللغة على غير العالم بها، والعالمُ بالنحو على غير العالم به، لأنَّ الخطأ منهما في فهم مقاصدِ الكلامِ أقل.
ويُقَدَّمُ الفطنُ على من دونه.
ويُقَدَّمُ المشهور بالعدالة على المعدَّل بالتزكية.
ويُقَدَّمُ الراوي الذي زكَّاه المجتهد باختباره إيَّاه على المزكَّى بالإخبار، إذ ليس الخبر كالعيان.
ويُقَدَّمُ من زُكِّيَ تزكية صريحةً على من زُكِّيَ تزكيةً ضمنيةً، كالحكم بشهادته والعمل بروايته.
ويُقَدَّمُ من زكَّاه جماعة كثيرون على من زكَّاه واحد مثلًا.
ويُقَدَّمُ غير المدلِّس على المدلِّس.
ويُقَدَّمُ الحرُّ على العبدِ؛ لأنَّ الحرَّ لشرف منصبه يتحرزُ عن ما لا يتحرزُ عنه العبد. وضعَّف بعضهم الترجيحَ بالحرية.
ويُقَدَّمُ حافظُ الخبر الذي يسرده متتابعًا على من ليس كذلك، وهو من يتخيلُ اللفظ ثم يتذكره ويؤديه بعد تفكر وتكلفٍ، ومن لا يقدر على التأدية أصلًا لكنْ إذا سمع اللفظ علم أنَّه مرويه عن فلان.
ويُقَدَّمُ الراوي الذي يُعْرَفُ نسبُه على الراوي الذي لم يُعْرَفْ نسبُه؛ لأنَّ الوثوق بالأول أشد.
ويُقَدَّمُ عندهم الذكرُ على الأنثى، إلَّا إذا عُلِمَ أنَّها أضبطُ من الذكر فتقدمُ عليه، وكذلك إن كانت صاحبة القصة قُدمت على الذكر.
قال بعضهم: الأنثى والذكر على السواء، ولا يرجح عليها إلَّا بما يرجحُ به الرجل على الرجل.
وفصَّل بعضُ العلماء فقال: يرجحُ الذكر في غير أحكام النساء، بخلاف أحكامهنَّ كالحيض والعدة، فيرجحن فيها على الذكور؛ لأنَّهنَّ أضبطُ فيها.
ويُقَدَّمُ الذي كانت روايته أوضح في إفادة المروي على الذي في روايته خفاءٌ كالإجمال، ولأجل ذلك يُقَدَّمُ الراوي بالسماع على الراوي بالإجازة؛ لأنَّ السماع طريقٌ واضحٌ في إفادة المروي ببيان تفاصيله، بخلاف الإجازة لما فيها من الإجمال.