الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيقول المعترض، كالحنفيِّ -مثلًا-: نسلِّم أنَّ كلَّ ما هو قربة تشترط فيه النية، ولا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء والغسل، فلو صرَّح المستدلُّ بالصغرى لَمَنَعها
(1)
المعترض، وخرج عن القول بالموجب.
وبعضهم يقول في هذا المثال: السكوت عن مقدمةٍ مشهورة. وما تقدم أظهر؛ لأنَّ المشهورة كالمذكورة، فكأنَّها غير مسكوت عنها لشهرتها.
وهذا النوع من القول بالموجب إنَّما ورد على السكوتِ عنها، ووجه كون الأول أظهر أنَّ غير المشهورة مسكوت عنها.
ووجه من قال: السكوت عن مقدمة مشهورة: أنَّ الشهرة هي التي تبيحُ الحذف؛ لأنَّ حذف غير المشهور يؤدي إلى عدم فهم الكلام.
تنبيهان:
الأول: منشأ الخلاف في اشتراط النية في الوضوء والغسل هو أنَّهما وسيلة إلى صحة الصلاة، فمَنْ أعطى الوسيلة حكم ما يقصد بها جَعَلَها قربةً فأوجب النية فيهما، وهذا هو الأظهر.
ومن لم يعط الوسيلة حكم مقصدها لم يجعلها قربة، فلم يُوجِبْ فيهما النية.
(1)
لأن أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء والغسل طهارةٌ معقولة المعنى، وليست قربة. "عطية"
الثاني: قال بعض أهل الأصول: القولُ بالموجب والقلب معارضةٌ في الحكم لا قدحٌ في العلة. وجعلهما الفخر الرازي من القوادح في العلة.
وأشار في "المراقي" إلى تعريف القول بالموجب وأقسامه، فقال:
والقولُ بالموجبِ قدحه جلا
…
وهو تسليم الدليل مُسْجَلا
مِنْ مانعٍ أنَّ الدليلَ استلزما
…
لما مِنَ الصورِ فيه اختُصِما
يجيءُ في النفي وفي الثبوتِ
…
ولشمول اللفظِ والسكوتِ
عمَّا من المقدِّماتِ قد خلا
…
مِنْ شهرةٍ لخوفه أنْ تحظلا
واعلم أن الذي بيناه هنا هو القول بالموجب في اصطلاح أهل الأصول، أما القول بالموجب الذي هو نوعٌ من أنواع البديع المعنوي عند البلاغيين فقد تركنا إيضاحه هنا، لأن محله في فنِّ البلاغة.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل في حكم المجتهد
اعلمْ أن الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود في استفراغ الوسع في فعلٍ. ولا يستعمل إلا فيما فيه جهدٌ أي مشقة، يقال: اجتهد في حمل الرَّحى، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة).
والجهد -بالفتح-: المشقة، وبالضمِّ: الطاقة، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة/ 79] قاله القرافي.
والاجتهادُ في اصطلاح أهل الأصول: بذلُ الفقيه وُسْعَهُ بالنظر في الأدلة، لأجل أن يحصل لَه الظنُّ أو القطعُ بأنَّ حكم اللَّه في المسألة كذا.
والأصل في الاجتهاد قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة/ 95]، وقوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء/ 78].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"الحمدُ للَّه الذي وفقَ رسول رسول اللَّه".
وشروط المجتهد:
(1)
(3/ 959).
1 -
إحاطتُه بمدارك الأحكامِ المثمرة لها من كتاب، وسنة، وإجماع، واستصحاب، وقياس، ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض، وتقديم ما يجب تقديمه منها كتقديم النصِّ على القياس.
والعدالة ليست شرطًا في أصل الاجتهاد، وإنَّما هي شرطٌ في قبول فتوى المجتهد.
ولا يشترطُ حفظُ آياتِ الأحكام، وأحاديثها، بل يكفي علم مواضعها في المصحف وكتب الحديث ليراجعها عند الحاجة.
2 -
ويشترط علمه بالناسخ والمنسوخ، ومواضع الإجماع والاختلاف، ويكفيه أن يعلم أنَّ ما يستدلُّ به ليس منسوخًا، وأنَّ المسألة لم ينعقد فيها إجماعٌ من قبل، ولا بدَّ من معرفته للعامِّ والخاصِّ، والمطلقِ والمقيدِ، والنصِّ والظاهرِ والمؤولِ، والمجملِ والمبينِ، والمنطوق والمفهومِ، والمحكمِ والمتشابه.
3 -
ولا بدَّ من معرفة ما يصلحُ للاحتجاجِ به من الأحاديثِ، من أنواع الصحيحِ والحسن، والتمييز بين ذلك، وبين الضعيفِ الذي لا يحتجُّ به، لمعرفته بأَسبابِ الضعف المعروفة في علم الحديثِ والأصول.
4 -
وكذلك القدرُ اللازمُ لفهم الكلام من النحو واللغة.
تجزُّؤ الاجتهاد: والصحيح جوازُ تجزُّؤ الاجتهاد.
التعبد بالقياس: واختلف في جواز التعبدِ بالقياس في زمنه صلى الله عليه وسلم، فمنعه قومٌ لإمكان الحكم بالوحي، وأجازه قومٌ لقصة معاذ.
اجتهادُه صلى الله عليه وسلم: واختلف في اجتهاده صلى الله عليه وسلم، فمنعه قومٌ لقوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 4]، وأجازه قومٌ لقوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال/ 67] ونحوها، وأجازه قومٌ في الأمور الدنيوية دون الدينية.
واختلف: هل المصيبُ واحدٌ من المجتهدين المختلفين، أو كلٌّ مصيب؟
والأول هو اختيار المؤلف، وهو الصحيح، كما يدلُّ عليه حديث:"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ. . . " الحديث، فهو نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في أنَّ المجتهدين منهم المخطئ ومنهم المصيب.
ومعلوم أن المخطئ في الفروع مع استكماله الشروط معذورٌ في خطئه، مأجورٌ باجتهاده، كما في الحديث.
وقصة بني قريظة تدلُّ على أنَّه قد يكون الكلُّ مصيبًا في الجملة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يخطِّئ مَنْ صلى العصر قبل بني قريظة، ولا من لم يصلِّها إلا في بني قريظة، وهو لا يُقِرُّ على باطلٍ.
وإذا لم يترجح عند المجتهد أحد الدليلين المتعارضين وجب عليه التوقفُ. وقيل: يُخَيَّر. وقيل: يأخذ الأحوط منهما، وهو أظهرها؛ لحديث:"دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك".
وليس للمجتهد أن يقول قولين في المسألة في حالةٍ واحدةٍ، في قول عامة الفقهاء.
واتفقوا على أنَّ المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنِّه الحكم لم يَجُزْ
له تقليدُ غيره. أمَّا القاصر في فنٍّ فهو كالعامِّيِّ فيه.
واعلم أنَّه إذا نصَّ المجتهد على حكمٍ في مسألةٍ لعلةٍ بيَّنها، فكلُّ وصفٍ توجد فيه تلك العلة فحكمُه حكمُ ما نصَّ عليه، فلأصحابه العارفين بمذهبه أن يحكموا عليها أنَّها كمذهبه، نظرًا للعلة الجامعة التي بيَّنها المجتهدُ.
فالمجتهد المقيَّد يُلْحِقُ ما سكت عنه إمامُه بما نصَّ عليه للعلة الجامعة، كما يفعله المجتهد المطلقُ بالنسبة إلى نصوص الشرع العامَّة.
ولأجل هذه القاعدة أوجب بعضُ المالكية الزكاة في التِّين مع أنَّ مالكًا لم يذكر في التين زكاةً، ومعلومٌ أنَّ علة الزكاة في الثمار عنده إنَّما هي الاقتياتُ والادخارُ، فلمَّا كان الاقتيات والادخار موجودًا في التين جعل بعض أصحابه الزكاة فيه كالزبيب بمقتضى علته المذكورة، ولذا قال ابن عبد البرِّ: أظنُّ مالكًا ما كان يعلم أنَّ التين ييبس ويقتات ويُدَّخَر، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب، ولَمَا عدَّه مع الفواكه التي لا تيبس ولا تُدَّخَر كالرمَّان والفِرْسِك.
فإن لم يبيِّن المجتهدُ العلةَ لم يُجْعَلْ ذلك الحكمُ مذهبًا له في مسألة أخرى، وإن أشبهتها شبهًا يجوزُ خفاء مثله على بعض المجتهدين، إذ لا يدرى أنَّها لو خطرتْ ببالِه صار فيها إلى ذلك الحكم، بل قد يظهرُ له فرقٌ بينهما مع المشابهة.
وإنْ نصَّ المجتهدُ في مسألة واحدة على حكمين مختلفين، فإن
عُرِفَ الأخيرُ منهما فهو مذهبه على الصحيح، وإن لم يعلم الأخير اجتُهِدَ فى أشبههما بأصوله وأقواها دليلًا فتُجْعَل مذهبًا له، وتكون الأخرى كالمشكوك فيها.
ومثَّل لذلك مُحَشِّي "الروضة" بمثالين:
1 -
ما لو اختلف نصُّ أحمد في أنَّ الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر، لكان الأشبه بأصله أنهم لا يملكونها، بناءً على تكليفهم بالفروع، وهو أشبه بقاعدته؛ لأنَّ الأسباب المحرمة لا تفيدُ الملك، ولذلك رجحه أبو الخطاب ونصره في تعليقه، وإن كان مخالفًا لنصوص أحمد على أنَّهم يملكونها.
2 -
هو أنَّه لما اختلف نصُّه في بيع النجش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك: هل هو باطلٌ أو لا؟ كان الأشبه بنصِّه البطلان، بناءً على اقتضاء النهي الفساد مطلقًا. اهـ. منه.