الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصول المختلف فيها
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(هذا بيان أصول مختلف فيها، وهي أربعة:
الأول:
شرع من قبلنا
إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، هل هو شرع لنا؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا قبل البعثة باتباع شريعة من قبله؟
فيه روايتان:
إحداهما: أنَّه شرعٌ لنا، اختارها التميمي، وهو قول الحنفية.
الثانية: ليس شرعًا لنا.
وعن الشافعي كالمذهبين).
اعلم -أولًا- أن كونه صلى الله عليه وسلم متعبدًا بعد البعثة بشرع من قبلنا أو غير متعبد به متفرعٌ على الاختلاف في شرع من قبلنا؛ فعلى أنَّه شرع لنا بعد وروده في شرعنا فهو متعبد به، وعلى العكس فلا.
وحاصل ما ذكره المؤلف في هذا الأصل، أن فيه قولين، ورجح أنَّه شرع لنا إن ثبت بشرعنا أنَّه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم ينسخ في شرعنا. وهو مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة.
ومشهور مذهب الشافعي أنَّه ليس شرعًا لنا.
(1)
(2/ 517 - 518).
وحاصل تحرير هذه المسألة: أن لها واسطة وطرفين، طرفٌ يكون فيه شرعًا إجماعًا، وطرفٌ يكون فيه غير شرع لنا إجماعًا، وواسطةٌ هي محلُّ الخلاف المذكور.
أما الطرف الذي يكون فيه شرعًا لنا إجماعًا فهو ما ثبت بشرعنا أنَّه كان شرعًا لمن قبلنا، ثم ثبت بشرعنا أنَّه شرع لنا، كالقصاص، فإنه ثبت بشرعنا أنَّه كان شرعًا لمن قبلنا في قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة/ 45]، ثم صرَّح لنا في شرعنا بأنَّه شرع لنا في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة/ 178].
وأما الطرف الثاني الذي يكون فيه غير شرع لنا إجماعًا فهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلًا، كالمأخوذ من الإسرائيليات.
الثاني: ما ثبت بشرعنا أنَّه كان شرعًا لهم، وصرح في شرعنا بنسخه، كالأصر والأغلال التي كانت عليهم، كما في قوله تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف/ 157].
وقد ثبت في صحيِح مسلم أنَّه صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة/ 286] قال: قال اللَّه: "قد فعلت".
والواسطة: هي ما ثبت بشرعنا أنَّه شرع لمن قبلنا ولم يصرح بنسخه في شرعنا.
وحجة الجمهور أنَّه ما ذكر لنا في شرعنا إلَّا لنعمل به، سواء علينا أكان شرعًا لمن قبلنا أم لا، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة، كتوبيخه
تعالى لمن لم يعقل وقائع الأمم الماضية، كما في قوله تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} [الصافات/ 137 - 138].
وقد صرح تعالى بأن الحكمة في قصِّ أخبارهم إنما هي الاعتبار بأحوالهم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف/ 111].
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام/ 90].
وحجة الشافعي رحمه الله قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة/ 48]، وحمل رحمه الله الهدى في قوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدين في قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى/ 13] على خصوص التوحيد، دون فروعه العملية.
وقال: إن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} لا يشمل حكمه الأمة إلا بدليل منفصل؛ لأنه لا يشملها في الوضع اللغوي، فإدخالها فيه صرف للفظ اللغوي عن ظاهره، فيحتاج إلى دليل.
وأجيب عن استدلال الشافعي بأن النصوص دالة على شمول الهدى والدين في الآيتين للأمور العملية.
أما في الأولى: فقد روى البخاري في صحيحه عن مجاهد أنَّه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فقال: "أَوَمَا تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} حتى بلغ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ}؟ فسجدها داود فسجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فهو تصريح صحيح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قد أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وسجود التلاوة من الفروع العملية، لا من الأصول.
وأمَّا الدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى/ 13] فقد دل الكتاب والسنة على شموله -أيضًا- للأمور العملية، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"، يعني الإسلام والإيمان والإحسان، مع أنه فسر الإسلام فيه بأنه يشمل الأمور العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
وفي حديث ابن عمر المتفق عليه: "بني الإسلام على خمس". الحديث. ومعلوم أن الصلاة والزكاة والصوم والحج أمور عملية لا عقائد.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران/ 19]، وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران/ 85]؛ فدل على أنَّ الدينَ يشمل الأمورَ العلمية كتابًا وسنة.
وبأنَّ الأدلة دلَّت على أنَّ الخطابَ الخاصَّ به صلى الله عليه وسلم يشملُ الأمةَ حكمُه لا لفظُه إلا بدليل على الخصوص، كقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب/ 21]، وقد علمنا من استقراء القرآن أن اللَّه يخاطبُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بخطاب لفظه خاصٌّ، والمقصودُ منه تعميمُ الحكم.
فمن ذلك قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، ثم قال:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق/ 1]، فأفهمَ شمولَه حكمَ الخطابِ للجميع.
وقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم/ 1 - 2].
وقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب/ 1 - 2].
وقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} ثم قال: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس/ 61].
فدل التعميم بعد الخطابِ الخاص به في الآيات المذكورة على عموم حكمِ الخطاب الخاصِّ به.
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم/ 30 - 31] فهو حال من الضمير المستتر في {فَأَقِمْ} وهو خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم، وتقديره:"فأقم وجهك للدين يا نبي اللَّه في حال كونكم منيبين".
فلو لم يشمل الأمة حكمًا لقال: "منيبًا" بالإفراد، لإجماع أهل اللسان العربي على أنَّ الحالَ الحقيقية، أعني التي لم تكن سببية، لا بد من مطابقتها لصاحبها إفرادًا وتثنيةً وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا، فلا يجوز: جاء زيد ضاحكين، إجماعًا، ودعوى أنَّ العامل في الحال "الزموا" مقدَّرًا، وصاحبها الواو فى "الزموا"، أي: الزموا فطرة اللَّه فى حال كونكم منيبين، تقديرٌ لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.
وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ثم قال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب/ 37].
وقال تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب/ 50] مع أن الكلام خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية، فلو كان حكمُه خاصًّا به لأغنى ذلك عن قوله:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
وبأنَّ قولَه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة/ 48] معناه أن بعض الشرائع يُنْسَخُ فيه بعض ما كان فى غيره منها، ويزاد فيها أحكام لم تكن مشروعة مِنْ قبل، وبهذا الاعتبارِ يكونُ لكلٍّ شرعةٌ ومنهاجٌ مِنْ غير مخالفة لما ذكرنا.
قال صاحب "المراقي" فى هذه المسألة:
ولم يكن مكلَّفا بشرع
…
صلى عليه اللَّه قبل الوضع
وهو والأمةُ بعدُ كلفا
…
إلا إذا التكليفُ بالنص انتفى
وقيل: لا، والخلف فيما شرعا
…
ولم يكن داع إليه سمعا