الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاحتقار. قَوْمٌ: هم الرجال خاصة لأنهم القوامون على النساء.
وَلا تَلْمِزُوا اللمز: الطعن والضرب باللسان والتنبيه على المعايب. تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ المراد: لا يدع بعضكم بعضا بلقب قبيح. الِاسْمُ أى: الذكر، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق، أى: ذكره وشهرته. اجْتَنِبُوا: كونوا على جانب والظن على آخر، والمراد التباعد. الظَّنِّ: حد وسط بين العلم والوهم، وهم اسم لما يحصل في النفس عن أمارة قوية أو ضعيفة. الإثم: الفعل المعوق عن الثواب. وَلا تَجَسَّسُوا الجس: جس العرق باليد وتعرف نبضه للحكم عليه، وهو أخص من الحس، أى: التحسس فإنه يدرك بإحدى الحواس.
وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. شُعُوباً الشعب: الجماعة من الناس التي لها وطن خاص وهو أعم من القبيلة.
إنه لترتيب إلهى عال حيث رتب مسألة النزاع والقتال بين الطوائف والأشخاص على أنباء الفاسقين، ووقيعة الدساسين، ولذا نبهنا فيما سبق إلى التبين والتثبت في تلقى الأخبار، وإنه لنسق فريد أن يسوق تلك الإرشادات الإلهية في هذه الآيات التي تتضمن سل السخائم وإماتة الأحقاد حتى تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد بعد ذلك.
المعنى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ نادانا الله بوصف الإيمان لينهانا عن السخرية وغيرها ليشعرنا بأن ما يدعونا إليه من إرشاد هو مقتضى الإيمان الصحيح.
يا أيها المؤمنون لا يسخر رجل أو جماعة من رجل آخر أو جماعة أخرى، والسخرية بالناس رذيلة تغضب الرحمن، وترضى الشيطان، وتثير كوامن الفتن، وبواعث الشر، وهي صفة المجردين من الخير المنغمسين في حمأة الرذيلة، فالسخرية دليل خبث الطوية، وسوء السريرة ودناءة النفس ولا يصح أن يسخر نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، فالمستهزأ به غالبا يكون خيرا عند الله وأفضل من المستهزئ.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وتلك مرتبة ثانية، وأن المؤمنين كالجسد الواحد كأن من لمز غيره وعابه كأنه لمز نفسه، ولعل المعنى أنك تلمز نفسك بسبب لمزك لغيرك كما ورد
في
الحديث «من الكبائر أن يشتم الرّجل والديه»
وفسر بأنك إذا شتمت غيرك فشتمك فكأنك شتمت نفسك.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وكأن اللقب السيئ حجر تنبزه في وجه أخيك فينبزك هو بمثله، ولله در النبي صلى الله عليه وسلم حيث يوصى بأن تدعو أخاك بأحب الأسماء إليه، وقد بدأ الله بالأهم حيث نهانا عن السخرية التي هي داء له دواع كثيرة منها حب التظرف، والرغبة في جلب السرور على الحاضرين، ومنها الحسد الكامن والداء الباطن، ثم ثنى باللمز لما فيه من الخفاء والإشارة، وصاحبه قد يستخف به، ثم ختم هذه الإرشادات بالتنابز بالألقاب لأنه أخفها فقد يكون اللقب المكروه مما يتسامح فيه صاحبه إذا شاع وذاع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
…
(الآية) . وهذه إرشادات لما ينبغي مراعاته في حق المسلم إذا غاب، بعد بيان ما يجب مراعاته في حق المسلم وهو حاضر من ترك السخرية به واللمز عليه والتنابز معه بالألقاب.
وهذا القسم مشتمل على ثلاثة أمراض:
(أ) الظن السيّئ.
(ب) تتبع عورات أخيك.
(ج) إشاعة عوراته بين الناس بالغيبة، وتلك صفات لعمري تتنافى مع الإيمان الصحيح ولا يصح أن تكون في المؤمنين.
ولذا صدر الكلام بالنداء بوصف الإيمان، ولقد أخذ هذا القسم بالتدرج الطبعي، فإن أول بوادر الشر أن يخطر ببالك ظن سىء وتأويل غير مقبول لفعل أخيك، فتأخذ في تأكيد هذا الخاطر وتثبيته وبتتبع حركاته واستقصاء أعماله، لتبنى من ذلك كله عقائد يعلم الله أنها على أسس من الوهم والظن السيئ، وربما فعلها أخوك من غير قصد، ولو كان قلبك سليما من سوء الظن لما فهمت هذا، ثم يأتى بعد هذا التجسس دور الغيبة وإذاعة السوء محبة أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، وهو دور التقاطع والتدابر، والتباغض، وربما تفاقم الشر حتى يصل إلى أعلاه، وقد كان السبب أوهاما وخيالات لا أساس لها.
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، وهذا أعلى أسلوب وأدقه حيث قال:
اجتنبوا كثيرا من الظن، فإن من الظن ما هو مطلوب كالاحتياط في دفع الأذى عن النفس والمال، والظن في استنباط الأحكام الشرعية، والظن في وجوه الكسب والعمل كالذي يحصل من أصحاب العمل والتجارة، أما الظن السيئ الذي نهانا عنه هو ما يحيك في نفوس بعض الناس بالنسبة لإخوانهم، إذا رأى أحدهم عملا يحتمل في تأويله الخير والشر، فيؤوله هو ويحمله على جانب الشر، والذي دفعه إلى ذلك منافسة ومناظرة بينه وبين أخيه، ويؤيده في ذلك اعتقاد خاطئ أن الناس كلهم شر وفساد فيتبرم بهم ويتنكر لهم ويظن بهم الظنون، وهو داء استشرى بين الناس، فنحن في حاجة ماسة إلى التمييز بين الظن الحسن بأنواعه والظن السيئ الكثير الوقوع، وما أدق قول الله بعد ذلك:
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ نعم هو موقع في الإثم والحرج، وإذا كان بعض هذا الظن يوقع في هذا الإثم المبهم، أليس من الحكمة والعقل البعد عن الكثير من هذا النوع؟ حتى نسلم من آثامه،
والنبي يقول في حديثه: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه»
والحديث وإن كان في أعمال الجوارح فخطرات القلوب وأعمالها أشد وأدهى.
والظن المنهي عنه هو ما يترتب عليه الإضرار بالناس، أما ما ينشأ عنه من الاحتراس المأمور به والتحفظ الذي لا يضر الغير فهذا مطلوب، وهو من الحزم «الحزم سوء الظّنّ» وقيل: حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة.
وَلا تَجَسَّسُوا هذا هو الدور الثاني للظن السيئ فإن الإنسان يظن بأفعال أخيه الظنون ثم ينظر فيها فلا يجد لها أسبابا قوية فيأخذ في البحث وتتبع العورات لعله يجد ما يؤيد ظنه، وهو في ذلك إن رأى حسنة أعرض عنها، وإن رأى سيئة شنع بها، ذلك من ضعف الإيمان، وسوء الاعتقاد،
ولقد صدق رسول الله حيث قال خطيبا: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تتّبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبّع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته»
نعم فإنه لا يعمل هذا إلا ضعيف الإيمان حقّا، وليس المربى والراعي داخلين في ذلك حيث يتتبعان العورات للإصلاح لا لإشاعة السوء والتشنيع.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
ولقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا. الله ورسوله أعلم، قال:«هي ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت لو كان في أخى ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» .
والغيبة تباح عند رفع الظلم، والشهادة في الخصومات، والاستشارات العامة، وكالتشنيع على المتجاهر بالمعصية، وما أروع هذا التمثيل حيث يقول الله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وحقا من ولغ في العرض فكأنه أكل اللحم من أخيه وهو ميت لا يقدر على رده، وكذلك المغتاب في غيبة أخيه ينهش من عرضه وهو لا يستطيع رده، فهذا أسلوب غاية في التنفير من الغيبة، ثم أتبع ذلك بقوله:
فَكَرِهْتُمُوهُ فقد صور المغتاب بصورة من يحب شيئا، حقه أن يكون في غاية الكراهية وهو أكل لحم الأخ، وزاده أن صوره بصورة الميت، وحقه أن يكون منه أنفر، وخلاصة المعنى: إن يفعل ذلك أحد فقد كرهتموه واتقوا الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
«وبعد» : فالغيبة عادة مرذولة، وصفة مستهجنة، كثيرا ما أودت بالصلات، وأثارت الأحقاد، وشتتت من جمع، وفرقت من شمل، وهي مع هذا عذابها شديد وعقابها أليم، وهي بالفساق أولى فاتقوا الله واجتنبوها
«وهل يكبّ النّاس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» صدق رسول الله.
ما مضى كانت إرشادات إسلامية يوجهها الله إلى المؤمنين ليبين لهم أن مقتضى الإيمان ألا يحصل هذا منكم كما عرفنا سابقا. وهنا قال: «يا أيها الناس» لأن هذا الداء الذي هو التفاخر والتباهي بالأنساب والأحساب داء قديم عام في جميع الأمم، فهو يعرض للناس من حيث كونهم ناسا فهو في طبيعة الإنسان، ولقد عالج الله هذا الداء علاجا حاسما حكيما، فإنك تفضل هذا على ذاك إذا كان من معدن وهو من آخر، أو هذا من صنع فلان، وذاك من صنع فلان، فإذا كانت المادة واحدة والصانع واحدا ففيم إذن الاختلاف والتفاضل؟!