الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلتُ: تحرير المقام في هذه المسألةِ أنَّ العامَّ الواردَ على سبب خاصٍّ، له ثلاثُ حالات:
الأولى: أن يقترنَ بما يدلُّ على العموم، فيعمُّ إجماعًا، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، لأنَّ سبب نزولِها المخزوميةُ التي قطعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يدها، والإتيانُ بلفظ السارق الذكرِ يدلُّ على التعميم.
وعلى القول بأنَّها نزلتْ في الرجل الذي سرقَ رداءَ صفوانَ بن أُميَّةَ في المسجد، فالإتيانُ بلفظ السارقة الأنثى دليل على التعميم أيضًا.
الثَّانية: أن يقترنَ بما يدلُّ على التخصيصِ، فيخصُّ إجماعًا، كقوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب/ 50].
الثَّالثة: ألا يقترن بدليل التعميم ولا التخصيص، وهي مسألة المؤلف. والحقُّ فيها أنَّ العبرة بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السبب، فيعمُّ حكم آية اللعان النازلة في عويمر العجلاني وهلال، وآية الظهَارِ النازلة في امرأة أوس بن الصَّامت، وآية الفديةِ النَّازلة في كعب بن عُجرة، وآية {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء/ 7] النازلة في ابنتي سعد بن الرَّبيع. وهكذا.
تنبيه:
فإن قيلَ: ما
الدليلُ على أنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السبب
؟
فالجوابُ: أنَّ ذلك دلَّ عليه الوحيُ واللغة.
أمَّا الوحيُ فإنَّ هذه المسألةَ سئل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأفتى بذلك، وذلك أنَّ الأنصاريَّ الذي قبَّل الأجنبية، ونزلت فيه {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية، [هود/ 114]. قال للنبيِّ: أَلِيَ هذا وحدي يا رسول اللَّه؟
ومعنى ذلك: هل حكمُ هذه الآية يختصُّ بي لأنَّي سببُ نزولها؟
فأفتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ العبرةَ بعمومِ لفظِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} لا بخصوصِ السبب، حيثُ قال له:"بل لأمتي كلِّهم".
وهو نصٌّ نبويٌّ في محلِّ النزاع.
ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك: أنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أيقظَ عليًّا وأمره وفاطمةَ بالصَّلاةِ من الليل، وقال له علي رضي الله عنه: إنَّ أرواحنا بيد اللَّه إنْ شاء بعثنا، ولَّى صلى الله عليه وسلم يضربُ فخذَه ويقول:" {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} "[الكهف/ 54]، فجعل عليًّا داخلًا فيها مع أنَّ سببَ نزولِها الكفارُ الذين يجادلون في القرآن.
وخطابُه صلى الله عليه وسلم لواحدٍ كخطابه للجميعِ -كما تقدم- ما لم يقُم دليلٌ على الخصوص.
وأمَّا اللغةُ فإنَّ الرجلَ لو قالت: له زوجتُه: طلِّقني، فطلَّق جميع نسائه، لا يختصُّ الطلاقُ بالطالبةِ التي هي السبب.
والتحقيقُ عن مالكٍ أنَّه يوافقُ الجمهورَ في هذه المسألةِ خلافًا لما ذكره عنه المؤلف.
وأشار في "المراقي" إلى أنَّ السبب لا يخصصُ عموم اللفظِ عند مالكٍ بقوله:
والعرف حيث قارن الخطابا
…
ودع ضميرَ البعضِ والأسبابا
وجمهورُ أهل الأصول على أنَّ صورة السبب قطعية الدخول في العامِّ، فلا يجوز إخراجها منه بمخصص، وهو التحقيق. وروي عن مالك: أنَّها ظنية الدخول كغيرها من أفراد العام.
وأشار له في "المراقي" بقوله:
واجزمْ بإدخالِ ذواتِ السبب
…
واروِ عن الإمامِ ظنًّا تُصِبِ
يعني بالإمامِ: مالكًا رحمه الله.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
قولُ الصحابيِّ: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنةِ، وقضى بالشفعةِ فيما لم يُقسم"، يقتضي العمومَ. وقال قوم: لا عموم له. . .) إلخ.
هذه المسألةُ يترجمُ لها عند الأصوليين بـ "حكاية الصحابي فعلًا ظاهره العموم" نحو: "نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر"، و"حكم بالشاهدِ واليمين"، ونحو ذلك.
وأكثرُهم يقولون: لا يعمُّ كلَّ غررٍ وكلَّ شاهدٍ -مثلًا-، زاعمين أنَّ
(1)
(2/ 698).
الحجةَ في المحكي لا في الحكاية، والمحكيُّ غيرُ عامٍّ.
والمؤلفُ يجزمُ باقتضائه العمومَ، وهو الذي اختاره ابنُ الحاجب، والفهري، والقرافي، وغير واحد.
قلت: واقتضاؤه العمومَ هو الحقُّ؛ لأنَّ الصحابيَّ عدلٌ عارفٌ، فلا يروي ما يدلُّ على العمومِ إلَّا وهو جازمٌ بالعموم.
والحقُّ جوازُ نقل الحديثِ بالمعنى، وعدالةُ الصحابيِّ تنفي احتمالَ منافاةِ حكايته لما حكى، كما هو ظاهرٌ.
وقد حققهُ القرافيُّ بإيضاح.
وتبع في "المراقي" الأكثر القائلين بعدم العموم في هذه المسألة، فقال -عاطفًا على ما لا يعمُّ على الصحيح عنده-:
وسائرٌ حكايةُ الفعلِ بما
…
منه العمومُ ظاهرًا قد علمًا
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
وما ورَد مِنْ خطاب مضافٍ إلى النَّاس والمؤمنين دخل فيه العبد. . .) إلخ.
حاصلُه أنَّ العبيد داخلون في الخطاباتِ العامة، نحو:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} الآية [النساء/ 1، الحج/ 1، لقمان/ 33]، وقوله: {وَتُوبُوا
(1)
(2/ 701).
إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور/ 31]، وقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 110]؛ لأنهم من جملة النَّاس والمؤمنين والأمة، ومِنْ جملةِ المكلَّفين.
وقال قومٌ: لا يدخلون إلَّا بدليل خاصٍّ؛ لخروجهم في كثير من العمومات، كالحجِّ، والميراثِ، ووجوبِ الجمعةِ، ونحو ذلك.
وأجيبَ عنه: بأنهم داخلون إلَّا إذا دلَّ دليلٌ على إخراجهم. وهذا هو الظاهرُ. واعتمد في "المراقي" دخولَهم بقوله:
والعبدُ والموجودُ والذي كفر
…
مشمولة له لدى ذوي النظر
وقول المؤلف
(1)
في هذا الفصل: (ويدخُلُ النساءُ في الجمع المضاف إلى النَّاسِ وما لا يتبين فيه لفظ التذكير والتأنيث. .) إلخ.
خلاصتُه: أنَّ له طرفين وواسطةً:
أ - طرفٌ يدخلُ فيه النساءُ مع الرجال اتفاقًا، نحو: الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ، وكأدوات الشرطِ نحو "مَنْ".
ب - وطرفٌ لا يدخلن فيه معهم إجماعًا، نحو: الرجال والذكور، كما لا يدخل الرجال في لفظ النساء والأناث، ونحو ذلك.
ج- وواسطةٌ اختلفَ فيها، وهي: الجموعُ المذكرةُ السالمةُ، كالمسلمين، وضمائر جماعةِ الذكور، نحو:{كُلُوا وَاشْرَبُوا} .
(1)
(2/ 701).
والمؤلفُ يميلُ إلى دخولهم في الجموع المذكرةِ ونحوها، وذكر أنَّه اختيارُ القاضي، وقولُ بعضِ الحنفية، وابن داود، وعزا عدمَ دخولهنَّ للأكثرين، وهو اختيارُ أبي الخطاب.
قلتُ: واحتجَّ كل من الفريقينِ بالقرآن الكريم، كالآتي:
أ - احتجَّ من قالَ بدخولهنَّ في جموع التذكيرِ ونحوها بقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم/ 12]، وقوله:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف/ 29]، وقوله:{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل/ 43].
وفي ضمائر المذكرِ بقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} الآية [البقرة/ 38]؛ فإنَّ الضمير يتناول حواء إجماعًا.
ب - واحتج من قال بعدم دخولهنَّ بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب/ 35]، وقوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية [النور/ 30]، ثم قال:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية [النور/ 31]، والعطفُ يقتضي عدم الدخول، وقوله تعالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب/ 73].
واحتجَّ المؤلفُ وغيرُه لدخولهنَّ بأنَّ المذكَّر يغلبُ في الجمعِ على المؤنث.
وأجاب المخالفون بأنَّ الخلاف ليس في جواز التغليبِ المذكور، وإنَّما هو في الظهورِ والتبادرِ من اللفظ.
تنبيه:
ظاهرُ كلام المؤلف رحمه الله أنَّ أدوات الشرط نحو "مَنْ" مجمعٌ على شمولها للنساء، مع أنَّ ذلك خالف فيه جماعةٌ من الحنفية.
وقال إمامُ الحرمين: لفظُ "مَنْ" يتناولُ الأنثى باتفاقِ كلِّ من يُنسبُ للتحقيقِ من أرباب اللسان والأصول، وقالت شرذمة من الحنفية: لا
يتناولهنَّ، فقالُوا في قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه": إنَّه لا يتناولُ المرأة، فلا تقتلُ عندهم المرتدةُ بناءً على ذلك.
قلتُ: ومن الأدلة القرآنية على دخول النساء في لفظ "مَنْ" قولُه تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء/ 124]، وقوله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} الآية [الأحزاب/ 30]، {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} الآية [الأحزاب/ 31].
وأشار إلى مسألة "مَنْ" والجمع المذكر السالمِ ونحوه في "المراقي" بقوله:
وما شمولُ مَنْ للأنثى جنفُ
…
وفي شبيه المسلمين اختلفوا
قال المؤلفُ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
العامّ إذا دخله التخصيصُ يبقى حجةً فيما لم يخصَّ عند الجمهور. وقال أبو ثورٍ وعيسى بن أبان: لا يبقى حجةً؛ لأنَّه يصيرُ مجازًا، فقد خرج الوضعُ من أيدينا ولا قرينةَ تفصلُ وتحصلُ، فيبقى مجملًا.
ولنا: تمسكُ الصحابة رضي الله عنهم بالعمومات، وما من عموم إلَّا وقد تطرَّق إلي تخصيص إلَّا اليسير. . .) إلخ.
معنى كلامه ظاهرٌ، وهو مذهب الجمهورِ، وهَو الحقُّ.
ولا يخفى أنَّ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24]-مثلًا- إذا بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يخرجُ منه جمعُ المرأةِ مع عمتها أو خالتها، يبقى عمومه حجةً فيما سوى ذلك.
وإلى هذه المسألة أشار في "المراقي" بقوله:
وهو حجة لدى الأكثرِ إنْ
…
مخصصٌ له معيَّنًا يَبِن
والقولُ بأنَّه لا يبقى حجةً في الباقي بعد التخصيص يلزمه بطلانُ جلِّ عموماتِ الكتاب والسنة؛ لأنَّ الغالب عليها التخصيص، والتخصيصُ لا يقدحُ في دلالة اللفظِ على الباقي، كما أنَّ قوله تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت/ 14] لا يقدحُ فيه
(1)
(2/ 706).
إخراج الخمسين بالاستثناءِ في صحة لبثه فيهم تسعمائة وخمسين -كما هو ظاهر-.
وقولُهم: لا قرينةَ تفصلُ، مردودٌ بأنَّ اللفظَ شاملٌ للكلِّ بحسب الوضعِ، فلا يخرجُ منه إلَّا ما أخرجه دليلٌ.
قال المؤلف
(1)
-رحمه اللَّه تعالى-:
(فصل
واختار القاضي أنَّه حقيقةٌ بعد التخصيص، وهو قولُ أصحاب الشافعي، وقال قوم: يصيرُ مجازًا على كلِّ حال. . .) إلخ.
حاصلُ ما يقولُه الأصوليون في هذا المبحث أنَّ تخصيص العامّ ينقسمُ إلى عامٍّ مخصوصٍ، وعام أريد به الخصوص:
أ - فالعامُّ المرادُ به الخصوص عندهم مجازٌ من غير خلافٍ بينهم.
ب - والعامُّ المخصوصُ فيه عندهم طرق:
الأولى: أنَّه يصيرُ مجازًا -أيضًا-. وعزاه غيرُ واحدٍ للأكثر، واختاره ابن الحاجبِ والبيضاويُّ وغيرهما. وعزاه القرافيُّ لبعض أصحاب مالكٍ، وأصحابِ أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي.
والثانية: أنَّه حقيقةٌ في الباقي. وذكر المؤلف أنَّه اختيارُ القاضي، واختاره -أيضًا- صاحب "جمع الجوامع"، وعزاه لوالده والفقهاء.
(1)
(2/ 709).
وهو أظهرها.
وقال الغزاليُّ: إنَّه مذهب الشافعيِّ.
وعزاه القرافيُّ لبعض أصحاب مالكٍ، وأصحابِ الشافعي، وأصحابِ أبي حنيفة.
وحجةُ هذا القول: أنَّ تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص، لأنَّه يتناولُه بحسب الوضع الأصلي. وهو واضحٌ.
واحتجَّ المانعون بأنَّ أصل الوضع يتناولهُ مع غيره لا دونه، والشيءُ مع غيرِه غيرُه، لا معَ غيرِه.
ولا يخفى أنَّ الأوَّل أظهر.
الثَّالثة: إن خُص بما لا يستقلُّ بنفسه، كالاستثناء والشرط والصفة والغاية، فهو حقيقةٌ، وإن خُصَّ بمستقلٍّ مِنْ سمع أو عقلٍ فهو مجازٌ. وعزاه الآمديُّ والأبياريُّ للقاضي أبي بكر.
وهذه الطرق هي التي أشار إليها المؤلفُ، وفيه أربعة أقوالٍ غيرها:
الأوَّل: أنَّه حقيقةٌ إنْ كان الباقي غير منحصرٍ؛ لبقاء خاصية العموم. وبه قال ابنُ فورك.
الثَّاني: أنَّه حقيقةٌ في تناول ما بقي، مجاز في الاقتصار عليه. وبه قال إمام الحرمين، وضعفه الأبياري.