الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: هذا الوقوع لا يُعارض الآيات المذكورة؛ لأنَّ اشتمال القرآن الكريم على كلمات قليلة أعجمية لا يخرجه عن كونه عربيًا، أو لأن العرب لما نطقت به وعرَّبته صار عربيًا.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
أظهر القولين عندي ما اختاره بعض أهل العلم، كابن جرير، من أن القرآن ليس فيه لفظ من غير العربية، وأن بعض كلماته في النادر لا مانع منه.
والدليلُ على هذا القول أنَّ دعوى أن أصله عجمي ثم عُرِّبَ معارضةٌ بمثلها، وهو إمكان كون أصله عربيًا ثم عُجِّمَ في اللغات الأخرى.
تنبيه:
أمَّا الأعلام الأعجمية فهي في القرآن بلا خلاف؛ لأنَّ العَلَم يحكى بلفظه في جميع اللغات.
المحكم والمتشابه
قال المؤلف
(1)
رحمه الله:
(وفي كتاب اللَّه محكم ومتشابه. . .) إلى آخره.
اعلم أن بعض الآيات دلَّ على كون القرآن كلِّه محكمًا، كقوله
(1)
(1/ 277).
تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود/ 1] وغيرها من الآيات.
وبعضها دلَّ على كونه كلّه متشابهًا، وهو قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر/ 23].
وبعضها دلَّ على أنَّ منه محكمًا ومنه متشابهًا، وهو قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران / 7].
ولا معارضة بين الآيات؛ لأنَّ معنى كونه كلِّه محكمًا هو اتصاف جميعه بالإحكام الذي هو الأتقان، لأنَّ جميعه في غاية الإتقان في ألفاظه ومعانيه، أحكامه عدل، وأخباره صدق، وهو في غاية الفصاحة والإعجاز والسلامة من جميع العيوب.
ومعنى كونه كله متشابهًا أنَّ آياته يشبه بعضها بعضًا في الإعجاز والصدق والعدل والسلامة من جميع العيوب.
ومعنى أنَّ منه آيات محكمات وأخر متشابهات، اختلف فيه اختلافًا مبنيًا على الاختلاف في معنى الواو في قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 3]. فمن قال إن الواو استئنافية، والراسخون مبتدأ خبره جملة:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} والوقف تام على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} فإنه يُفسِّر المتشابه بأنه ما استأثر اللَّه بعلمه. وعلى هذا القول أكثر أهل العلم.
وعليه درج صاحب "المراقي" بقوله:
وما به استأثر علمُ الخالق
…
فذا تشابهٌ عليه أطلقِ
وهو على هذا القول واضحٌ، لأنَّ الضمير في قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} راجع إلى ما تشابه منه، وهو بعينه المتشابه.
ومن قال بأنَّ الواو عاطفة، فإنَّه فسر المتشابه بما يعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم، كالآيات التي ظاهرها التعارض، وهي غير متعارضة في نفس الأمر، كقوله:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص/ 78] وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن/ 39] مع قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر/ 92] وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف/ 6]، ونحو ذلك من الآيات.
وقول من قال: إن المتشابه القصص والأمثال، فسَّر المتشابه بما يشبه بعضه بعضًا؛ لأنَّ قصص الأمم الماضية يشبه بعضه بعضًا، وكذلك الأمثال.
ورجح المؤلف رحمه الله أنَّ المتشابه ما استأثر اللَّه بعلمه، وأن الوقف تام على قوله {إِلَّا اللَّهُ} ، أي وما يعلم تأويله إلا اللَّه وحده، بقرائن في الآية:
فمن القرائن المعنوية اللفظية: أنَّه لو أراد عطف الراسخين لقال: "ويقولون" بالواو.
ومن القرائن المعنوية: أنه ذم مبتغي التأويل، ولو كان ذلك معلومًا للراسخين لكان مبتغيه ممدوحًا لا مذمومًا، ولأن قولهم:{آمَنَّا بِهِ} يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه،
لا سيما إذا أتبعوه بقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فذكرهم ربهم هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره، وأنه من عنده كالمحكم، ولأن لفظة (أما) في قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} لتفصيل الجمل، فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله، يدلُّ على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون، ولو كانوا يعلمون تأويله لم يُخالفوا القسم الأول بابتغاء التأويل.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
مراده أنَّ قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية، يفهم منه ما مضمونه: وأمَّا الراسخون في العلم فلا يتبعون ما تشابه منه، ولا يبتغون تأويله.
وقول المولف
(1)
رحمه الله في هذا المبحث: (والصحيح أنَّ المتشابه ما ورد في صفات اللَّه سبحانه وتعالى ممَّا يجب الإيمان به، ويحرم التعرضُ لتأويله، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}. . .) إلى آخره = لا يخلو من نظر؛ لأنَّ آيات الصفات لا يُطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى من غير تفصيل، لأن معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهًا، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بها ليست معلومة للخلق.
وإذا فسرنا المتشابه بأنه هو ما استأثر اللَّه بعلمه دون خلقه، كانت كيفية الاتصاف داخلة فيه لا نفس الصفة.
(1)
(1/ 279).
وإيضاحه: أنَّ (استوى) إذا عُدِّيَ بِـ (على) معناه في لغة العرب: الارتفاع والاعتدال، ولكن كيفية اتصافه جلَّ وعلا بهذا المعنى المعروف عند العرب لا يعلمها إلا اللَّه جلَّ وعلا، كما أوضح هذا التفصيل إمام دار الهجرة مالك بن أنس تغمَّده اللَّه برحمته، بقوله:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول".
فقوله رحمه الله: "الاستواءُ غيرُ مجهول"، يوضحُ أنَّ أصل صفة الاستواء ليست من المتشابه، وقوله:"والكيف غير معقول" يبين أنَّ كيفية الاتصاف تدخل في المتشابه، بناءً على تفسيره بما استأثر اللَّه تعالى بعلمه، كما تقدم.
وهذا التفصيل لابدَّ منه، خلافًا لظاهر كلام المؤلف رحمه الله.
وقد بسطنا الكلام بإيضاح هذه المسألة في كتابنا "أضواء البيان" في أول سورة آل عمران. والعلم عند اللَّه تعالى.
فإنْ قيل: إنْ فسرنا المتشابه بأنه ما استأثر اللَّه بعلمه، فما الحكمة في خطاب الخلق بما لا يفهمونه؟
فالجواب: أن اللَّه تعالى يمتحن خلقه بما شاء، فلا مانع من أن يكلفهم الإيمان بما لا يعلمون معناه امتحانًا وابتلاء لهم.
ويدل لهذا الوجه ما ذكر تعالى عن الراسخين في العلم من قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، فإنهم آمنوا به لأنهم علموا أنَّه من عند ربهم كالمحكم. واللَّه تعالى أعلم.
* * *