الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
وتلك مواقف من مواقف المشركين في الدنيا والآخرة، ولا غرابة إذا طال نقاش القرآن لهم فيها، وعرض أمورهم عرضا واضحا مكشوفا مع الرد عليهم في كل جزئية، إذ السورة مكية والمقام يقتضى ذلك لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون عن غيّهم.
واذكر يوم يحشرون جميعا، ويجمعون للحساب جميعا، ويا هول ذلك الموقف الشديد موقف الزحام والحساب العسير. ثم يقول ربك للملائكة في هذا الاجتماع وعلى رءوس الأشهاد: أهؤلاء- الإشارة للكفار- إياكم كانوا يعبدون؟! أهؤلاء الكفار كانوا يخضعون لكم بالعبادة والتقديس وأنتم خلق من خلق الله؟! فتقول الملائكة:
سبحانك يا رب وتنزيها لك بعد تنزيه، أنت ولينا ومتولى أمورنا وأمور غيرنا من خلقك، يا رب أنت الذي نواليك ونتقرب منك بالعبادة ونواصلك ونرجوك، وليس بيننا وبينهم موالاة من جهتنا، وهذا معنى قوله:«من دونهم» ثم بينوا السبب الحامل لهم على عبادتهم فقالوا: بل كانوا يعبدون الجن، أى: فليس لنا دخل، وإنما السبب هو الجن حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: إن حيّا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنهم من الملائكة، وأنهم من بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً.
فالاستفهام في قوله للملائكة: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ للتفريغ وتوبيخ الكفار على عبادتهم غير الله، وهو جار على نظام المثل القائل:«إياك أعنى واسمعي يا جارة» وهدا يشبه قول الله للمسيح: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ؟ [سورة المائدة آية 116] ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا كشفاعة ونجاة، ولا ضرا كعذاب أو هلاك بل الأمر يومئذ لله، وإليه وحده ترجع الأمور، ويقال حينئذ توبيخا وتأنيبا للكفار: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
ذلك موقف لهم شديد من مواقف يوم القيامة، وما أطوله عليهم! وهذا موقف آخر في الدنيا سيق بيانا لسبب هذا العذاب الشديد:
هؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آياتنا بينات واضحات كالشمس أو أشد قالوا: ما هذا الذي يتلو عليكم الآيات إلا رجل- كأنه غير معروف- يريد لأمر في نفسه أن يصدكم عن عبادة آبائكم وأسلافكم الآلهة التي كانوا يعبدونها، فهذا رجل
) يسفه أحلام أسلافكم، ويعيب آلهتكم.. وقالوا في شأن القرآن الذي يتلى: ما هذا إلا كذب واختلاق وزور وبهتان: ولما رأوا أثره في النفوس وفعله في القلوب قالوا: ما هذا إلا سحر مبين فهم يتخبطون ولا يدرون ماذا يقولون؟ فتارة قالوا: إنه سحر، وتارة قالوا إفك وكذب. وهذا شأن المتخبط المتحير الذي أغشى عينه قوة النور، وبهر نفسه بريق الحق فهو لا يدرى ماذا يقول؟! يا عجبا لهؤلاء! كيف توصلوا إلى ذلك الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم؟! هل في سيرته أو في دعوته أو في شخصه ما يدعو إلى ذلك؟ معاذ الله إنه الصادق المصدوق، الأمين العفيف عن الدنيا وأعراضها الزائلة! الذي أتى بالهدى والرحمة للناس جميعا وما سندهم في هذا الحكم؟ أعندهم كتاب يقرءون فيه ذلك؟! أو أرسل إليهم قبلك يا محمد رسول بلغهم ذلك؟ لا.. لا لم يكن عندهم كتاب ينطق بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرسل قبلهم رسول يكذبه، ولم يكن عندهم في الخارج أى دليل على صدق قولهم بأنه ساحر أو كذاب أو به جنون؟! ولكنهم كذبوا لا عن دليل، وأعرضوا مع وجود ألف دليل ودليل على صدق الرسول، ولا غرابة فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة، وما بلغ أهل مكة معشار ما آتينا تلك الأمم من قوة وسلطان، أو علم وحجة وبرهان.
فكذبت الأمم رسلي فكانت العقوبة الصارمة. والجزاء العاجل والهلاك المهلك فكيف كان عقابي؟ وفي هذا تهديد لهم شديد.
ثم رجع القرآن بعد هذا يستدرجهم. ويعرض عليهم الدين ويطالبهم أن يحكموا عقولهم، وينظروا ببصائرهم لعلهم يرشدون فقال: قل لهم يا محمد: إنما أعظكم وأذكركم، وأحذركم سوء عاقبتكم، أعظكم بواحدة، أى: بخصلة واحدة فقط هي أن تقوموا لله وحدانا ومجتمعين منفردين بالرأى أو متشاورين. ومعنى القيام هنا هو طلب الحق لوجه الحق، وما أقوى هذا التصوير وما أبلغه؟! إنه لتصوير رب العالمين بلا شك. تقومون تاركين القعود والكسل. والخمول والتقليد، تاركين موت النفس ونوم العقل متسلحين بيقظة الضمير ونشاط العقول، ناظرين متفكرين في هذه الرسالة وصاحبها، مجردين أنفسكم من كل ما يعوق البحث الحر، والفكر السليم الخالي من الهوى والغرض.
ثم تتفكروا ما بصاحبكم؟! هل جربتم عليه كذبا؟ لا: إنه الصادق، هل جربتم عليه خيانة؟ .. لا. إنه الأمين، هل رأيتم فيه ميلا إلى الدنيا حتى يقال إنه يطلب المال أو الملك؟ لا: إنه العفيف عن الدنيا وأهلها، هل رأيتم عليه فسادا أو تحللا أو نشوزا أو سوء خلق؟ لا: بل هو الرجل الحكيم المتزن في كل أفعاله، تفكروا في رسالته هل يدعوكم إلى فسق أو فجور أو يدعوكم إلى حق ونور وعلم وعرفان؟ هل يدعوكم إلى أسر التقليد، وحمى الجاهلية وسوء العمل أو يدعوكم إلى الحرية المنظمة وإلى الحضارة المقدسة وإلى العلم النافع، وإلى تكوين المجتمع الصالح، وخلق الفرد الكامل الذي يسعى لخير الدنيا والآخرة؟! نعم إنه يدعو إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة، ويحارب الرذيلة، والاستبداد ويمنع جور الحكام وظلم الأقوياء والأغنياء، إنه يدعو إلى نصرة الفقير، وإعانة المظلوم، وإغاثة الملهوف، إنه نذير بين يدي عذاب شديد.
إنه يدعو إلى كل خير، ويحرم كل شر فتفكروا بصائركم عسى أن يهديكم ربكم إلى الحق ونوره.
قل يا محمد لهم: لست رجلا طالبا للدنيا وعرضها، ولست أبغى من دعوتي أجرا ولا مالا ولا جاها ولا سلطانا، إن أجرى إلا على الله، وهو على كل شيء شهيد.
قل لهم تطمينا لقلوب المؤمنين أتباعك، وتثبيتا لهم على دعوتك، وتهديدا للمخالفين: إن ربي يقذف بالحق ليدمغ الباطل، وهو علام الغيوب، ولله ما أقوى هذا التعبير جعل الحق كالقنبلة التي تقذف من حكيم عليم بارع يعلم خفايا مهنته أتراها لا تصيب الهدف؟ فصبرا أيها المسلمون ثم صبرا، قل: جاء الحق، وزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ إنه لا ثبات له ولا قرار، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
قل لهم يا محمد: إنه ضللت فإنما أضل على نفسي لأنها هي التي أمرتنى بالسوء، وإن اهتديت فبسبب ما يوحى إلى من ربي إنه سميع قريب.
ومن هنا نعلم أن طريق الضلال هو النفس الأمارة بالسوء، وما يحيط بها من مجتمع فاسد موبوء، وأن الهداية والخير، والنور والفلاح من طريق الوحى والقرآن.. ألم يأن
للذين آمنوا وادعوا أنهم من أتباع الرسول ومن أمة القرآن؟ ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم لنور الحق، وأن تخضع نفوسهم لحكم القرآن؟ ألم يأن لهم أن يرفعوا رءوسهم عالية مجاهدين طالبين مستميتين في طلب الحكم بالقرآن، والسير في ركاب الرحمن، وترك الهوى والشيطان؟!! ألم يأن للشعوب الإسلامية أن ترجع إلى دينها، وتثوب إلى رشدها؟! فلا هداية ولا سعادة إلا في ظل الدستور القرآنى، ومن يتبع غير حكم الله فأولئك هم الضالون أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة 50] .
نحن لا نطالب بحكم القرآن إلا لخير المسلمين وقطع دابر الفتن وعبث العابثين مؤتسين بقول الحق على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وهناك موقف آخر:
ولو ترى يا أيها النبي- أو من يتأتى منه الرؤية- إذ فزعوا وخافوا واضطربوا يوم لقاء الله لرأيت أمرا عظيما، وشاهدت أحوالا هائلة يستريح لها قلب من عضه الألم، وحز في نفسه الحزن من أفعالهم.
لو تراهم إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة، وكيف النجاة وهم بين يدي القوى القادر؟
وقد أخذوا من مكان قريب فهم لم يرموا عن بعد بل أخذوا عن قرب فكيف يفلتون؟
وعند ذلك يقولون: آمنا بالقرآن والنبي، فهل ينفع الذين ظلموا إيمانهم في هذا الوقت؟ كلا! وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ تمنوا أن ينفعهم إيمانهم في هذه الظروف كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، وأنى لهم ذلك؟. وهل يسوى بين من يتناول الشيء من مكان بعيد جدّا بيده كمن يتناوله تناولا سهلا من مكان قريب وبلا حاجز، وكيف يستويان؟
وهم قد كفروا بالقرآن والنبي من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد كقولهم في النبي: إنه ساحر، وشاعر، وكذاب، وهذا تكلم بالغيب ورجم به من جهة بعيدة جدا عن الحقيقة لأن ما جاء به أبعد شيء عن السحر والشعر والكذب، فهم أشبه ما يكون بمن يقذف الغرض من جهة بعيدة جدا، وهو غائب عنه غير مشاهد له، فهل يصيبه؟
وحيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا والفرار من العذاب والخلوص من الموقف كما يفعل بأشباههم ونظرائهم من الأمم السابقة، ولا تعجب من هذا لأنهم كانوا في شك من البعث، ومبدأ الثواب والعقاب كانوا في شك منه مريب!!