الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
الله- سبحانه وتعالى له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين، وسن وأوضح، ما وصى به نوحا والأنبياء أولى العزم، وأصحاب الشرائع القديمة، الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لبيان أن الرسالة المحمدية ليست بدعا من الرسالات، وهي موافقة لما جاء به الأنبياء السابقون في الأصول العامة، وما أمرهم الله به أمرا مؤكدا- كما يشير إلى ذلك لفظ وصينا- ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأنهم أولو العزم وأرباب الشرائع القديمة، ونوح أول رسول أرسل بشريعة موافقة لزمانه، وإبراهيم أبو الأنبياء، ويدين له أكثر العرب، وموسى نبي اليهود، وعيسى نبي المسيحيين.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ولعل إيثار الإيحاء عند الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم دون ما قبله وما بعده لأن فيه تصريحا برسالة محمد التي هي الأساس والمقصود، ولتوافق هذه الآية ما قبلها كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ والإشارة إلى الاعتناء به وبشريعته التي جمعت كل خير، وأتمت كل نقص، ولعل تقديمه في الذكر على من سبقه في الزمن من الرسل يشير إلى ذلك.
وما هذا الذي شرعه؟ هو أن أقيموا الدين الحق، دين التوحيد والطاعة والتقديس لله وعدم الإشراك به بأى صورة كانت من قرب أو من بعد، مع الإيمان برسل الله كلهم وكتبه واليوم الآخر وما فيه، والإيمان بالمثل العليا التي تبنى الفرد والأسرة والمجتمع، وإقامة الدين هو الإيمان الكامل والمحافظة عليه من الزيغ وزيف العقائد والمواظبة على كل ما يطلبه الشرع، ولا تتفرقوا فيه يا أمة الإسلام، حتى تكونوا كغيركم شيعا وأحزابا، وجماعات، بل الزموا سنة رسول الله والخلفاء الراشدين بعده، الزموا القرآن والسنة الصحيحة وروح الدين تكونوا الأمة الناجية يوم الحساب.
كبر على المشركين، وعظم ما تدعوهم إليه من التوحيد والهداية وترك الآثام والفسوق والإشراك بالله أصناما وأوثانا!! وأنت يا محمد ثق بأن الله يجتبى إليه وإلى دينه من يشاء من خلقه الذين يعلم فيهم الصلاحية والخضوع للحق وقبوله، يعلم فيهم ذلك في عالم الأرواح، ويهدى إليه من
يميل إليه وينيب، ويقبل على طاعته، ويثوب إلى رشده، وما تفرقت أمم الأنبياء السابقة إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الفرقة ضلال وفساد، وبأنهم مأمورون بإقامة الدين وعدم التفرقة فيه، وهذا بلا شك ينطبق على الأمة الإسلامية تمام الانطباق.
تفرقوا عن الحق الصريح بغيا بينهم وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق. وفي القرطبي: عن ابن عباس أن المراد: وما تفرق أهل مكة إلا من بعد ما جاءهم العلم، أى: النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم كانوا يتمنون أن يبعث لهم نبي فلما أرسل لهم كفروا به وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ [سورة فاطر الآيتان 42، 43] وقيل: هم أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [سورة البينة آية 4] .
وكان هذا التفرق بعد مجيء العلم لهم بفساده ناشئا من البغي بينهم والحسد، وليس ناشئا عن قصور في الرسالات والحجج.
ولولا كلمة سبقت من ربك. وهي: وعدة بترك معاجلتهم بالعذاب إلى أجل مسمى عنده لقضى أمرهم واستأصلوا حين افترقوا لعظم جرمهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، وهم أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم لفي شك من كتابهم مريب! فهم لم يؤمنوا به إيمانا كاملا ولذا تفرقوا فرقا شتى.
إذا كان الأمر كما ذكر وأن الأمم السابقة تفرقت واختلفت، وكان مبعث ذلك هو عدم الإيمان الصحيح الكامل فلذلك فادع إلى الائتلاف والاتفاق على الحنيفية البيضاء واستقم كما أمرت، واثبت على الدعاء إلى ذلك ودم عليه، وقد رأينا أن التفرق في الشريعة الإسلامية ظهر عند ضعف الوازع الديني، وقام به أناس دخلوا في الإسلام عنوة أو لغرض، ولم يدخلوه رغبة أو حبا فيه، هؤلاء قاموا بدور خطير جدا واستغلوا طيبة الشعوب الإسلامية وسلامة ضميرها، وحسن نيتها، ألست معى في أن هدف الشريعة الإسلامية هو الوحدة والاتحاد على قبول الحق، والبعد عن الخلافات المذهبية الضارة وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وليس المراد الاختلاف في الفروع الفقهية فذلك له سند من الكتاب والسنة وفعله النبي صلى الله عليه وسلم أو هذا الاختلاف المذهبى في الفروع أشبه بالاختلاف في الرسالات مع اتفاق كل الأنبياء على مبدأ التوحيد الخالص
والإيمان باليوم الآخر وبالأنبياء كلهم وبالكتب، أما الشرائع العملية فتختلف باختلاف الأمم وعصورها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية 48] .
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم الباطلة، وقل لهم: آمنت بما أنزل الله من الكتب كلها، وأمرت لأعدل بينكم في كل شيء، وأحكم بينكم بالحق، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا لا يتخطانا ثوابها ولكم أعمالكم لا يتخطاكم ثوابها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1»
تلك هي الحقائق الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
فهل بعد هذا الإيمان الصريح الكامل الذي لا يفرق بين نبي ونبي ولا بين كتاب وكتاب مع التوحيد الخالص البريء من الشرك وشوائبه هل بعد هذا تكون حجة؟
لا حجة ولا احتجاج ولا خصومة بيننا وسيحكم بيننا وبين غيرنا إذا لم يبق بعد ذلك إلا المكابرة والعناد، ومع كل فالله يجمع بيننا بالعدل، وإليه وحده المصير والمآب، والذين يحاجون في الله وصفاته من بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دينه أفواجا، حجتهم- بل في الواقع أوهامهم وأباطيلهم- داحضة عند ربهم وزائلة وباطلة، وعليهم غضب لمكابرتهم في الحق بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد هوله عظيم وقعه.
الله الذي أنزل الكتاب الكامل الجامع المهيمن على غيره من الكتب، وهو القرآن متلبسا بالحق بعيدا عن الباطل، وأنزل الميزان ليحكم بالعدل والقسطاس المستقيم، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة.
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها من الكفار، لأنهم يظنون أنها أوهام لا حقائق لها، والذين آمنوا بها، واعتقدوا بوجودها مشفقون منها وخائفون من مواقفها المشهودة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد وكيف لا يشفقون منها، وهم يعلمون أنها الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ألا إن الذين يمارون في الساعة ويشكون فيها لفي ضلال بعيد حيث لم يعملوا لها، والله لطيف بعباده يفيض عليهم بجلائل نعمه التي لا يعلمها إلا هو يرزق من يشاء من عباده بما يحب، وهو القوى العزيز، فلا غرابة في أن يخص بعض عباده بألطاف إلهية.
(1) - سورة البقرة آية 285.