الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى أن هذه الآية نزلت في بنى أسد بن خزيمة كانوا يقيمون في جوار المدينة فأصابهم سنة مجدبة فقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام، وصاروا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما تقاتلك بنو فلان ويقولون: آمنا فاستحققنا الكرامة، وهم يريدون بذلك أعراض الدنيا، وكانوا يمنون على النبي بإسلامهم ويستجدون به
، وعلى ذلك فليس المراد كل الأعراب بل هم قوم مخصوصون منهم.
المعنى:
قالت الأعراب- وهم بنو أسد وإن كان اللفظ يتناول كل من أراد بدينه وإسلامه وتقواه عرضا من أعراض الدنيا- قالت الأعراب: آمنا بالله ورسوله، وهم في الواقع لم يؤمنوا إيمانا كاملا خالصا لوجه الله، ولذا يقول الله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وهذا تكذيب لهم في دعواهم الإيمان، فإن الإيمان تصديق وإذعان، وامتلاء القلب بنور اليقين، وأولئك قوم ألجأتهم ظروفهم إلى ادعاء ذلك، ولذا يقول الله ما معناه: ما كان يصح أن تقولوا: آمنا. ولكن قولوا: أسلمنا وانقدنا ظاهريا فقط للنجو من القتل والأسر وننعم بالفيء عند المسلمين، فلا تكذبوا على علام الغيوب فإنه يعلم السر وأخفى.
ثم عاد القرآن فجبر خاطرهم ونفى عنهم الإيمان مع ترقب حصوله لهم فقال: ولما يدخل الإيمان قلوبكم، أى: إلى الآن لم يدخل، ولكنه سيدخل فيها إن شاء الله وهذا تشجيع لهم على العمل والدخول حقّا في صفوف المؤمنين فقال: وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئا بل يوفيكم جزاءها كاملا غير منقوص فهيا اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، إن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم.
وبعد هذا ألسنا في حاجة إلى بيان الإيمان حقا، وإلى تعرف المؤمنين وصفاتهم حتى نكون على بينة من أمرهم؟ نعم يقول الله شارحا الإيمان ومبينا صفات المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
(الآية) . وقد ذكر الله صفات لهم عدة في هذه الآية وفي غيرها..
1-
المؤمنون هم الذين آمنوا بالله على أنه واهب الوجود، والقادر على كل موجود، والعالم بالسر وأخفى، والمحيط بخفايا النفوس والعليم بذات الصدور، وهو
صاحب الفضل، وصاحب الطول، ولا حول لأحد عنده ولا قوة، إليه يرجع الأمر كله وكل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
2-
وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم على أنه خاتم الرسل وإمامهم، وأنه المبلغ عن ربه كل شيء، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى.
3-
ثم لم يرتابوا في شيء بل كان إيمانهم عن عقيدة ثابتة، ويقين كامل لا تزعزعه العواصف، ولا تدفعه الرياح، آمنوا بالله ورسوله لأنه حق وواجب بقطع النظر عن أى شيء آخر لم يكن إيمانهم لغرض، فإن أعطوا منه رضوا، وإن لم يعطوا منه إذا هم يسخطون، ومن هنا كان نفى الريب والشك درجة عليا تناسب ذكر (ثم) معه.
4-
الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس محك الإيمان ودليله، وعنوانه وأساسه، فليس الإيمان دعوى تردد باللسان، ولا خداع بالكلام، وإنما هو جهاد للنفس وللعدو ولأعداء الإسلام، ودعوته جهاد في سبيل الله فقط ولإعلاء كلمة الله فقط لا لدنيا يصيبها أو لغرض يحققه، ولقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة. ويقاتل حمية، ويقاتل رياء: أى ذلك في سبيل الله؟
فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
ومعنى كون كلمة الله هي العليا أن يكون الناس أحرارا في أن يدينوا بدين الله وأن يدعوا إلى سبيل الله، لا يمنعهم من ذلك مانع.
أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في إيمانهم ودعواهم لا هؤلاء الأعراب من بنى أسد.
روى أنه لما نزلت تلك الآية التي تقضى بتكذيبهم جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون وصادقون فنزلت هذه الآية أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
لتكذيبهم وتسفيه عقولهم إذ هم يخاطبون الرسول الذي يستقى علمه من علام الغيوب العليم بذات الصدور فكيف تنطلى الأكاذيب عليه، وهو يعلم كل ما في السموات، وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم.
يمنون عليك أيها الرسول أن أسلموا، سمى الله ما أظهروه إسلاما، ونفى أن يكون إيمانا كما زعموا، قل لهم يا محمد: لا تمنوا على إسلامكم، وفي إضافة الإسلام لهم معنى
دقيق، أى: الذي تظهرونه ينبغي ألا يسمى إسلاما إلا عندكم فقط إذ هو استسلام منشؤه الرهبة والخوف لا التصديق الخالص، بل الله يمن عليكم أن دلكم على الإيمان الصحيح وأرشدكم إليه، وإن كنتم لم تنتفعوا بالإرشاد، ولم تصلوا إلى المراد، فالهداية هنا بمعنى الدلالة فقط وصلت أم لم تصل، إن كنتم صادقين فاعترفوا بذلك كله فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
تلك أحكام اللطيف الخبير، وإرشادات العليم البصير الذي يعلم غيب السموات والأرض وهو بصير بما تعملون، وسيجازيكم عليه، وهذا ختام للسورة رائع.