الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأمر
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(الأمر: استدعاءُ الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
وقيل: هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. . .، وهو فاسد).
وجه فساد الحدِّ الأخير أنَّ فيه لفظة "المأمور" مرتين، وهى مشتقة من الأمر، فيحصل الدَّور، فيمتنع الفهم.
ومفهوم قوله: "على وجه الاستعلاء" أنَّه إن كان على عكس ذلك فهو دعاء، وإن كان على التساوي فهو التماس، كما قال الأخضريُّ في سلَّمه:
أمر مع استعلا وعكسه دعا
…
وفى التساوي فالتماسٌ وقعا
واشتراطُ الاستعلاء الذي مشى عليه المؤلفُ هو قولُ الفخر الرَّازي، وأبي الحسين، والآمدي، وابن الحاجب، والباجي.
وقيل: يشترط فيه العلوُّ فقط. وهو قولُ المعتزلة، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن الصبَّاغ، والسمعاني.
وقيل: يشترطُ فيه العلوُّ والاستعلاء معًا. وهو قول القشيري، والقاضي عبد الوهاب.
(1)
(2/ 594).
وقيل: لا يشترطُ فيه علوٌّ ولا استعلاءٌ، فيصحُّ من المساوي والأدون على غير وجه الاستعلاء. وهو مذهب المتكلمين، واختاره غيرُ واحد من متأخري الأصوليين.
وأشار في "المراقي" إلى هذه الأقوال بقوله:
وليس عند جلِّ الأذكياء
…
شرطُ علو فيه واستعلاء
وخالف الباجي بشرط التالي
…
وشرط ذاك رأي ذى اعتزال
واشترطا معًا على توهين
…
لدى القشيري وذي التلقين
والاستعلاء: كون الأمر على وجه الغلظة والترفع والقهر.
والعلو: شرف الآمر وعلوُّ منزلته في نفس الأمر.
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(وللأمر صيغة مبينةٌ تدلُّ بمجردها على كونها أمرًا إذا تعرَّت عن القرائن، وهي: افعل للحاضر، وليفعل للغائب، هذا قول الجمهور. . .) إلخ.
اعلم أنَّ الصيغ الدالة على الأمر أربع، وكلها في القرآن، وهي:
1 -
فعل الأمر، نحو {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء/ 78].
2 -
المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
(1)
(2/ 595).
عَنْ أَمْرِهِ} [النور/ 63].
3 -
اسم فعل الأمر، نحو {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة/ 105].
4 -
المصدر النائب عن فعله، نحو {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد/ 4].
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(وزعمت فرقة من المبتدعة أنَّه لا صيغة للأمر؛ بناءً على خيالهم أنَّ الكلام معنى قائمٌ بالنفس، فخالفوا الكتاب والسنةَ وأهل اللغة والعرف. . .) إلخ.
اعلم أنَّ كثيرًا من المتكلمين يزعمون أنَّ كلام اللَّه معنى قائمٌ بذاته مجرَّدٌ عن الألفاظ والحروف.
والأمر عندهم -هو اقتضاءُ الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس المجردِ عن الصيغة.
ولأجل هذا الاعتقاد الفاسد قسموا الأمر إلى قسمين: نفسي، ولفظي.
فالأمر النفسيُّ -عندهم- هو ما ذكرنا.
والأمر اللفظيُّ: هو اللفظُ الدالُّ عليه، كصيغة "افعل".
وأشار إلى مرادهم هذا صاحب "مراقي السعود" بقوله في تعريف النفسي -عندهم- واللفظي:
(1)
(2/ 595).
هو اقتضاءُ فعلٍ غير كفِّ
…
دلَّ عليه لا بنحو كُفِّي
هذا الذي حُدَّ به النفسيُّ
…
وما عليه دلَّ قل لفظيُّ
إذا علمت ذلك، فاعلم أنَّ هذا المذهب باطلٌ، وأنَّ الحقَّ أنَّ كلام اللَّه هو هذا الذي نقرؤه بألفاظه ومعانيه، فالكلامُ كلامُ الباري، والصوت صوت القاري.
وقد صرَّح تعالى بذلك في قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة/ 6]، فصرَّح بأنَّ ما يسمع ذلك المشرك المستجير بألفاظه ومعانيه كلامه تعالى.
وأقام المؤلفُ الحجج على أنَّ ما في النفس إن لم يُتَكَلَّمْ به لا يسمى كلامًا، كقوله في قصة زكريا:{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} [آل عمران/ 41] مع أنه أشار إليهم، كما قال:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} [مريم/ 11] فلم يكن ذلك المعنى القائم بنفسه الذي عبَّر عنه بالإشارة كلامًا.
وكذلك في قصة مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم/ 26] مع قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم/ 29].
وفى الحديث: "إنَّ اللَّه عفا لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به".
واتفق أهل اللسان على أن الكلام: اسمٌ وفعلٌ، وحرفٌ.
وأجمع الفقهاء على أنَّ من حلف لا يتكلم لا يحنثُ بحديث
النفس، وإنَّما يحنثُ بالكلام.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
وإذا أطلق الكلام في بعض الأحيان على ما فى النفس فلا بدَّ أنْ يقيَّد بما يدل على ذلك، كقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} [المجادلة/ 8].
فلو لم يُقيد بقوله: {فِي أَنْفُسِهِمْ} لانصرف إلى الكلام باللسان، كما قرَّره المؤلف رحمه الله.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فأما الدليل على أنَّ هذه صيغة الأمر فاتفاقُ أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرًا. ولو قال رجلٌ لعبده: "اسقني ماءً" عُدَّ أمرًا، وعُدَّ العبدُ مطيعًا بالامتثال).
وهذا واضحٌ.
ومن الواضح -أيضًا- أنه لا يقدح في كون "افعلْ" صيغة أمر كونها قد تردُ لغير ذلك، كالندب في قوله:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور/ 33] على القول به.
والإباحة في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة/ 2].
والإكرام في قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر/ 46].
(1)
(2/ 596).
والإهانة في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان/ 49].
والتهديد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت/ 40].
والتعجيز في قوله: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران/ 168].
إلى غير ذلك من المعاني؛ لأن صيغة "افعل" حقيقة متبادرةٌ في استدعاء الفعل وطلبه، مع أنها تُستعملُ في معنى آخر مع قرينةٍ تبينُ أنَّ المراد ذلك المعنى الآخر.
وهذا لا إشكال فيه، كما أوضحه المؤلف.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
ولا يشترطُ في كون الأمر أمرًا إرادة الآمر. . .) إلخ.
اعلم أنَّ التحقيق في هذا المبحث أنَّ الإرادة نوعان:
إرادةٌ شرعيةٌ دينية، وإرادةٌ كونيةٌ قدرية.
والأمرُ الشرعيُّ إنما تلازمه الإرادة الشرعية الدينية، ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية، فاللَّه أمرَ أبا جهلٍ -مثلًا- بالإيمان، وأراده منه شرعًا ودينًا، ولم يرده منه كونًا وقدرًا؛ إذْ لو أراده كونًا
(1)
(2/ 601).
لوقع، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام/ 107]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35].
فإن قيل: ما الحكمة في أمره بشيء وهو يعلمُ أنه لا يريدُ وقوعه كونًا وقدرًا؟
فالجواب: أنَّ الحكمة في ذلك ابتلاءُ الخلق، وتمييز المطيع من غير المطيع، وقد صرح تعالى بهذه الحكمة، فإنَّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده مع أنَّه لم يُرِدْ وقوع ذبحه بالفعل كونًا وقدرًا، وقد صرَّح بأنَّ الحكمة في ذلك ابتلاء إبراهيم حيث قال:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات/ 106].
فظهر بطلان قول المعتزلة أنه لا يكون أمرًا إلا بإرادة وقوعه.
وقد جرَّهم ضلالهم هذا إلى قولهم: إنَّ معصية العاصي ليست بمشيئة اللَّه؛ لأنه أمرَ بتركها، ولم يُرِدْ إلا التزام الذي أَمَر به؛ لأن الأمر لا يكونُ أمرًا إلا بالإرادة.
فنسبوا إليه تعالى العجز، واستقلال الحادث بالفعل دونه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرا.
وقد يُشاهَدُ السيدُ يأمرُ عبده اختبارًا لطاعته، ونيَّتُه أنه إنْ أظهر الطاعة أعفاهُ من فعلِ المأمور به، فهو أمرٌ دون إرادة وقوع المأمور به لا لبس فيه كما ذكره المؤلفُ رحمه الله.
مسألة
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(إذا ورد الأمرُ متجردًا عن القرائن اقتضى الوجوبَ في قول الفقهاء. . .) الخ.
خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أربعة أقوال:
1 -
أنَّ الصيغة المذكورة للوجوب.
2 -
أنها للإباحة. وحجتُه أنَّا رأينا الأمر قد يأتي لها، كقوله:{فَاصْطَادُوا} [المائدة/ 2]، فنحمله على أدنى الدرجات وهو الإباحة.
3 -
أنَّها للندب. وحجتُه أن صيغة "افعل" تقتضي طلب الفعل، وأدنى درجات الطلب الندبُ، فنحمله عليه.
4 -
الوقف حتى يَرِدَ الدليلُ ببيانه.
والحقُّ أنَّها للوجوب إلَّا بدليل صارفٍ عنه؛ لقيام الأدلة، كقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور/ 63]، فالتحذير من الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر يدل على أنه للوجوب.
وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب/ 36]، فإنه جعل أمر اللَّه ورسوله مانعًا من
(1)
(2/ 604).
الاختيار، وذلك دليل الوجوب.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات/ 48] فهو ذمٌّ لهم على ترك امتثال الأمر بالركوع، وهو دليلُ الوجوب.
وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف/ 12]، فقرَّعه على مخالفة الأمر، وهو دليل الوجوب.
وقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه/ 93]، فهو دليل على أن مخالفة الأمر معصية، وذلك دليل الوجوب.
وقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم/ 6].
إلى غير ذلك من أدلة الكتاب والسنة.
ولا خلاف بين أهل اللسان العربي أنَّ السيد لو قال لعبده: افعل، فلم يمتثل، فأدَّبه لأنَّه عصاه، أنَّ ذلك واقعٌ موقعه، مفهومٌ من نفس صيغة الأمر.
وأشار في "المراقي" إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله:
و"افعل" لدى الأكثرِ للوجوبِ
…
وقيل للندبِ أو المطلوبِ
وقيل للوجوبِ أمرُ الربِّ
…
وأمرُ مَنْ أرسله للندبِ
والحقُّ أنَّ دليل اقتصاء "افعل" للوجوب الشرعُ واللغةُ -كما ذكرنا-، وقيل: العقلُ، كما أشار إليه في المراقي بقوله:
ومفهمُ الوجوبِ يُدْرَى الشرعُ
…
أو الحجا أو المفيد الوضع