الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
وقد استحم، أى: اغتسل بالحميم، ثم صار كل اغتسال استحماما، ولا شك أن صديقك يزيل عنك الأدران الحسية والمعنوية كالماء. ولذا سمى حميما يَنْزَغَنَّكَ النزغ والنخس واحد، والمراد: صرفك عن الخصلة الفاضلة صارف فاستعذ.
هذه السورة مكية كما مر، وفيها نقاش المشركين الذين يقولون: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وقالوا لبعضهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. وهذا بلا شك مما يؤذى النبي ويقطع أمله في هدايتهم فبين الحق- تبارك وتعالى هنا أن الواجب عليك يا رسول الله أن تتابع المواظبة في الدعوة والسير في طريقها مهما لاقاك من صعاب فإن الدعوة إلى الله أكمل الطاعات وأحسن العبادات، ولا عليك شيء أبدا بعد اتباع هداية القرآن والتخلق بخلقه.
ولنا أن نقول وجها آخر- كما ذكره الفخر- ولعله أنسب، وخلاصته أن المبادئ المسلم بها: أصلح نفسك ثم ادع غيرك، ولا شك أن مرتبة دعوة الغير إلى الهدى والخير مرتبة عالية، ولا يلقاها إلا أفراد قلائل زكت نفوسهم وطهرت أرواحهم وامتلأت إيمانا ويقينا.
أما مرتبة تربية النفس وإعدادها فهي مأخوذة من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا الآية.
وأما المرتبة الثانية فهي مأخوذة من قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الرأى الأول مبنى على أن قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ نازلة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولتوبيخ الذين تواصوا باللغو في القرآن.
وأصحاب الرأى الثاني توسعوا في مدلول اللفظ فقالوا: هذه الآية تشمل كل من دعا إلى الله بالموعظة والحجة، وسوق البرهان والقتال بالسيف إذا لم تنفع الحجة.
المعنى:
ولا أحد أحسن قولا، وأرفع منزلة ممن دعا إلى الله ودعا غيره- بعد تكميل
نفسه- إلى دين الله، فهؤلاء الذين يرفعون عقائرهم في المجتمعات والمحافل وعلى المنابر يطالبون بتحكيم كتاب الله، والسير على شريعة العدل شريعة السماء، شريعة المنطق السليم، قانون رب العالمين الذي وضعه لخلقه وهو أعلم بهم، هؤلاء بلا شك أحسن قولا من غيرهم، بل إن غيرهم الذين لا يدعون إلى الله ليس في قولهم خير ولا في عملهم بركة.
الذي يدعو إلى الله لا بد أن يكون عمله صالحا يلتقى مع قوله، بل هو في عمله الظاهر والباطن يكون أشد مراقبة لله وخشية منه، فإنا في زمن ليس للكلام فيه تأثير كثير وإنما التأثير للعمل والتقليد، فما أشد حاجتنا إلى علماء ووعاظ ربانيين وقرآنيين يكون عملهم مثلا أعلى يحتذيه كل مسلم، وقال على سبيل المفاخرة والمجاهرة: إننى من المسلمين وجماعتهم، وهذه الآية مسوقة لتثبيت قلب من يدعو، وتربيته بأدب القرآن والله يعلم أن دعاة الحق لا بد أن يصادفهم ما يؤلمهم فيقول لهم: لا تستوي الحسنة- كالدعوة إلى الله- ولا السيئة كالإعراض عنها وذم القائم بها.
والعلاج هو أن تدفع السيئة بالحسنة يا سبحان الله! هذا علاج القرآن وحقا كان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها، كدفع الغضب بالصبر، ودفع الجهل بالحلم، والإساءة بالعفو.
فإذا فعلت مع عدوك ذلك فاجأك «1» في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهة في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة.
وما يؤتى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على المكروه وراضوا أنفسهم على تحمل الأذى، وكانوا أقوياء أشداء، ليس الشديد بالصرعة- هو من يصرع الناس ويغلبهم- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من خلق النفس وكمالها.
تلك مرتبة عالية، ومركب صعب أن يقابل الإنسان منا السيئة بالحسنة وخاصة وهو يتحمل العذاب في سبيل خير الناس، فإن لعب بك الشيطان ونزغك وحاول أن
(1)(فإذا الذي بينك) الفاء للسببية، وإذا الفجائية ظرف مطلق، المعنى التشبيه، وهذا على القول باسميتها.