الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
الله يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به، إنه عليم بصاحبة الصدور، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها، ألا يعلم الله مخلوقاته التي خلقها؟ ألا يعلم الخالق خلقه؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر، المطلع على خفايا الخلق، وهو اللطيف بعباده، وإن لطفه بعباده لعجيب، فهو يوصل الخير إليهم، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها، وهو الخبير بكل شيء.
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا: سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه، صهروا المعادن، وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات، واكتشفوا أسرار الكائنات، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء، أليس الله قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك؟ جعل الأرض ذلولا، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها، وجوانبها وأطرافها، وآكامها وسهلها وحزنها.
احذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل، والتكذيب للرسل، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول، فدعوا إذن العناد والتكذيب، واعلموا أن إليه النشور، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه.
واعلموا أيها الناس أن الله قادر على تبديل النعم بالنقم، فاحذروا عقابه، واخشوا غضبه، أأمنتم الحق- تبارك وتعالى أن يخسف بكم الأرض، ويغيبكم فيها، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء- مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن الله ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان- أأمنتم أن يهلككم، ويبيدكم، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء، فإذا هي تمور وتضطرب؟! بل أأمنتم الله الذي هو في السماء- كما تعتقدون- أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم؟!
انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن الله قادر على سلبهم إياها، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم، وكأن العرب استبعدوا هذا، فأضرب الحق- تبارك وتعالى عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟! وفيه يتبين إنذار الله لهم حقا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ؟! ثم أراد الله أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها، وأبيدت عن آخرها، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم.
ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها، وكانوا يمرون على آثارهم، فغضب الله عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا، وخسف بهم الأرض، وأهلكهم وتلك آثارهم، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار؟! هؤلاء كذبوا برسلهم، واستخفوا بوعيدهم، واغتروا بمالهم، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن الله على كل شيء قدير. فقال ما معناه: أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء، من الذي رفعها، ومن الذي منعها من السقوط، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران، وللتحرك في السماء، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك؟ أليس هذا من عجائب صنع الله؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة، ويقبضنها تارة أخرى، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران، إنه بكل شيء بصير.. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله:«صافّات» وعند القبض بقوله: «يقبضن» «1» .
(1) - هذا جواب عن سؤال حاصله: لماذا عبر القرآن بقوله: (صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والصف أى: البسط كثير دائم عند الطيران، والقبض قليل غير متجدد.
أولم ينظر المشركون إلى عجيب صنع الله وإلى آثار قدرته الظاهرة في طيران الطائر في الهواء فيعرفوا مبلغ قدرة الله على إنزال العذاب بهم؟! أم أنهم تعاموا عن ذلك اعتدادا بأن لهم من دون الله قوة تحميهم ولهم آلهة من دون الله ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق، فوبخهم الله وأنبهم على هذا الزعم الفاسد، وأنكر عليهم وجود جند لهم وأعوان يدفعون عنهم عذاب الله إن أراد بهم سوءا فقال: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ «1» لا جند لهم ولا أعوان، ما الكافرون الذين يتوهمون ذلك إلا في غرور باطل، وخداع كاذب، وأنكر عليهم اعتقادهم أن الآلهة ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق بقوله: أمن هذا الذي يرزقكم؟ أى: أخبرونى من هذا- والإشارة هنا للتحقير- الذي تظنون أنه يرزقكم من دون الله؟! لا أحد أبدا يرزق غيره، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، بل هؤلاء لجوا في عنادهم، واستمروا في عتوهم ونفورهم عن الحق.
ولقد ضرب الله مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب، أى: ممهد مستقيم، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا، وأقرب وصولا؟
وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا؟ لا، ليسوا معذورين في شيء فالله خلق الخلق، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق: نور الله! ولكن قليلا ما يشكرون.
قل لهم: هو الذي خلقكم، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.
(1) - أمن هي أم الإضرابية، ومن هي للاستفهام الإنكارى.