الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات:
بَراءٌ: برىء فَطَرَنِي: خلقني عَقِبِهِ: ذريته الْقَرْيَتَيْنِ: هما الطائف ومكة، والرجلان هما الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف سُخْرِيًّا أى: مسخرا لقضاء المصالح سُقُفاً: جمع سقف وَمَعارِجَ: جمع معرج وهو درج السلم يَظْهَرُونَ: يرتقون ويعلون على السطح وَزُخْرُفاً: المراد به الزينة حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ قيل: هو الذهب خاصة يَعْشُ يقال عشا يعشو: إذا تعامى وتغافل، وفي القاموس:
العشا سوء البصر نُقَيِّضْ: نسبب له شيطانا الْمَشْرِقَيْنِ المراد: مشرق الشمس شرقا ومشرق القمر غربا الْقَرِينُ: الصاحب، والصديق.
المعنى:
لقد تقرر في الآيات السابقة أن حب التقليد داء عضال مرض به كثير من الأمم السابقة، وينشأ من تغلغل المادة في نفوس الناس، وجاء الإسلام ينعى على مشركي مكة تقليدهم لآبائهم تقليد الأعمى، وانغماسهم في المادة حتى جعلوها كل شيء، وهنا يحكى القرآن الكريم مقالة لإبراهيم الخليل أبى العرب الأول، حين تبرأ من دين آبائه
وأجداده مؤثرا الدليل والنظر السليم، على تقليد الآباء في الباطل: وإن حالكم أيها العرب لعجيب!! فإذا كنتم مصرين على التقليد مغرمين به فها هو ذا أبوكم إبراهيم أشرف العرب قاطبة أحق بالتقليد من غيره، فقلدوه في هجر الأصنام، وترك عبادة الأوثان واحتقار ما عليه الآباء والأجداد إذا كان منافيا للعقل والمنطق السليم.
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى برىء منكم، وبرىء مما تعبدون من دون الله حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر، لكن الله خلقني فسوانى، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا، ويهديني حالا، إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ تقوم مقام قولك:(لا إله) وقوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي تقوم مقام (إلا الله) فكأنه قال: لا إله إلا الله، ومعلوم أن هذه- لا إله إلا الله- كلمة التوحيد، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1»
جعلها كلمة باقية في عقبه، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد الله حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ على معنى: بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها، فالله- سبحانه وتعالى لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى، وأرسل لهم رسلا حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أى: جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق، فانظر إلى هؤلاء المشركين: زادهم الله من نعمه وأمدهم بفضله، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا، فلما جاءهم الحق من عند الله قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون.
هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل، واعتقادهم أنها كل شيء، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند الله. قالوا: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا: النبوة والرسالة درجة رفيعة
(1) - سورة البقرة آية 132.
لا يستحقها إلا رجل شريف، والشرف عندهم وليد المال، لذلك أنكروا على محمد بن عبد الله الرسالة، ولكن الله يرد عليهم فيفحمهم بقوله: أهم «1»
يقسمون رحمة ربك؟! أنكر عليهم أنهم يقسمون رحمة الله وفضله على الناس، وأنى لهم ذلك؟ وهم أجهل الناس بأنفسهم فكيف يعرفون غيرهم ويعطونه حقه من الفضل؟! نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. وأعطينا هذا مالا وذاك أولادا، وهذا مالا ورجالا، وذلك فقير من المال والرجال. وكذلك في الصحة والنعم الأخرى، وكان العطاء والمنع لحكم الله يعلمها، لا لشيء آخر.
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات في الفضل والجاه وغيره فكانت النتيجة أنهم اتخذ بعضهم بعضا سخرياّ! كل يخدم نفسه، وإن كان في الظاهر يخدم غيره، ورحمة ربك الشاملة للنبوة وغيرها خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني.
هذه الدنيا وما فيها من أموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن لما أعطى الكافر منها جرعة ماء، وهي سجن المؤمن ومتاع غيره، والآخرة خير وأبقى، ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على ديدن الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم «2»
سقفا من فضة، ومعارج من فضة كذلك عليها يعرجون ويصعدون، ويجعلون لبيوتهم أبوابا ولهم سرر عليها يتكئون وتكون من فضة خالصة، ويجعل لهم زينة في أثاثهم ومتاعهم وقصورهم ومراكبهم تتناسب مع كل زمان ومكان.
لولا أن يكون الناس كفارا لميلهم إلى الدنيا وزخارفها بطبعهم لجعل الله لهم ذلك هوانا للدنيا، وتحقيرا لشأنها، وأنها متاع فان لا قيمة له، ولذا قال ما معناه: وإن كل ذلك «3»
إلا متاع الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، والجنة ونعيمها الدائم قد أعدت عند ربك للمتقين.
ولا عجب في ذلك فإن من يعش عن ذكر الرحمن، ويتعام عن النظر في القرآن ويصم أذنيه عن سماع الحق يقيض الله له شيطانا، ويهيئ له ذلك لأنه آثر العمى على
(1) - الاستفهام هنا للإنكار والتعجب.
(2)
- لبيوتهم بدل من لمن يكفر بالرحمن.
(3)
- هذا الحل المعنوي يشير إلى أن لما بمعنى إلا، وإن بمعنى ما النافية، وفي قراءة: لما بالتخفيف، وعليه فما زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف، وأن هي المخففة من الثقيلة.