الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام لم ينقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى دعت المصلحة للتأليف بالزكاة كان ذلك مشروعًا.
ونوقش: بما تقدم من كون هذا الحكم منسوخًا (1).
وأجيب: بعدم التسليم؛ لعدم الدليل على النسخ كما تقدم (2).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن حكم إعطاء المؤلفة قلوبهم قد نسخ (3)، واختلفوا في تحديد الناسخ، فقيل: نُسِخَ بإجماع الصحابة، حيث لم يعط أبو بكر وعمر المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ولم ينكر عليهم بقية الصحابة، فكان إجماعًا (4).
وقيل: إن الناسخ قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29](5) حيث قالها عمر لعيينة بن حصن وكان من المؤلفة قلوبهم، وأراد بذلك أن يمنعه من الأخذ من سهم المؤلفة (6).
وقيل: إن الناسخ قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"(7).
(1) ينظر: بدائع الصنائع 2/ 45، فتح القدير 2/ 261.
(2)
وسيأتي مزيد بيان لاستدلالهم بالنسخ مع المناقشة، في أدلة القول الثاني.
(3)
عُرِّفَ النسخ بتعريفات، منها تعريفه في المستصفى (86) بأنه:"الخطاب الدالُّ على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتًا به مع تراخيه عنه"، وأخصر منه تعريفه في الكوكب المنير بأنه:"رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ". ينظر شرح الكوكب المنير (462).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 45، الدر المختار 2/ 342.
(5)
سورة الكهف 29.
(6)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 45.
(7)
تقدم تخريجه (ص 348).
حيث خص إعطاء الزكاة بفقراء المسلمين، فيستحقونها بهذا الوصف لا بوصف التأليف.
ونوقش: بأن دعوى النسخ مردودة لما يلي:
1 -
أن الإجماع لا يكون ناسخًا للنصوص؛ لأن الإجماع إنما يكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسخ يكون في حياته صلى الله عليه وسلم (1)، قال شيخ الإسلام في الجواب عن جعل الإجماع ناسخًا ما نصه: "وقد نقل عن طائفة كعيسى بن أبان (2) وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبى حنيفة ومالك أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخًا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يُجَوِّز تبديلَ المسلمين دينَهم بعد نبيهم، كما تقول النصارى من أن المسيح سَوّغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويُحِلُّوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دينَ المسلمين، ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يُستتاب كما يُستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد، وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقًا بسبب إنما يكون مشروعًا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نُسِخَ لما رُوِي عن عمر رضي الله عنه أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] (3) وهذا الظن غلط، ولكن عمر رضي الله عنه
(1) ينظر: التقرير والتحبير 3/ 69، البحر المحيط 5/ 285.
(2)
عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى، كان إماما في الفقه، وكان حسن الحفظ في الحديث، تفقه على محمد بن الحسن. من كتبه: خبر الواحد، وكتاب الجامع، وكتاب إثبات القياس، وغيرها. تُوُفِّي في 221 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 1/ 440، طبقات الشيرازي (143)، أخبار القضاة 2/ 170.
(3)
سورة الكهف (29).
استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السّبيل والغارم ونحو ذلك (1).
2 -
وأما اعتبار الناسخ هو قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29](2) فغير صحيح، كما تقدم من كلام شيخ الإسلام؛ وذلك لأن تلك الآية مكية (3)، وأما آية المؤلفة قلوبهم فهي مدنية (4)، ومن شروط النسخ تأخر الناسخ عن المنسوخ (5)، كما أنه لا تعارض بين الآيتين حتى نلجأ للنسخ، وهو لا يكون إلا مع التعارض، فمتى أمكن الجمع فلا نسخ (6).
3 -
وأما اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "صدقه تُؤخذ من أغنيائهم فتُرَدّ في فقرائهم "(7) ناسخًا، فمقتضاه نسخ بقية الأصناف من أهل الزكاة، ممن لم يتعرض له الحديث، كالعاملين عليها وابن السّبيل، وهذا باطل، وإنما الحديث لبيان أحد أخبرني مصارف الزكاة وأوصافها التي تختلف بها عن غيرها من الضرائب المالية (8).
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 33/ 94.
(2)
سورة الكهف (29).
(3)
قال القرطبي في تفسيره (10/ 346) في مطلع سورة الكهف: "وهي مكية في قول جميع المفسرين". اهـ.
(4)
قال ابن كثير في مطلع تفسيره (2/ 232) لسورة التوبة المتضمنة لآية الصدقات ما نصه: " هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. وآخر سورة نزلت براءة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128].
(5)
ينظر: البحر المحيط 5/ 216، شرح الكوكب المنير (462).
(6)
ينظر: البحر المحيط 5/ 211، شرح الكوكب المنير (463).
(7)
تقدم تخريجه (ص 44).
(8)
ينظر: ففه الزكاة 2/ 647.
ثم إن اختلاف الحنفية في تحديد الناسخ دليل على اضطراب قولهم وضعفه (1).
4 -
كما أن عدم إعطاء عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة للمؤلفة قلوبهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ليس بسبب النسخ، وإنما بسبب عدم الحاجة لتأليفهم في زمنه رضي الله عنه، وذلك يرجع تقديره لأُولي الأمر في كل زمنٍ بِحَسَبِه (2).
الدليل الثاني: زوال العلة التي من أجلها شُرعَ تأليف القلوب بالزكاة، وهي ضعف الإسلام وأهله، فقد استغنى الإسلام والمسلمون عن ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا مقتضى لصرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم (3).
ونوقش: بأنه لا يسلم حصر علة المشروعية بضعف الإسلام وأهله، فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة وانتصار المسلمين، فَلِلتأليفِ على الإسلام عِلَل، منها ما ذكروا، وأَظْهَرُ من ذلك استنقاذ المؤلفة ومَن وراءهم من النار بإسلامهم إن كانوا كفارا، وثباتهم إن كانوا مسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي الرجلَ، وغيرُهُ أحَبُّ إليّ منه، خشيةَ أن يُكَبَّ في النار على وجهه "(4)، وهذا يكون في حال ضعف المسلمين وقوتهم، وقد نص على توسعة العلةِ الحنفيةُ أنفسهم (5)،
(1) ومن ذلك قول ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار (2/ 341) جوابًا على النسخ للحكم بالآية: وإن لم يظهر لنا أنّ الآية التي ذكرها عمر تصلح لذلك وهي قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
(2)
ينظر: المغني 9/ 317.
(3)
ينظر: الدر المختار 2/ 342، الأم 2/ 93.
(4)
تقدم تخريجه (ص 396).
(5)
قال أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن 3/ 181: " {وَاَلْمُؤَلَفَةِ قُلُوبُهُمْ} : فإنهم كانوا قوما يُتَأَلَّفون على الإسلام بما يُعطون من الصدقات، وكانوا يتألفون بجهُات ثلاث: إحداها للكفار لدفع معرتهم، وكف أذيتهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين، والثانية: لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام=