الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان الاحتياط في ترك العمل به، كما لو دل المرويُّ المذكور على جواز أخذ مال إنسان، أو عقوبته، وكان العالم الذي عمل به لا يعمل إلا برواية العدل، فالظاهر أنَّ عمله بروايته حينئذ تعديل له، وقطع بذلك العبَّاديُّ في "الآيات البينات"، وقال صاحب "نشر البنود": ليس بعيدًا.
أما إن كان العالم لا يلتزمُ في العمل بالرواية عدالة الراوي، فعملُه بروايته ليس تعديلًا له اتفاقًا.
وإلى هذه المسألة أشار في "المراقي" بقوله:
ومثبتُ العدالة اختبارُ
…
كذاك تعديل والانتشارُ
وفي قضا القاضي وأخذ الراوي
…
وعمل العالم أيضًا ثاوي
وشرط كل أن يرى ملتزما
…
ردًّا لما ليس بعدل علما
وستأتي هذه المسألة في المتن، وقدمناها لنذكر مثبت العدالة عند ذكر العدالة.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ولا يقبل
خبرُ مجهول الحال
في هذه الشروط في إحدى الروايتين،
(1)
(1/ 389). ووقع في الأصل المطبوع: "وهو مذهب أبي حنيفة"، والتصحيح من الروضة.
وهو مذهب الشافعي. .) إلخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل أنَّ من جهل إسلامُه، فلم يُعرف أمسلم هو أم لا؟ ومن جهل بلوغه فلم يدر أبالغ هو أم صبي؟ ومن جهل ضبطه فلم يدر أضابط هو أم لا؟ لا تقبل رواية واحد منهم قولًا واحدًا.
أمَّا من جهلت عدالته فلم يدر أعدل هو أولا؟ فالرواية المشهورة عن أحمد أنه لا يقبل، وهو مذهب الشافعي.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: وهو مذهب مالك والجمهور.
والرواية الأخرى عن أحمد أنه يُقبل. قال المؤلف
(1)
: (وهو مذهب أبي حنيفة).
ومدار هذا الخلاف على أن شرط القبول هل هو العلم بالعدالة أو هو عدم العلم بالفسق؟
فمن قال: لا يقبلُ مجهولُ العدالة، قال: المدارُ على علم العدالة، والمجهول لم تعلم عدالتُه، فلا يُقبلِ، ومن قال: يقبلُ، قال: المدار على عدم العلم بالفسق، وهذا لم يُعْلمْ منه فسق فيقبل.
واحتج من قال بأن مجهول العدالة لا يُقبل بحجج:
الأولى: أن مستند قبول خبر الواحد الإجماعُ، والمجمع عليه قبول رواية العدل، ورد خبر الفاسق، والمجهول ليس بعدلٍ ولا هو في
(1)
(1/ 389).
معنى العدل في حصول الثقة بخبره.
الثانية: قياس الشك في العدالة على الشك في بقية الشروط الذي هو محل اتفاق على عدم القبول، إذ لا فرق بين الشروط المذكورة، فلا وجه لجعل الشك مانعًا من القبول في بعض منها دون بعض بلا دليل.
الثالثة: قياس روايته على شهادته، فشهادة مجهول العدالة لا تقبل؛ لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)} [الطلاق/ 2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة/ 282]، والمجهول غير عدل ولا مرضي، فكذلك روايته.
الرابعة: أن المقلد إذا شك في بلوغ المفتي الدرجة التي تخول له الإفتاء لم يجز تقليده، فكذلك الرواية عنه.
الخامسة: أنَّ الفرع الشاهد على شهادة أصل لا تقبل شهادته ما لم يعينه، فلو كانت شهادة المجهول مقبولة لما احتيج إلى تعيينه.
هذا حاصلُ ما ذكره المؤلف من حجج القول مع بعض اختصار.
واحتج من قال بقبول رواية مجهول العدالة بحجج:
الأولى: قبوله صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي برؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الإسلام.
الثانية: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون رواية الأعراب والعبيد والنساء؛ لأنهم لم يعرفوهم بفسق.
الثالثة: أنَّ من أسلم من الكفار ثم روى فور إسلامُه، فروايته
مقبولة، والقول بردها بعيد، ولا مستند لقبولها إلا إسلامهُ وعدمُ العلم بفسقه بعد إسلامه.
الرابعة: أنه لو أخبر بطهارة ماء أو نجاسته، أو أنه على طهارة، أو أنَّ هذه الجارية ملكه، أو أنها خالية من زوج، قُبِلَ قوله في ذلك، فيجوز التطهر بالماء الذي أخبر بطهارته، ويترك الماء الذي أخبر بنجاسته، ويجوز الائتمام به لقوله: إنه على طهارة، ويجوز وطء الجارية المشتراة منه بقوله: إنها ملكه، وإنها خالية من زوج.
هذا الذي ذكره المؤلف من حجج هذا القول.
وأجاب أهل القول الأول عن هذه الحجج: بأن قبوله صلى الله عليه وسلم لشهادة الأعرابي لم يتعين فيه كون الأعرابي كان مجهولًا عنده؛ لاحتمال أن يكون كان عالمًا بعدالته بوحي أو بغيره، أو يكون زكاهُ بعض الصحابة.
والظاهر أنَّ الجواب عن هذا أنَّ الصحابة كلَّهم عدول تثبت عدالتهم وتزكيتهم بالنص، وبأنَّ الصحابة ما كانوا يقبلون رواية أحد من غير الصحابة من العبيد والنساء إلا من عرفوا صدقه وعدالته.
وأما قريب العهد بالكفر ممن أسلم ثم روى، فإن كان صحابيًّا فله عدالة الصحابة، وطراوة إسلامه ورغبته في الدين تجعله يتباعد من الكذب، وأمَّا إن كان من غير الصحابة، فلا نسلمُ قبول روايته حتى تعرف عدالتُه.
وأما من أخبر عن نجاسة الماء أو طهارته من غير الصحابة فلا تصدق روايته إلا إذا عرفنا عدالته.
وأما قول البائع: إنَّ هذه السلعة له، وإن هذه الأمة لا زوج لها، فقد رُخِّص في قبول ذلك في المعاملات لشدة حاجة الناس إليها، ولو كان الذي بيده المتاع معروفًا أنه غير عدل؛ إذ لو توقفت المعاملات على إثبات ملك السلع المعروضة للبيع لتعذر ذلك، وصار فيه حرجٌ كبير، فاكتفي في ذلك بوضع اليد ودعوى الملك، ولو من غير عدل.
قال المؤلف
(1)
:
(فصل
ولا يشترط في الرواية الذكورية. .) إلخ.
خلاصة ما ذكره في هذا الفصل سبعة أشياء:
الأول: أن رواية المرأة كرواية الرجل، فرواية عائشة -مثلًا- لا فرق بينها ورواية الرجال من الصحابة، إذ الرواية ليست كالشهادة، فالنساء في باب الرواية هن والرجال سواء.
الثاني: أن رواية الأعمى إذا وثق بمعرفة الصوت مقبولة، واستدلَّ لذلك بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يروون عن عائشة وغيرها من النساء من وراء حجاب، اعتمادًا على الصوت، إلا أنَّ الأصوليين قرَّروا في مباحث الترجيح أن الذي روى عن النساء من غير حجاب لكونه من محارمهنَّ ترجح روايته على رواية من روى عنهن من وراء حجاب،
(1)
(1/ 394). ووقع في الأصل المطبوع: "الرواية المذكورة". والتصويب من "الروضة".
ومثلوا له برواية القاسم بن محمد عن عائشة: أنَّ بريرة عتقت وزوجُها عبد، مع رواية الأسود بن يزيد عنها: أنَّه كان حرًا؛ لأنَّ القاسم ابن أخيها يروي عنها من غير حجاب، والأسود ليس محرمًا لها فلا يروي عنها إلا من وراء الحجاب.
وعن البخاري أن القائل بأنه كان حرًّا الحكم، وليس من قول عائشة.
الثالث: أنَّ الراوي لا يشترط فيه كونه فقيهًا، بل تقبل رواية العدل الذي ليس بفقيه، واستدل له المؤلف بحديث:"رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، وبأن الصحابة كانوا يقبلون خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثًا واحدًا.
الرابع والخامس: أنه لا يقدح في الرواية بالعداوة والقرابة بخلاف الشهادة.
وإيضاحه: أنَّه لو كانت خصومة بين اثنين ثم روى قريب أحدهما أو عدوُّه حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي نفع ذلك القريب، أو ضر ذلك العدو، فلا يقدح في روايته بتلك العداوة أو القرابة؛ لأنَّ حكم الرواية عام لكل الناس، لا يختص بشخصٍ بعينه، بخلاف الشهادة.
السادس: أنَّه لا يُقدحُ في رواية الراوي بعدم معرفة نسبه.
السابع: أنَّه لو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل، فلا تقبلُ تلك الرواية؛ لاحتمال كون ذلك الشخص المذكور في السند هو المجروح.
هذا هو حاصلُ ما ذكره المؤلف في هذا الفصل، وجميع ما فيه صواب.
والمقرر في أصول مالك وأبي حنيفة أنَّهما لا يقبلان رواية غير الفقيه، وبعضهم يقيده عن أبي حنيفة بما إذا خالفت رواية غير الفقيه القياس، وبهذه القاعدة ردُّوا كثيرًا من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه بدعوى أنَّه غير فقيه، وأن روايته مخالفة للقياس.
ومثال ذلك: ردُّهم لحديثه في المُصَرَّاة أنه يردها إذا حلبها وصاعًا من تمر.
والمرويُّ في أصول المالكية عن مالك عدم قبول رواية غير الفقيه مطلقًا، بدعوى أن غير الفقيه لا يوثق بفهمه الكلام على وجهه، فربما فهم غير المقصود لعدم فقهه، وربمَّا نقله بالمعنى فيقع بذلك الخلل في روايته.
ولا شك أنَّ هذا باطل من وجهين:
الأول: أنَّ عدالتَه تمنعه من أن يقول شيئًا لم يفهمه، ولم يجزم بفهمه، مع أن معنى الكلام الذي لا خفاء فيه ولا إجمال يفهمه على وجهه غير الفقيه كما لا يخفى.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه قد يحمل الفقه غير الفقيه، وذلك نصٌّ في محل النزاع، وهو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، فقد روى زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نضر اللَّه امرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس
بفقيه".
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ورب حامل فقه ليس بفقيه" نصٌّ في محل النزاع، دالٌّ على صحة رواية غير الفقيه كما ترى.
وقد قال المناوي في شرح "الجامع الصغير" في الكلام على هذا الحديث: رواه الترمذي في العلم والضياء في المختارة عن زيد بن ثابت، قال الترمذي: صحيح. وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث زيد بن ثابت هذا صحيح خرجه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم والخطيب وأبو نعيم والطيالسي والترمذي. وفي الباب عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء وأنس وغيرهم. وقال في موضع آخر: الحديث صحيح المتن وإن كان بعض أسانيده معلولًا. اهـ.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
ومعنى هذا ثابت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ لأنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المتفق عليه المشهور: "وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع اللَّه بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. . ." الحديث، مثلٌ مضروبٌ لكون الراوي قد يكون غير فقيه، فكما أن تلك الأجادب لم تنبت، ولم تُثمر، ولكنها أمسكت ذلك الماء للناس، فنفعهم اللَّه به، فشربوا منه وسقوا وزرعوا، فكذلك أولئك الرواة لم يتفقهوا، ولكن نفع اللَّه الناس بما حفظوا من العلم، فانتفعوا به، وتفقهوا فيه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"ربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع".
وقوله: "مبلَّغ" بصيغة اسم المفعول. وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ربَّ مبلَّغ أوعى من سامع" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر صاحبُ "الجامع الصغير" هذا الحديث من رواية ابن مسعود وعزاه للإمام أحمد في المسند والترمذي وابن حبان، وجعل عليه علامة الصحة.
وقال شارحه المناوي: قال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث مشهور خُرج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم، وصححه ابن حبان والحاكم.
وذكر أبو القاسم بن منده في تذكرته أنه رواه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون صحابيًا، ثم سرد أسماءهم.
وقال عبد الغني في الآداب: تذاكرت أنا والدارقطني طرق هذا الحديث، فقال: هذا أصح شيءٍ روي فيه. اهـ.
وهذه النصوصُ تدلُّ على أنَّ ما روي عن مالك وأبي حنيفة رحمهما اللَّه تعالى من عدم قبول رواية غير الفقيه مطلقًا، أو إذا خالفت القياس، خلافُ الصواب، وقد ردَّ صاحب مراقي السعود هذا القول على أهل مذهبه من المالكية بقوله:
من ليس ذا فقهٍ أباه الجيلُ
…
وعكسُه أثبته الدليل
والجيل: المصنف من الناس، ومراده بهم علماء المالكية، وقوله: و"عكسه" أي عكس قولهم "أثبته الدليل"، وهو ما ذكرنا آنفًا من