الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلبْ الثاني حكم احتساب الضريبة من الزكاة
تبين مما تقدم أن الضريبة فريضة مالية ملزمة من الدولة لجميع القاطنين فيها، سواء كانوا من أهلها أو من الواردين للإقامة فيها؛ مسلمين كانوا أو كفارا (1)، إلا أن
(1) وقد اختلفت آراء العلماء المتقدمين والمعاصرين في حكم الضرائب، إلا أن أكثر خلافهم هو من اختلاف التنوع لا التضاد؛ إذ أكثرهم متفقون على جواز الضرائب عند الحاجة إليها، مع مراعاة العدل في تطبيقها، قال ابن حزم 4/ 725:"فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين" ثم ساق الأدلة على ذلك، وقال الجويني في الغياثي (74):"الإمام يكلف الأغنياء من بذل فضلات الأموال ما تحصل به الكفاية والغناء".
وقال الغزالي في المستصفى 1/ 177: "أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر -إلى قوله-: فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند" وقد جاء نحو هذا التقرير عن غير واحد من الأئمة؛ كالقرطبي والشاطبي والونشريسي وغيرهم. انظر الجامع لأحكام القرآن 11/ 60، والاعتصام 2/ 121، والمعيار المعرب 11/ 127، وأما ما جاء من ذمِّ للضرائب سواء بلفظها أو بلفظ المكوس، فإن المراد بذلك غالبا ما كان منها جائرا، وهذا التقرير هو الذي تؤيده القواعد والمصالح المرعية المستفادة من الأدلة الشرعية، فانظرها إن شئت في المحلى 4/ 725، والاعتصام 2/ 121 حيث قرر الشاطبي جواز ذلك بقوله: "وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا؛ فإن القضية فيه أحرى ووجه المصلحة هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام وصارت ديارنا عُرْضَةً لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله =
المسلم يتوجب عليه شرعًا دفع فريضة الزكاة أيضًا، وهو الأمر الذي تسبب في إثارة هذه المسألة، لا سيما مع انتشار الضرائب في بلاد الإسلام وتقنينها (1)، مع أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا عن هذه المسألة لوجود الضرائب بمسمياتها المختلفة في زمانهم، وقد نقل لنا فيها قولان:
القول الأول: جواز احتساب الضريبة من الزكاة، وهو رواية عن أحمد (2)، واختاره النووي فيما يأخذه السلطان على أنه بدل من الزكاة (3)، وهو قول لشيخ
= شوكة الإمام بعدله". وقد قرر ذلك أيضا جملة من المعاصرين منهم القرضاوي في كتابه فقه الزكاة، فقد أطال فيه وأجاد 2/ 1134، والزكاة والضريبة لعبد الستار أبو غدة ص 410، ضمن أبحاث الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة، ولم أُطِلْ أكثر من ذلك في هذه المسألة؛ لكون حكم الضريبة من حيث الحل والحرمة لا يتأثر به حكم احتسابها من الزكاة؛ فالتحريم إنما يكون على فارض الضريبة لا دافعها، بينما البحث في حكم احتساب دافع الضريبة لذلك من الزكاة، كما أن بعض العلماء المتقدمين نص على جواز احتساب الخراج المأخوذ ظلما من الزكاة كما سيأتي، فالمأخوذ عدلًا أولى.
(1)
وهو وجه كون المسألة من النوازل.
(2)
ينظر: مطالب أولي النهى 2/ 133 حيث جاء فيه: قال الإمام أحمد رحمه الله في أرضِ صُلْحٍ يأخذ السلطان منها نصف الغلة: "ليس له ذلك؛ لأنه ظلم، قيل له: فيزكي المال عما بقي في يده؟ قال: يجزئ ما أخذ السلطان عن الزكاة". قال في المطالب: يعني إذا نوى به المالك. 2/ 133. وقد جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه برواية إسحاق بن منصور الكوسج رحمهم الله 1/ 278: قلت (القائل هو الراوي): ما يأخذه العَشّار يحتسب به من الزكاة؟ قال: نعم، يحتسب به. وإن كان لفظ العَشّار يحتمل الساعي، كما يحتمل المكاس، فيؤيد الرواية السابقة.
(3)
قال رحمه الله في المجموع 5/ 478: "اتفق الأصحاب على أن الخراج المأخوذ ظلما لا يقوم مقام العشر، فإن أخذه السلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد، وفي سقوط الفرض به خلاف سبق في آخر باب الخلطة، والصحيح السقوط، وبه قطع المتولي وآخرون". وقد يفهم من كلامه أن هذا قول في مذهب الشافعية، وهو ما نفاه الهيتمي رحمه الله في الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 353 بقوله: "واعلم أن بعض فسقة =
الإسلام ابن تيمية (1).
القول الثاني: عدم جواز احتساب الضريبة من الزكاة، وهو قول جمهور أهل العلم (2)، واختاره شيخ الإسلام في الرواية الثانية عنه (3)، وهو ما عليه عامة الفقهاء المعاصرين (4)، وقد أفتت به الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة (5).
= التجار يظن أن ما يؤخذ من المكس يحسب عنه إذا نوى به الزكاة، وهذا ظن باطل لا مستند له في مذهب الشافعي؛ لأن الإمام لم ينصب المكاسين لقبض الزكاة ممن تجب عليه دون غيره، وإنما نصبهم لأخذ عشور أي مال وجدوه، قَلّ أو كثر، وجبت فيه زكاة، أولا، وزَعْمُ أنه إنما أمر بأخذ ذلك؛ ليصرفه على الجند في مصالح السلمين لا يفيد فيما نحن فيه؛ لأنا لو سلمنا أن ذلك سائغ بشرطه وهو ألا يكون في بيت المال شيء واضطر الإمام إلى الْأَخْذِ من مال الأغنياء، لكان أخذه غير مسقط للزكاة أيضا؛ لأنه لم يأخذه باسمها".
(1)
حيث جاء عنه كما في اختيارات البعلي (155): "وما يأخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنية الزكاة، وتسقط وإن لم تكن على صفتها".
(2)
رد المحتار 2/ 309، فتح العلي المالك 1/ 139، المجموع 5/ 478، الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 353.
(3)
مجموع الفتاوى 25/ 93، حيث سئل رحمه الله: هل يجزئ الرجلَ عن زكاته ما يُغَرِّمُهُ ولاةُ الأمور في الطرقات أم لا؟ فأجاب: "ما يأخذه ولاة الأمور بغير اسم الزكاة لا يعتد به من الزكاة".
(4)
ينظر: فقه الزكاة 2/ 1178، والزكاة والضرائب في الفقه الإسلامي للبعلي (ص 530)، ضمن أبحاث الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة. وقد صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونص المقصود منها: لا يجوز أن تحتسب الضرائب التي يدفعها أصحاب الأموال على أموالهم من زكاة ما تجب فيه الزكاة منها، بل يجب أن يخرج الزكاة المفروضة ويصرفها في مصارفها الشرعية، التي نص عليها سبحانه وتعالى بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. مجموع فتاوى اللجنة 9/ 285.
(5)
فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة (ص 70).
أدلة القولين:
أدلة القول الأول:
لم أقف لهذا القول على دليل صريح، إلا ما يمكن أن يلتمس له من التعليل:
1 -
بالتيسير على الناس، ودفع المشقة عنهم، وذلك إذا كانت الضرائب ظالمة (1).
2 -
فأما إن كانت الضرائب مما يراعى فيها العدل، فيُعَلَّلُ لها -إضافةً إلى ما سبق- تحقيق الضريبة العادلة لمقصد الزكاة من سَدِّ خَلَّة الفقراء واستصلاح حالهم (2).
ويجاب عن ذلك: بأن الزكاة عبادة مفروضة لها أركانها وشروطها، فلا يقوم غيرها مقامها بقصد التيسير، وإنما التيسير فيما تحتمله النصوص لا فيما ينافرها، وما أخذ من المال ظلما من مالكه؛ فإنه يرجى له الأجر عليه، وأن يخلفه الله له، كما أن هذا القدر يخصم من الوعاء الزكوي الذي تجب فيه الزكاة، وهو نوع من التيسير.
(1) ينظر: فقه الزكاة 2/ 1175.
(2)
يفهم ذلك من كلام بعض المعاصرين كأبي زهرة في قوله: إن هذه الضرائب إلى الآن لم يخصص منها مقادير ذات قيمة للتكافل الاجتماعي، وإن المقصد الأصلي من الزكاة هو سد الخلل الاجتماعي، وهي مطلوبة قبل كل شيء، وقد تُغْنِي عن بعض الضرائب، ولكن الضرائب القائمة لا يمكن أن تغني عنها؛ لأنها لم تسد إلى الآن حاجات الفقراء، ولا بد أن تسد. تنظيم الإسلام والمجتمع ص 165، نقلا من فقه الزكاة 2/ 1180، وقد تعقبه الدكتور القرضاوي بعد ذلك بقوله: وفي هذا الجواب من شيخنا أبي زهرة تساهل ملحوظ؛ لأن مفهومه أن الضرائب إذا خصصت منها مقادير ذات قيمة للتكافل الاجتماعي، وسد حاجات الفقراء،؛ فإنها يمكن أن تغني عن الزكاة. مع أن الزكاة لا يُسْقِطُها شيء، ولا يُغْنِي عنها شيءٌ قط، فهي فريضة فرضها الله، فلا يملك نَسْخَهَا أو تجميدَها العباد، ولا بد أن تؤخذ باسمها ورسمها ومقاديرها وبشروطها، وتُصْرَف في مصارفها التي عينها الله في كتابه.
وأما التعليل: بأن الضرائب إذا كانت عادلة فإنها تحتسب من الزكاة، لتحقيقها لمقصد الزكاة من سَدِّ خَلَّة الفقراء، فإنه لا يُسَلَّم لما تقدم بيانه من اختصاص الزكاة بشرائط وأركان لا تجتمع مع الضريبة بحال، مع اختلاف النية في كل منهما، وعدم صرف الضريبة كلها في مصارف الزكاة، فأما إن صرفت في مصارف الزكاة، ونواها الدافعُ زكاةً فإن لاحتسابها عندئذ وجها سيأتي بيانه -إن شاء الله- (1).
أدلة القول الثاني: الدليل الأول: أن الزكاة عبادة يُشْتَرَط فيها نيةُ التقرب إلى الله، وذلك مُتَعَذِّر في الضريبة (2).
ويناقش: بأنه يمكن لدافع الضريبة أن ينوي عند دفعها التقربَ إلى الله، لا سيما إن كانت تصرف في مصارف الزكاة، فإن لم تكن كذلك فإن النية لا تكفي في تحويل الفريضة المالية إلى عبادة شرعية مع اختلاف الحقيقة.
الدليل الثاني: أن الضريبة تؤخذ من الناس بغير اسم الزكاة، فلا يشرع عندئذ لدافعها احتسابها من الزكاة (3).
ويناقش: بأنَّ أَخْذَهَا بغير اسم الزكاة يكون مؤثرا إذا لم تصرف في مصارف الزكاة، وهو الغالب، فإن صُرِفَتْ في مصارفها فلا أثر لأخذها مع اختلاف المسمى.
الدليل الثالث: اختلاف الزكاة عن الضريبة من وجوه كثيرة، كمصدر التشريع،
(1) ينظر: الترجيح (ص 325)، وقد تقدمت الإجابة من أصحاب القول الثاني عن ذلك، كما في الصفحة السابقة، وفي حاشية رقم (2) من كلام الدكتور القرضاوي ردًّا على الشيخ أبي زهرة.
(2)
ينظر: فقه الزكاة 2/ 1056، والزكاة والضرائب في الفقه الإسلامي للبعلي (ص 530)، ضمن أبحاث الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة.
(3)
مجموع الفتاوى 25/ 93 الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 353.
وسبب الإيجاب، وأهداف كل منهما، ومصارفهما، وثبوت الزكاة في كل زمان ومكان، بخلاف الضريبة التي يرتبط ثبوتها وعدمه باجتهاد الحاكم في الحاجة إليها من عدم ذلك (1).
الترجيح:
يترجح القول بعدم مشروعية احتساب الضرائب المعاصرة من الزكاة، وإنما تخصم الضريبة من الوعاء الزكوي بعد استحقاقها، مع عدم جواز تأخير الزكاة لأجل ذلك، ويتأيد هذا الترجيح بما يلي:
1 -
أن الزكاة عبادة مفروضة، لها صفات وشروط تختلف كثيرًا عن صفات الضرائب وشروطها، مما يمتنع معه إعطاءُ الضريبة حُكْمَ الزكاة.
2 -
أن الضرائب -قديمًا وحديثًا- لا تصرف في مصارف الزكاة، بل تصرف في نفقات الدولة ومتطلباتها، هذا إن سَلِمَتْ من الظلم والجور.
3 -
أننا لو سلمنا بإنفاق الضرائب على الفقراء في زمان أو مكان معين، فإن احتساب الضرائب من الزكاة عندئذ مؤداه انحسارها عن مصارفها الأخرى، وهذا ما لا يتفق مع الأدلة والمقاصد الشرعية القاضية بصرف الزكاة في مصارفها المنصوصة ما أمكن، لما في ذلك من منافع عظيمة للإسلام والمسلمين، بل ربما أدى ذلك إلى انحسار الزكاة برمَّتها، كما هو الحال في كثير من بلاد الإسلام التي زاحمت الضريبة فيها الزكاة.
4 -
أن المسلم مأجور على ما يصيبه من مشقة إثر اجتماع الضريبة مع الزكاة، إن هو احتسب ذلك عند الله، كما أن المال لا تنقصه الزكاة والصدقة، بل تطهره ويبارك فيه (2).
(1) ينظر: فقه الزكاة 2/ 1054.
(2)
ينظر: فقه الزكاة 2/ 1181.