المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ - مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر- ط عطاءات العلم

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌حقيقة الحكم وأقسامه

- ‌(أقسامُ أحكام التكليف

- ‌(ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌المندوب

- ‌المباح

- ‌ الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها

- ‌المكروه

- ‌الأمرُ المطلقُ لا يتناول المكروه

- ‌الحرام

- ‌ خطابُ الكفَّار بفروع الإسلام:

- ‌ الشروط المعتبرةُ لفعل المكلَّف به

- ‌المقتضى بالتكليف فعلٌ وكفٌّ

- ‌ العلة

- ‌ السبب

- ‌ الشرط

- ‌ الصحة

- ‌ الفساد

- ‌باب أدلة الأحكام

- ‌كتاب اللَّه

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌(باب النسخ

- ‌ الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌ نسخُ الأمر قبل التمكن

- ‌ نسخ العبادة إلى غير بدل

- ‌ النسخ بالأخف والأثقل

- ‌ نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد

- ‌ نسخ السنة بالقرآن

- ‌ نسخ القرآن بالسنة المتواترة

- ‌ النسخ بالقياس

- ‌ما يُعرف به النسخ:

- ‌السُّنَّة

- ‌حدُّ الخبر:

- ‌ العلمُ الحاصلُ بالتواتر

- ‌ ما حصل به العلم في واقعة يحصل به في غيرها

- ‌ أخبارُ الآحاد

- ‌ حصول العلم بخبر الواحد

- ‌ التعبد بخبر الواحد سمعًا

- ‌ خبرُ مجهول الحال

- ‌ التزكية والجرح

- ‌ تعارض الجرحُ والتعديل

- ‌ الدليل على جواز الرواية والعملِ بالإجازة

- ‌زيادة الثقةُ

- ‌ الرفع والوصل نوعٌ من الزيادة

- ‌ رواية الحديث بالمعنى

- ‌ نقل الحديث بالمعنى في التَّرجمة

- ‌ الإجماع

- ‌ اعتبارِ علماء العصرِ من أهل الاجتهاد

- ‌إجماعُ أهل المدينة ليس بحجةٍ

- ‌إجماعُ أهل كلِّ عصر حجةٌ

- ‌ الإجماع السكوتي

- ‌ مستندِ الإجماع

- ‌الأخذُ بأقل ما قيلَ

- ‌الأصول المختلف فيها

- ‌ شرع من قبلنا

- ‌قول الصحابي

- ‌قول الصحابي الذي ليس له حكمُ الرفعِ

- ‌الاستحسان

- ‌الاستصلاح

- ‌ التأويل

- ‌التأويل الفاسد، والتأويل البعيد

- ‌ المجمل

- ‌ الإجمال في لفظ مركب

- ‌ البيان

- ‌ لا يجوزُ تأخير البيان عن وقت الحاجة)

- ‌ تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة:

- ‌باب الأمر

- ‌ الأمرِ بعد الحظر

- ‌الأمرُ المطلقُ لا يقتضى التكرارَ

- ‌الواجبُ المؤقتُ لا يسقطُ بفواتِ وقته

- ‌ الأمر يقتضي الإجزاءَ بفعل المأمور به

- ‌الأمر بالأمر بالشيء

- ‌ألفاظ العموم خمسةُ

- ‌أقلُّ الجمع

- ‌ الدليلُ على أنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السبب

- ‌ تخصيص العموم إلى أن يبقى واحدٌ

- ‌اللفظ العامُّ يجبُ اعتقادُ عمومه

- ‌ الأدلة التي يُخصُّ بها العمومُ

- ‌فصل في الاستثناء

- ‌ تعدد الاستثناء

- ‌إذا تعقب الاستثناءُ جُمَلًا

- ‌ الشرط

- ‌ المطلق والمقيد

- ‌ إذا كان هناك مقيدان بقيدين مختلفين

- ‌ دلالةُ الاقتضاء

- ‌ دلالة الإشارة:

- ‌ دلالةُ الإيماء والتنبيه:

- ‌ مفهومُ الموافقة

- ‌الفرقُ بين مفهوم الصفة ومفهومِ اللقب:

- ‌ موانع اعتبارِ مفهوم المخالفة

- ‌باب القياس

- ‌ تحقيقُ المناطِ

- ‌ تنقيحُ المناط

- ‌ تخريج المناط

- ‌ إثباتِ القياسِ على منكريه

- ‌(أوجه تطرقِ الخطأ إلى القياس)

- ‌أَضْرُبُ إثباتِ العلةِ بالنقل:

- ‌أضربُ إثباتِ العلةِ بالاستنباطِ

- ‌ المناسبة

- ‌الدورانِ

- ‌النقضُ برائحة الخمر

- ‌الطرد

- ‌ قياسِ الشَّبه

- ‌ غلبةَ الأشباهِ

- ‌ قياس الدلالة

- ‌أركان القياس

- ‌ العلة:

- ‌ اطراد العلةِ

- ‌المستثنى من قاعدةِ القياسِ

- ‌ الصفاتِ الإضافيةِ

- ‌ تعليلُ الحكم بعلتين)

- ‌ إجراءُ القياس في الأسباب)

- ‌(فصل القوادح

- ‌الأول: الاستفسار:

- ‌السؤالُ الثاني: فساد الاعتبار:

- ‌فائدة:

- ‌السؤالُ الثالث: فساد الوضع:

- ‌تنبيهان:

- ‌السؤال الرابع: المنع:

- ‌السؤالُ الخامس: التقسيم:

- ‌(ويشترطُ لصحةِ التقسيمِ شرطان):

- ‌السؤال السادس: المطالبة:

- ‌السؤال السابع: النقض:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيهات:

- ‌السؤال الثامن: القلب:

- ‌السؤال التاسع: المعارضة:

- ‌السؤال العاشر: عدمُ التأثير:

- ‌تنبيهان:

- ‌السؤال الحادي عشر: التركيب:

- ‌السؤال الثاني عشر: القول بالموجب:

- ‌تنبيهان:

- ‌ التقليد)

- ‌ ترتيب الأدلة

- ‌الترجيح

- ‌ الترجيح: بأمرٍ يعودُ إلى المتن

- ‌ النكرة في سياق النفي

- ‌العامُّ الذي لم يدخله تخصيصٌ مقدم على العامِّ الذي دخله تخصيصٌ

- ‌ الترجيح بين علل المعاني

- ‌ الترجيح بين المرجحات

- ‌ المرجحات يستحيل حصرها

- ‌مسائل كتاب الاستدلال

الفصل: وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس/ 60]، ونحو ذلك من الآيات.

وقد دلَّ القرآنُ على أنَّ من يحكم غير شرع اللَّه، يتعجب من دعواه الإيمان، وإذا كان زعمه أنَّه مؤمنٌ مع تحكيم غير الشرع أمرًا يتعجب منه، دلَّ ذلك على أنَّ دعواه الإيمان دعوى كاذبة وبعيدة وعجيبة، وذلك قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء/ 60].

وقول المؤلف

(1)

: (الإجماعُ يدلُّ على السنة. . .) إلى آخره، يأتي إيضاحه في الإجماع.

فصل

قال المؤلف

(2)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(و‌

‌كتاب اللَّه

سبحانه هو كلامه، وهو القرآن الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم. . .) إلى آخره.

اعلم أنَّ هذا القرآن المكتوب في المصاحف الذي أوله سورة الفاتحة وآخره سورة الناس، هو كلام اللَّه تعالى بألفاظه ومعانيه، كما صرَّح تعالى بأن هذا المسموع هو كلام اللَّه في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ

(1)

(1/ 264).

(2)

(1/ 266).

ص: 78

الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة/ 6]، فصرَّح بأنَّ هذا الذي يسمعه هذا المشرك المستجير هو كلام اللَّه، فالكلام كلام الباري، والصوتُ صوت القاري.

وما يزعمه بعضُهم من تجريد كلامه جلَّ وعلا عن الحروف والألفاظ، وأنَّ التوراة هي القرآن والإنجيل، وأنَّ القرآن هو التوراة والإنجيل، وأنَّ الاختلاف إنما هو بحسب التعلق فقط، كلُّ ذلك باطل، ومخالف لما عليه أهل الحقِّ.

فالقرآن هو بألفاظه ومعانيه كلام اللَّه، ومن ادعى أنَّ تأليف لفظه من فعل مخلوف عبَّر عن تلك المعاني القائمة بالذات بعبارةٍ من نفسه، وأنَّ اللَّه خلق له علمًا بذلك، فعبرَّ عنه من تلقاء نفسه، فهذا من أبطل الباطل، ولو كان اللفظ لمخلوق لما جاز التعبد به، والتقرب إلى اللَّه بالصلاة به، ولجاز حمل المحدث له كسائر كلام المخلوقين، إلى غير ذلك.

فالحاصلُ أنَّ هذا القرآن المحفوظ في الصدور، المقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، هو كلام اللَّه تعالى بألفاظه ومعانيه، تكلَّم به اللَّه تعالى فسمعه جبريل منه، وتكلم به جبريل فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم منه، وتكلَّم به النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته منه أمته وحفظته عنه، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القاري، قال اللَّه تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة/ 6].

وعرَّف القرآن في "المراقي" بقوله:

ص: 79

لفظٌ منزَّل على محمد

لأجل الاعجاز وللتعبد

فصرَّح بأنَّ القرآن لفظ، أي مشتمل على تلك المعاني العظيمة، لا مجرد المعنى القائم بالذات المجرَّد عن الألفاظ والحروف.

والكتابُ هو القرآن بلا شكَّ، ومن ادَّعى أنَّه غيره كما نسبه المؤلف لقوم، فإنَّ مقصودهم بالتغاير تغاير المفهوم لا تغاير المصدوق، فإنَّ ما يصدق عليه القرآنُ هو ما يصدق عليه الكتاب، وهو هذا القرآن العظيم، وإنْ كان التغاير حاصلًا في مفهومهما، فإنَّ مفهوم الكتابة هو اتصاف هذا القرآن بأنه مكتوب، ومفهوم القرآن هو اتصافه بأنه مقروء، والكتابةُ غير القراءة بلا شك، ولكن ذلك الموصوف بأنه مكتوب هو بعينه الموصوف بأنَّه مقروء، فهو شيء واحد موصوف بصفتين مختلفتين، ومن هنا ظهر لك أن القرآن والكتاب واحد باعتبار المصدوق، وإن تغاير باعتبار المفهوم.

وكتابُ اللَّه هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، ولا خلاف بين العلماء في قراءة السبعة: نافع المدني، وابن كثير المكي، وابن عامر الشامي، وأبي عمرو البصري، وعاصم وحمزة والكسائي الكوفيين، وكذلك على الصحيح قراءة الثلاثة: أبي جعفر، وخلف، ويعقوب.

قال في "المراقي":

مثل الثلاثة ورجح النظر

تواترًا لها لدى من قد غبر

تواتر السبع عليه أجمعوا

ولم يكن في الوحي حشو يقع

ص: 80

تنبيه:

اختلفَ العلماء في البسملة، هل هي آيةٌ من أولِ كلِّ سورةٍ، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقًا؟

أما قوله في سور النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل/ 30] فهي آية من القرآن إجماعًا، وأمَّا سورة براءة فليست البسملة آية منها إجماعًا، واختُلف فيما سوى هذا.

فذكر بعض أهل الأصول أنَّ البسملة ليست من القرآن.

وقال قومٌ: هي منه في الفاتحة فقط.

وقيل: هي آية من أول كل سورة. وهو مذهب الشافعي رحمه اللَّه تعالى.

قال مقيده -عفا اللَّه عنه-:

ومن أحسن ما قيل في ذلك: الجمعُ بين الأقوال بأنَّ البسملة في بعض القراءات كقراءة ابن كثيرٍ آيةٌ من القرآن، وفي بعض القراءات ليست آية، ولا غرابة في هذا.

فقوله في سورة الحديد: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد/ 24]، لفظة (هو) من القرآن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وليست من القرآن في قراءة نافع وابن عامر؛ لأنهما قرآ:{فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وبعض المصاحف فيه لفظة (هو) وبعضُها ليست فيه، وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ

ص: 81

عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة/ 115 - 116] فالواو من قوله: (وقالوا) في هذه الآية من القرآن، على قراءة السبعة غير ابن عامر، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن؛ لأنه قرأ:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} بغير واو وهي محذوفة في مصحف أهل الشام.

وقس على هذا، وبه تعرف أنه لا إشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض، وبذلك تتفق أقوال العلماء.

وأشار إلى هذا الجمع في "المراقي" بقوله:

وليس للقرآن تعزى البسملة

وكونها منه الخلافي

(1)

نقله

وبعضهم إلى القراءة نظر

وذاك للوفاق رأي معتبر

فصل

قال المؤلف

(2)

رحمه الله:

(فأمَّا ما نقلَ نقلًا غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فقد قال قوم: ليس بحجة، لأنه خطأ قطعًا. . .) إلى آخره.

خلاصة ما ذكره في هذا الفصل، أنَّ ما نُقِلَ آحادًا كقراءة (متتابعات) المذكورة لا يكون قرآنا، وهذا لا خلاف فيه، وهل يجوز

(1)

الخلافي: أي المخالف، أي أن المخالف نقل كون البسملة من القرآن الكريم. "عطية".

(2)

(1/ 269).

ص: 82

الاحتجاج به مع الجزم بأنَّه ليس قرآنًا؟

قال جمع من أهل الأصول: لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنَّه رواه على أنه قرآن، فلمَّا بطل كونه قرآنًا بطل الاحتجاج به من أصله.

وقال قوم: يجوزُ الاحتجاج به كأخبار الآحاد؛ لأنَّه لا يخرج عن كونه مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم ومرويًّا عنه، وهذا هو اختيار المؤلف، وعليه فلا مانع من أخذ لزوم التتابع في صوم كفارة اليمين من قراءة ابن مسعود:(متتابعات)، وإن جزمنا أنها ليست من القرآن.

تنبيه:

الأشياء التي لابدَّ منها في ثبوتِ القرآن ثلاثة عند بعضهم، ونظمها ابنُ الجزري بقوله:

وكل ما وافق وجهًا نحوي

وكان للرسم احتمالًا يحوي

وصح إسنادًا هو القرآن

فهذه الثلاثة الأركان

والجمهور يشترطون فيه التواتر.

فصل

قال المؤلف

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-:

(والقرآنُ يشتملُ على الحقيقة والمجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضعه الأصلي على وجه يصح، كقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ

(1)

(1/ 272 - 273).

ص: 83

مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء/ 24]، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف/ 82]، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف/ 77]، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء/ 43] و [المائدة/ 6]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى/ 40]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة/ 194]، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب/ 57] أي أولياء اللَّه، وذلك كله مجاز؛ لأنه استعمال اللفظ في غير موضعه، ومن منع فقد كابر، ومن سلَّم وقال: لا أسميه مجازًا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه).

معنى كلامه واضحٌ ظاهر.

واعلم أنَّ ممن منع القول بالمجاز في القرآن ابنُ خويز منداد من المالكية، وأبا الحسن الخرزي البغدادي الحنبلي، وأبا عبد اللَّه بن حامد، وأبا الفضل التميمي، وداود بن علي، وابنه أبا بكر، ومنذر بن سعيد البلوطي وألف فيه مصنفًا، وقد بينَّا أدلة منعه في القرآن في رسالتنا المسماة "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز".

ومن أوضح الأدلة في ذلك أنَّ جميع القائلين بالمجاز متفقون على أن من الفوارق بينه وبين الحقيقة أنَّ المجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا على فرسه، هو ليس بأسد وإنَّما هو رجل شجاع، والقول في القرآن بالمجاز يلزم منه أن في القرآن ما يجوز نفيه، وهو باطل قطعًا، وبهذا الباطل توصَّل المعطِّلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة للَّه تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بدعوى أنَّها مجاز، كقولهم في {اسْتَوَى}: استولى، وقس على ذلك غيره من نفيهم للصفات عن طريق المجاز.

ص: 84

أمَّا الآيات التي ذكرها المؤلف فلا يتعين في شيء منها أنَّه مجاز.

أما قولُه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء/ 24] فليس المراد به أنَّ للذل جناحًا، وإنْ كان كلام العلَّامة ابن القيم رحمه الله يقتضيه، وظنَّ أبو تمَّام أنه معنى الآية لَّما قيل له: صُبَّ في هذا الإناء من ماء الملام، يعني قوله:

لا تسقني ماء الملام فإنني

صَبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي

فقال: هات ريشة من جناح الذلِّ، حتى أصبَّ لك من ماء الملام.

بل المراد بالآية الكريمة كما يدلُّ عليه كلام جماعة أهل التفسير أنها من إضافة الموصوف إلى صفته، أي واخفض لهما جناحك الذليل لهما من الرحمة، ونظيره من كلام العرب قولهم: حاتم الجود، أي الموصوف بالجود، ووصفُ الجناح بالذلِّ مع أنَّه صفة الإنسان؛ لأنَّ البطش يَظْهَرُ برفع الجناح، والتواضع واللين يظهرُ بخفضه؛ فخفضُه كناية عن لين الجانب، كما قال:

وأنت الشهير بخفض الجناح

فلا تك في رفعه أجدلا

ونظيره في القرآن: {مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان/ 40] و {عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام/ 93] أي المطر الموصوف بأنَّه يسوء من وقع عليه، والعذاب الموصوف بوقوع الهون على من نزل به.

وإضافة صفة الإنسان لبعض أجزائه أسلوب من أساليب اللغة العربية، كما قال هنا:{جَنَاحَ الذُّلِّ} ، مع أن الذليل صاحب الجناح.

ص: 85

ونظيره قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق/ 16] والمراد صاحب الناصية التي هي مقدم شعر الرأس، وقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} [الغاشية/ 2، 3] مع أنَّ تلك الصفات لأصحاب الوجوه.

وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فيه حذفُ مضافٍ، وحذفُ المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوبٌ من أساليب اللغة معروف، عقده في الخلاصة بقوله:

وما يلي المضاف يأتي خلفا

عنه في الاعراب إذا ما حُذِفا

والمضافُ المحذوف مدلولٌ عليه بدلالة الاقتضاء، وهي عند جماهير الأصوليين دلالةُ التزام، وليست من المجاز عندهم، كما هو معروف في محلَّه.

وقوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} لا مجاز فيه؛ إذْ لا مانع من حمل الإرادة في الآية على حقيقتها؛ لأنَّ للجمادات إرادات حقيقية يعلمها اللَّه جل وعلا، ونحن لا نعملها.

ويوضح ذلك حنين الجذع الذي كان يخطبُ عليه صلى الله عليه وسلم لمَّا تحوَّل عنه إلى المنبر، وذلك الحنين ناشئ عن إرادة يعلمها اللَّه تعالى.

وقد ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجرًا كان يسلمُ عليَّ في مكة".

وسلامه عليه عن إرادة يعلمُها اللَّه، ونحن لا نعلمُها، كما صرَّح اللَّه تعالى بذلك في قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا

ص: 86

تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء/ 44]، فصرَّح بأننا لا نفقهه، وأمثال ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.

وكذلك لا مانع من كون الإرادة تطلق في اللغة على معناها المعروف، وعلى مقاربة الشيء والميل إليه، فيكون معنى إرادة الجدار: ميله إلى السقوط وقربه منه، وهذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول الراعي:

في مَهْمَهٍ قَلِقَتْ به هاماتها

قلق الفؤوس إذا أردن نُصولا

وقول الآخر:

يريد الرمح صدر أبي براء

ويعدل عن دماء بني عقيل

وكذلك قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} لا مجاز فيه، بل إطلاق اسم المحل على الحالِّ فيه وعكسه كلاهما أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية، وكلاهما حقيقة في محله، كما أقروا بنظيره في أن نسخ العرف للحقيقة اللغوية لا يمنع من إطلاق اسم الحقيقة عليه، فيسمونه حقيقة عرفية.

وكذلك قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية، لا مجاز فيه، وبذلك اعترف أكثر علماء البلاغة، حيث عدُّوا هذا النوع من البديع وسموه باسم المشاكلة، ومعلوم أن المجاز من فن البيان لا من فن البديع، فأكثرهم قالوا: إنَّ المشاكلة من البديع، كقوله:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا

ص: 87

والحق أنَّ هذا أسلوب من أساليب اللغة، ومنه الآيتان، نعم زعم قوم من علماء البلاغة أن المشاكلة من علاقات المجاز المرسل، فسموا ما استعمل في غير معناه عندهم للمشاكلة مجازًا.

وأما تفسيره {يُؤْذُونَ اللَّهَ} بقوله: يؤذون أولياءه، فليس بصحيح، بل معنى إيذائهم اللَّه كفرهم به وجعلهم له الأولاد والشركاء وتكذيبهم رسله، ويوضح ذلك حديث "ليس أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّه، إنهم يدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم".

وأكثر المتأخرين على أنَّ في الآيات التي ذكرها المؤلف مجازًا، كما هو معروف، وقد بينا منع القول بالمجاز في القرآن في رسالتنا التي ألفناها في ذلك.

وقول المؤلف

(1)

في تعريف المجاز: (وهو اللفظ المستعملُ في غير موضعه الأصلي على وجه يصح).

يعني بقوله: (على وجه يصح) أنْ تكون هناك علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، وأن تكون ثَمَّ -أيضًا- قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي.

وتعريفه للمجاز لا يدخل فيه إلا اثنان من أنواع المجاز الأربعة، وهما: المجاز المفرد، وهو عندهم الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي، والعلاقة

(1)

(1/ 272).

ص: 88

إن كانت المشابهة: "كقولك رأيت أسدًا يرمي" سُمِّي هذا النوعُ من المجاز استعارة، وحدُّ الاستعارة: مجاز علاقته المشابهة، وإن كانت علاقته غير المشابهة كالسببية والمسببية، ونحو ذلك، سمي مجازًا مفردًا مرسلًا، كقول الشاعر:

أكلتُ دمًا إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

أطلق الدمَ وأراد الدية مجازا مرسلًا علاقته السببية؛ لأن الدية المعبر عنها بالدم سببها الدم وهي مسبب له.

الثاني من النوعين اللذين دخلا في كلامه: المجاز المركب، وضابطه: أن يستعمل كلام مفيد في معنى كلام مفيد آخر، لعلاقة بينهما، ولا نظر فيه إلى المفردات، فقد تكون حقائق لغوية، وقد تكون مجازات مفردة، وقد يكون بعضها مجازًا وبعضها حقيقة، وعلاقته إن كانت المشابهة فهو استعارة تمثيلية، ومنها جميع الأمثال السائرة، والمثل يحكي بلفظه الأول، ومثالُه قولك لمن فرط في أمر وقت إمكان فرصته، ثم بعد أن فات إمكان فرصته جاء يطلبه:(الصيف ضيعتِ اللبن).

وأصل المثل أن امرأة من تميم خطبها رجلان أحدهما كبير في السن وله مواشي كثيرة، والثاني شاب وماشيته قليلة، واختارت الشاب وكانت الخطبة زمن الصيف، ثم طلبت بعد ذلك من الكبير الذي ردت خطبته لبنًا فقال لها:(الصيف ضيَّعتِ اللبن).

وهذا الاستعمال لعلاقة المشابهة بين مجموع الصورتين، وإنْ

ص: 89

كانت علاقته غير المشابهة سمي مجازًا مركبًا مرسلًا كقوله:

هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ

جنيبٌ وجثماني بمكة مُوثَقُ

فالبيت كلام خبريٌّ أريد به إنشاءُ التحسر والتأسف؛ لأنَّ ما أخبر به عن نفسه هو سبب التحسر والتأسف، وهو مجازٌ مركب مرسل، علاقتُه السببية؛ لأنَّه لم يقصد بهذا الخبر فائدة الخبر، ولا لازم فائدته.

والنوعان اللذان لم يدخلا في كلامه هما: المجاز العقليُّ ومجاز النقص والزيادة.

أمَّا المجازُ العقلي عندهم فالتجوزُ فيه في الإسناد خاصة، لا في لفظ المسند إليه ولا المسند، وسواء فيه كانا حقيقتين لغويتين، أو مجازين مفردين، أو أحدهما حقيقة والثاني مجازًا؛ لأنَّ التجوز فيه في خصوص الإسناد، كقول المؤمن:(أنبت الربيعُ البقلَ) فالربيع وإنبات البقل كلاهما مستعمل في حقيقته، والتجوز إنَّما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع، وهو للَّه جلَّ وعلا عند المتكلم، وكذلك هو في الواقع.

وأنكر المجاز العقلي السكاكيُّ وردَّه إلى الاستعارة المكنية.

وأمَّا مجازُ النقص والزيادة فمداره عندهم على وجود زيادة أو نقص يُغيِّران الإعراب.

ومثال النقص -عندهم-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف/ 82]. وهذا المثال ذكره المؤلف مع أنه لم يدخل في تعريفه للمجاز؛ لأنَّ جميع ألفاظه مستعملة فيما وضعت له، والتجوز من جهة الحذف المغيِّر للإعراب.

ص: 90

ومثالُ مجاز الزيادة -عندهم-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى/ 11].

وقد بينَّا أنَّه لا ينبغي للمسلم أنْ يقول: إنَّ في كتاب اللَّه مجازًا.

والتحقيق أنَّ اللغة العربية لا مجاز فيها، وإنَّما هي أساليبُ عربيةٌ تكلَّمت بجميعها العرب، ولو كَلَّفنا من قال بالوضع للمعنى الحقيقي أولًا ثم للمعنى المجازي ثانيًا بالدليل على ذلك، لعجز عن إثبات ذلك عجزًا لا شك فيه.

قال المؤلف

(1)

رحمه الله:

(قال القاضي: ليس في القرآن لفظ بغير العربية. . .) إلى آخره.

خلاصةُ ما ذكره في هذا الفصل أنَّ العلماء اختلفوا هل في القرآن ألفاظ أصلها أعجمية ولكن عُرِّبَتْ، أو كله عربي؟

فحجةُ من قال: كلُّه عربيٌّ الآياتُ الدالة على ذلك، كقوله:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف/ 3]، وقوله:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل/ 103]، وقوله:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت/ 44]، ونحو ذلك من الآيات.

وحجة من قال: فيه عجمي معرَّب، ادعاؤه الوقوع، قال: كـ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل/ 6] أصلها حبشية، و {مِشْكَاةٍ} [النور/ 35] أصلها هندية، و {إِسْتَبْرَقٍ} [الكهف/ 31] أصلها فارسية.

(1)

(1/ 274).

ص: 91