الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
اعلم أنَّ التحقيق في معنى المجملِ عند الأصوليين، هو ما تقدَّمَ في تقسيم الكلام المفيد إلى نصٍّ وظاهر ومجمل، وهو ما احتمل معنيين، كالقرءِ للطهر والحيض، والشفقِ للحمرة والبياض، والمتردد بين معانٍ، كالعين للباصرة، والجارية، والنقد.
وهذا مثال الإجمال بسبب الاشتراكِ في اسمٍ، وقد يأتي بسبب الاشتراك في حرف أو فعل.
مثاله فى الحرف: الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 7]؛ فإنها محتملة للعطف، فيكون الراسخون يعلمون المتشابه، ومحتملة للاستئناف، فيستأثر اللَّه بعلمه.
ولفظة "من" في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة/ 6] محتملةٌ للتبعيض، فيشترط ما له غبار يعلقُ فى اليد، ومحتملة لابتداء الغاية، فلا يشترطُ.
ومثاله فى الفعل: قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} [التكوير/ 17] مشترك بين أقبل وأدبر.
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(وقد يكون
الإجمال في لفظ مركب
، كقوله:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة/ 237] متردد بين الزوج والولي).
(1)
(2/ 571).
وقد يكون بحسب التصريف، كالمختار، يصح لاسم الفاعل واسم المفعول.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:
كلُّ فعل على وزن "افتعل" إذا كان معتلَّ العين أو مضعَّفًا يتحد اسم فاعله واسم مفعوله؛ لأنَّ الكسرة المميِّزة لاسم الفاعل، والفتحة المميِّزة لاسم المفعول، كلتاهما تسقطُ للاعتلال والتضعيف.
مثالُه في معتل العين: المختار، والمصطاد، والمجتاب.
ومثالُه فى المضعَّف: المضطر، والمحتل.
وكذلك كلُّ صيغةِ "فاعل" مضعَّفة، يستوي لفظ اسم فاعلها واسم مفعولها، كما يستوي مضارعها المبني للفاعل ومضارعها المبني للمفعول، كـ "مضار" لهما، و"يضار" للفعلين.
ولأجله اختلف في إعراب {وَالِدَةُ} في قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} [البقرة/ 233] فقيل: فاعل، وقيل: نائب فاعل.
وكذلك {كَاَتِبٌ} و {شَهِيدٌ} في قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة/ 282].
وحكم المجمل: التوقفُ عنه حتى يُعْرَفَ البيان، كما تقدم.
وعرف المجمل في "المراقي" بقوله:
وذو وضوحٍ محكم والمجملُ
…
هو الذي المرادُ منه يجهلُ
تنبيه:
قد يكون الإجمالُ مع الوضوح في وجهٍ آخر، كقوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام/ 141]، فإنَّه واضح في إتيان الحقِّ، مجمل في مقدار الحق، لاحتماله النصف وأقلَّ وأكثر.
وأشار له في "المراقي" بقوله:
وقد يجي الإجمالُ من وجه ومن
…
وجه يراه ذا بيانٍ مَنْ فَطِن
والتحقيقُ أنَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة/ 3] ونحوه، غير مجمل؛ لظهورِه من جهة العرف في تحريم الأكل.
وكذلك قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة/ 275] ليس بمجمل؛ لأنَّه على عمومه إلا ما أخرجه الدليل. وتظهرُ فائدته في حمل بيوع المسلمين على الصحة حتى يقومَ دليل على الفساد.
وكذلك قوله: "لا صلاة إلا بطهور" ليس بمجملٍ أيضًا؛ لأنَّ المراد نفي الصحة، وإن شئت قلت: نفي الصلاةِ بمعنى حقيقتها الشرعية. والمعنيان متلازمان؛ لأنَّ الصحة كلما وُجدت فحقيقة الصلاة الشرعية موجودةٌ، وكلما عدمت فهي معدومةٌ.
والتحقيقُ -أيضًا- في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عمل إلا بنيةٍ" أنَّه غيرُ مجملٍ -أيضًا-.
وحاصل تحرير المقام فيه: أنَّ العمل إن كان عبادةً، كالصلاة، فالمرادُ فيه نفيُ الصحة والاعتماد. وإن شئت قلت: نفي العمل باعتبار
حقيقته الشرعية، كما قدَّمنا في مبحث:"لا صلاة إلا بطهور".
وإن كان معاملةً فهو يصحُّ ويعتدُّ به دون النية إجماعًا، والنفيُ فيه ينصبُّ على انتفاء الأجر؛ فمن أنفق على زوجته، وقضى الدين، وردَّ الأمانة والمغصوب، لا يريد بشيء من ذلك وجه اللَّه، فإنَّ المطالبة تسقطُ عنه، ويصحُّ فعلُه، ويعتدُّ به، ولكن لا أجر له، وكذلك جميع التروك.
وكل هذه المسائل التي ذكرنا أنَّها غيرُ مجملةٍ، قال فيها بعضُ العلماء بالإجمال، مستدلًا بأنَّ الصورة غيرُ منفيةٍ؛ فالمنفي إذًا غيرُها، ولم يصرح به فإنَّه محتمل، وإذًا فهو مجملٌ.
وقد علمت التحقيق فيه، وأنَّه غيرُ مجمل، وإليه الإشارةُ بقول، صاحب "المراقي":
والنفي للصلاة والنكاح
…
والشبه محكم لدى الصحاحِ
وكذلك خبرُ: "رُفِعَ عَنْ أمتي الخطأُ والنسيانُ" على تقدير ثبوت هذا اللفظِ، ليس بمجمل -أيضًا-؛ لانَّ العرف يبينُ أنَّ المراد رفع المؤاخذةِ، وهو الحقُّ، ولا يلزم من ذلك رفعُ ضمان ما أتلفه خطأ أو نسيانًا؛ لأنَّ ضمان المتلفات وأروش الجنايات من خطاب الوضع، ولذا يلزم الصبي مع أنَّ القلم مرفوع عنه، ويجب على العاقلة في دية الخطأ مع أنَّهم لا علم لهم بالجناية.
وما ذكره المؤلفُ عن أبي الخطاب من أنَّ إرادة نفي المؤاخذة لا تصحُّ؛ مستدلًا بأنَّه لو أراد نفي الإثم لم يكن لهم في هذه الأمة مزية؛
لأنَّ الناسي غيرُ مكلَّف في جميع الشرائع، فيه عندي أمران:
أحدهما: أنَّ رفع إثم الناسي والمخطئ من غير هذه الأمة غيرُ مسلَّم؛ لورود أدلة تدلُّ على اختصاص هذه الأمة بعفو الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
منها: هذا الحديث الذي نحن بصدده، فقوله:"عن أمتي" يفهم منه أنَّ غيرها ليس كذلك.
ومنها: حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النارَ في ذباب قرَّبه لصنم، مع أنه مكره بالخوف من القتل؛ لأنَّهم قتلوا صاحبه لمَّا أبى عن ذلك.
ومنها: أنَّ قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة/ 286] وقول اللَّه: "قد فعلت" كما ثبت في صحيح مسلم، يدلُّ على أنَّ المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا، إذ لو كانت مرفوعة عن كلِّ أحد لما دعت ضرورة إلى ذلك الدعاء، وإظهار الكرامة بالإجابة بقوله:"قد فعلتُ"؛ فظاهرُ الامتنان أنَّه خاصٌّ بنا.
ويُستأنسُ لهذا بما ذكره البغوي عن الكلبى من أنَّ من قبلنا كانوا يؤاخذون بالخطأ والنسيان.
وقد قال اللَّه تعالى في آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115]، وقال:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه/ 121]؛ فأضاف إليه العصيان والنسيان؛ فدلَّ على المؤاخذةِ به.
وأمَّا على القول بأنَّ "نسي" بمعنى ترك فلا دليل فى الآية.
ومن الأدلة على مؤاخذتهم فى الإكراه: قولُه تعالى عن أصحاب الكهفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف/ 20]، فهذا صريح فى الإكراه، مع أنَّهم قالوا:{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف/ 20] فدلَّ على عدم عذرهم به.
ثانيهما: هو أنَّا نقول: متعلق الرفع في قوله: "رفع عن أمتي. . " الخ، لا بدَّ أن يكون أحدَ أمرين، أو كليهما، وهما: الإثم والضمان؛ إذْ لا وصفَ يتعلق به الرفعُ إلا الإثم والضمان.
والإثمُ مرفوعٌ قطعًا؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب/ 5]، وقوله في الحديث القدسي:"قد فعلتُ"، كما تقدم.
والضمان غير مرفوع إجماعًا؛ لتصريحه تعالى بضمان المخطئ في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء/ 92] إلى قوله: {إِلَى أَهْلِهِ} [النساء/ 92].
فاتضح أنَّ الإثم مرفوع، وأنَّ الضمان غيرُ مرفوع؛ فتعيَّن كونُ المرفوع متعلقَ الرفع في الحديث [هو الإثمُ]، كما هو واضح.