الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونوقش:
أولًا: أن من شروط جواز استثمار أموال الزكاة عند القائلين به أن يكون الاستثمار بعد تلبية الحاجات المُلِحَّة والفورية للمستحقين، فيجب سَدّ حاجتهم أولًا، ثم التفكير في استثمار الأموال، وليس من المعقول أن يتضوَّر الفقراء جوعًا، بينما تكدِّس مؤسسات الزكاة الأموال للمتاجرة بها!!
ثانيًا: أن السبب في عدم تلبية أموال الزكاة للاحتياجات المتزايدة للمستحقين هو امتناع بعض الأغنياء عن إخراج زكاة أموالهم، ولو أُلْزِم هؤلاء بدفع زكاتهم لتحصَّل من ذلك أموال كثيرة يمكن أن تلبّي حاجاتِ المستحقين، كما يمكن استثمار بعضها لتوفير أرباح دورية لصالح المستحقين.
ثالثًا: أن استثمار أموال الزكاة ينشأ عنه أرباح دورية، يمكن صرفها على المستحقين متى ما عجزت الزكاة المجموعة من الأغنياء عن تلبية حاجات المستحقين، وهكذا فالاستثمار يعالج مشكلة نقص الأموال الزكوية، ولا يؤدي إلى حرمان المستحقين من تلبية احتياجاتهم (1).
أدلة القول الثاني:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كانوا يستثمرون أموال الصدقات من إبل وبقر وغنم، فقد كان لتلك الحيوانات أماكنُ خاصة للحفظ والرعي والدَّرّ والنسل، كما كان لها رعاة يرعونها ويُشرفون عليها، ويؤيد ذلك ما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه: أن أناسًا من عُرَيْنَةَ اجتووا المدينة، فرخص لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فشربوا من ألبانها وأبوالها. . . الحديث (2).
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة للفوزان (144).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب قول الله تعالى: =
فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسِم إبل الصدقة على المستحقين حال وصولها إليها، وإنما وضع لها راعيًا، واستثمرها بما ينشأ عنها من تناسل ولَبَنٍ يُصْرف للمستحقين (1).
وهكذا خلفاؤه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فسأل عنه، فأخبره الذي سقاه أنه ورد على ماءٍ قد سَمَّاه، فإذا نَعَمٌ مِن نَعَم الصدقة وهم يَسْقُون، قال: فحلبوا في من ألبانها، فجعلتُه في سِقائي، فهو هذا، فأدخل عمر رضي الله عنه يده فاستقاءه (2).
ونوقش: بأن اعتبار ذلك استثمارًا غيرُ مُسَلَّم، فقد كان لمجرد حفظ الحيوانات لحين توزيعها على المستحقين لا للاستثمار، وما يحصل من توالد وتناسل ودَرّ لبن فهو طبيعي غير مقصود، فلا يدل هذا الدليل على جواز إنشاء مشاريع إنتاجية طويلة الأجل، وإنما يدل على جواز استثمار أموال الزكاة في إحدى المصارف الإسلامية لحين توزيعها أو توصيلها إلى المستحقين، فإن هذا الاستثمار للحفظ وتحقيق النفع للمستحقين من رَيْعها، فلا حرج فيه لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فَلْيَفْعَل "(3)(4).
= {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، برقم:(6802)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين: برقم: (1671). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(1)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير: 2/ 519.
(2)
أخرجه مالك في الموطَّأ، كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها، برقم:(606) والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب قسم الصدقات، باب الخليفة ووالي الإقليم العظيم الذي لا يلي قبض الصدقة ليس لهما في سهم العاملين عليها حق: 7/ 14 رقم: (12943).
(3)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنَّمْلَة والحمة والنظرة، برقم: 2199 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 528.
2 -
ما ورد أن رجلًا من الأنصار أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: "أما في بيتك شيء؟ " قال: بلى، حِلْسٌ (1) نلبس بعضَه ونبسط بعضَه، وقَعْبٌ (2) نشرب فيه من الماء، قال:"ائْتِنِي بِهِما"، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:"من يشتري هذين؟ " قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: "مَن يزيد على درهم؟ " مرتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال:"اشتر بأحدهما طعامًا وانْبِذْه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُومًا فَأتني به"، فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له:"اذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يومًا"، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا خير لك من أن تجيء المسألة نُكْتَةً في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غُرْم مفظع، أو لذي دم موجع (3) "(4).
(1) قال في المصباح المنير (146): "الحِلْس: كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله والجمع أحلاس مثل: حمل وأحمال والحلس بساط يبسط في البيت".
(2)
قال في المصباح المنير (510)"القعب: إناء ضخم كالقصعة والجمع قعاب وأقعب مثل سهم وسهام وأسهم".
(3)
قال ابن الأثير: "الفقر المُدْقِع: الشديد الذي يُفْضي بصاحبه إلى الدَّقْعاء، وهو التراب"، وقال:"الغُرْم المُفْظِع: الشديد الشنيع" وقال: "والدّم الموجِع: أن يتحمّل دِيةً، فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤدها قُتِل المُتَحَمّل عنه، فيوجعه قتله". النهاية في غريب الحديث 2/ 127، 3/ 459، 5/ 156.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة برقم:(1641)، واللفظ له لكن أخرج الحديث بألفاظ مغايرة الإمام أحمد في المسند برقم:(12300)(3/ 126)، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة برقم:(653)، وابن ماجه في سننه: كتاب التجارات، باب بيع المزايدة برقم:(2198)، وفيه عبد الله الحنفي، قال ابن حجر في التقريب (3724):"عبد الله الحنفي أبو بكر البصري لا يُعرف حاله". قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 34): "والحديث معلول بأبي بكر الحنفي، فإني لا أعرف أحدا=
وجه الدلالة: أنه إذا جاز استثمار مال الفقير المشغول بحاجاته الأصلية جاز للإمام استثمار أموال الزكاة قبل شغلها بحاجاتهم (1).
ونوقش:
أولًا: بأن إسناد هذا الحديث ضعيف، فلا يحتج به.
ثانيًا: وعلى التسليم بصحته فهو عام في الاستثمار والإنتاج، وليس خاصا باستثمار أموال الزكاة (2).
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارِقِي رضي الله عنه (3) دينارًا يشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. الحديث (4).
وجه الدلالة: أن عروة رضي الله عنه اتَّجَر في مال لم يوكَّل بالاتَّجار به، فيدل ذلك على جواز استثمار مال الغير بغير إذن مالكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك ودعا له بالبركة، وإذا جاز استثمار المال الخاص بغير إذن صاحبه، جاز للإمام أو نائبه استثمار أموال الزكاة بغير إذن المستحقين؛ لأن الإمام له حق النظر والتصرّف بالمال
= نقل عدالته، فهو مجهول"، وقد ضَعَّف الحديثَ الألبانيُّ خلال حكمه على الأحاديث المذكورة في سنن أبي داود برقم: (1641) (ص 254)، كما ضعف إسناده شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: 19/ 183. إلا أن الجزء الأخير من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة. . . إلخ " حسنه لغيره لشواهده.
(1)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 521.
(2)
ينظر: استثمار أموال الزكاة للفوزان (123).
(3)
عروة البارقي: هو عروة بن عياض بن أبي الجعد البارقي، وبارق من الأزد، ويقال: إن بارقًا جبل نزله بعض الأزد فنُسبوا إليه، صحابي جليل، استعمله عمر على قضاء الكوفة، ينظر: أسد الغابة (1/ 767) الإصابة (4/ 488).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب:(28) برقم: (3642).
بما يُحَقِّق المصلحة للمستحقين ويدفع الضرر عنهم (1).
ونوقش: بأن الحديث واقعة عين، فيُحْتمل أن يكون عروة رضي الله عنه وكيلًا في البيع والشراء معًا (2).
وأجيب: بأن هذا الاحتمال بعيد، بل ظاهر الحديث أنه كان موكَّلًا بالشراء فقط؛ لأن الحاجة من التوكيل كانت داعية إلى الشراء دون البيع (3).
4 -
أن عبد الله وعبيد الله (4) ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير البصرة، فرحَّب بهما وسَهَّل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مالٌ من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأُرْبِحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكُلُّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما. أَدّيا المالَ ورِبْحَه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمنّاه، فقال عمر: أَدّيَاه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين. . . لو
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 531.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 409.
(3)
ينظر: استثمار أموال الزكاة للفوزان (ص 126).
(4)
عبيد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي: أمه أم كلثوم بنت جرول الخزاعية وهو أخو حارثة بن وهب الصحابي المشهور لأمه، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ثبت أنه غزا في خلافة أبيه عمر، وكان عبيد الله من شجعان قريش وفرسانهم، ولما قتل أبو لؤلؤة لعنه الله، عمرَ رضي الله عنه، عمد عبيد الله ابنه هذا إلى الهرمزان وجماعة من الفرس فقتلهم. لكن قال ابن عبد البر: إن فيه اضطرابًا. قتل عبيد الله بن عمر بصفين مع معاوية. ينظر: الإصابة (2/ 349) الاستيعاب (1/ 310).
جعلته قِرَاضًا؟ (1) فقال عمر: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال (2).
وجه الدلالة: أن ابني عمر استثمرا مالًا من أموال الله - كما في الأثر -، فدلَّ ذلك على جواز مثل هذه الصورة (3)، وأموال الزكاة من أموال الله تعالى، فيجوز استثمارها، وفي الأثر لم يعترض عمر رضي الله عنه على ابنيه لاستثمارهما هذا المال، وإنما اعترض عليهما؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه خصهما بالمال لينتفعا من ورائه دون غيرهما، فيدل ذلك على إقرار عمر لهما على الاستثمار.
ونوقش: بأن الأثر ليس فيه نص على أن المال كان من أموال الزكاة؛ وإنما كان لبيت المال، فلا علاقة له بالزكاة (4).
ويمكن أن يُجاب ذلك بأن المال المُسْتَثمَر وُصِف بأنه (مال الله)، وهذا الوصف ينطبق على الزكاة، وعلى فرض أنه لم يكن زكاةً، فإنه يمكن قياس مال الزكاة عليه بجامع أن كلًّا منهما حق مالي لله تعالى.
(1) القِراض اسم لعقد شركة المُضَارَبَة: وهي أن يدفع الإنسان لغيره ما لا يتجر به على أن يكون الربح بينهما بحسب اتفاقهما، وتكون الوضيعة على صاحب المال. ينظر: المصباح المنير (ص 406)، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء (ص 276).
(2)
أخرجه مالك في الموطأ: كتاب القراض، باب ما يجوز في القراض، برقم:(1372)، والدارقطني في السنن، كتاب البيوع، رقم:(241)(3/ 62)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب القراض، برقم:(11385)، والأثر صحيح الإسناد، قال عنه ابن كثير:"وهو أصل كبير اعتمد عليه الأئمة في هذا الباب مع ما يعضده من الآثار". مسند الفاروق لابن كثير 1/ 356، كما صحَّح إسناده ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 75).
(3)
مجلة مجمع الفقه (بحث الشيخ تجاني صابون محمد): ع 3 ج 1 (ص 335)، ومصارف الزكاة وتمليكها للعاني (ص 543).
(4)
مجلة مجمع الففه (تقي عثماني) ع 3 ج 1 ص (389).
ويُلحظ في هذا الأثر أن ابني عمر يضمنان هذا المال، ويمكن استثمار أموال الزكاة بهذه الصورة، وذلك بأن تُدفع الأموال لمن يستثمرها بجزء من الربح على أن يضمنها كما في هذا الأثر؛ لأنها مال الله (1).
5 -
أن بعض الفقهاء والمفسّرين قد توسّعوا في مصرف (في سبيل الله)، فجعلوه شاملًا لكل وجوه الخير من بناء الحصون وعمارة المساجد وبناء المصانع، وغير ذلك ممَّا فيه نفع للمسلمين (2).
وإذا جاز صرف الزكاة في جميع وجوه الخير، جاز صرفها في إنشاء المصانع والمشاريع ذات الريع التي تعود بالنفع على المستحقين (3).
ونوقش: بعدم التسليم بمعنى مصرف (في سبيل الله) المذكور، فلا تؤيده الأدلة، ولم ينقل عن فقيه معروف، بل الفقهاء متفقون على أن المراد بمصرف (في سبيل الله) الجهاد في سبيل الله وما في معناه، كما تقدم تقرير ذلك وترجيحه (4).
6 -
القياس على استثمار المستحقين للزكاة بعد قبضها ودفعها إليهم بقصد الاستثمار، فإذا جاز دفعها إليهم بقصد استثمارها لتأمين كفايتهم وتحقيق إغنائهم جاز استثمارها وإنشاء مشروعات صناعية أو زراعية، تدر على المستحقين ريعًا دائمًا ينفق في حاجة المستحقين، ويؤمن لهم أعمالًا دائمة تتناسب مع إمكاناتهم وقدراتهم (5).
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة للفوزان (ص 128).
(2)
وقد عزاه القفال إلى بعض الفقهاء ولم يسمهم، كما نقله الرازي عنه في تفسيره 16/ 90، واختاره الكاساني، إلا أنه قيده بمن كان محتاجًا، ينظر البدائع 2/ 73.
(3)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 519، ومصارف الزكاة وتمليكها للعاني (ص 544).
(4)
ينظر: (ص 409، 410) من هذا البحث. واستثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 528.
(5)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 519، أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة (نعيم ياسين).
ونوقش: بأن هذا قياس مع الفارق، ففي استثمار المستحقين لأموال الزكاة تحقق شرط التّمليك، أي: أنهم استثمروها بعد أن ملكوها، وصارت من جملة أموالهم، وهذا بخلاف استثمار الأموال من قِبَلِ الإمام أو نائبه، حيث لم يتحقَّق شرط التّمليك (1).
وأجيب: بأن هذا مبني على اشتراط التّمليك في دفع الزكاة، وهذا ليس مسلَّمًا بإطلاق، فيمكن القول بأنه يتحقَّق التّمليك الجماعي للمستحقين عند استثمار أموالهم من قِبَلِ الإمام أو مَن ينيبه (2).
7 -
قياس استثمار أموال الزكاة من قِبَلِ الإمام أو من يُنِيبُه على استثمار أموال اليتامى من قِبَل الأوصياء؛ لأنه نوعٌ من حفظ ماله من التلف والاستهلاك، وهو مقيَّد بأمان العاقبة، والتصرّف وفق المصلحة لقول الله عز وجل:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152](3).
وإذا جاز استثمار أموال الأيتام، وهي مملوكة لهم حقيقةً، جاز استثمار أموال الزكاة قبل دفعها إلى المستحقين لتحقيق منافع لهم، فهي ليست بأشد حُرمةً من أموال اليتامى (4).
ونوقش: بعدم التسليم بهذا القياس لما يلي:
أولًا: أن استثمار مال اليتيم خاص بالأموال الزائدة عن حاجاته الأصلية، بدليل وجوب الزكاة فيها، أما أموال الزكاة فالغالب أنها لا تزيد عن حاجات
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 521، ومجلة مجمع الفقه (تقي عثماني) ع 3 ج 1.
(2)
ينظر: استثمار أموال الزكاة للفوزان (ص 130).
(3)
سورة الأنعام (152)، وسورة الإسراء (34).
(4)
ينظر: مجلة مجمع الفقه (الزرقا) ع 3 ج 1 ص 404، واستثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 521.
المستحقين، ولو زادت يمكن نقلها إلى مكان آخر؛ ولذا لا يجوز قياس استثمار أموال الزكاة المشغولة بحاجات المستحقين على استثمار أموال اليتامى الزائدة عن حاجتهم (1).
ثانيًا: أن مال الزكاة واجب الدفع إلى المستحقين على الفور، ولا يُحجر عليهم التصرف فيه، أما مال اليتيم فإنه يُنْتَظر فيه بلوغه الرشدَ وتحقق أهلية التصرف فيه، فلا يجب الدفع إليه فورًا، بل هو على التراخي؛ ولذا يُستفاد من استثماره وتنميته حتى لا ينقص بالإنفاق عليه وبإخراج الزكاة منه (2).
8 -
قياس استثمار أموال الزكاة من قِبَلِ الإمام أو من ينيبه على استثمار مال الوقف، بجامعِ أنّ كلًّا منهما مالٌ تعلَّق به استحقاقٌ يُقصَدُ به البر والتقرُّب إلى الله تعالى، فتعلّق حق الفقير بمال الزكاة، وتعلُّق حق الموقوف عليه بالوقف، فكما أنه يجوز تنمية مال الوقف والاستفادة من منفعته، فكذا يجوز هذا في مال الزكاة، وإذا جاز للناظر التصرف في الأوقاف بتنميتها واستثمارها لمصلحة الموقوف عليهم، جاز للإمام التصرف في أموال الزكاة باستثمارها لمصلحة المستحقين (3).
ونوقش:
بأنه قياس مع الفارق؛ وذلك لما يلي:
أولًا: أن تعريفات الفقهاء مع اختلاف عباراتها متفقة على أن المقصود من الوقف منفعة الموقوف وريعه مع بقاء رقبته وعينه (4)، ونظرًا لأن الموقوف عليه لا
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير 2/ 529.
(2)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لعيسى شقرة (ص 7) من أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، واستثمار أموال الزكاة للفوزان (ص 131).
(3)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لعيسى شقرة (ص 72)، واستثمار أموال الزكاة لشبير (ص 34).
(4)
ينظر رد المحتار 4/ 337 مواهب الجليل 6/ 18، مغني المحتاج 3/ 522 الروض المربع 7/ 432.
يملك رقبة الموقوف؛ فإنه لا يتمكن من الانتفاع بها إلا بطلب غلتها وثمرتها، فجاز له استثمارها، أما الزكاة فإن المستحقين لها يملكون رقبة الأموال وما ينشأ عنها من منفعة، فافترقا من هذا الوجه (1).
ثانيًا: أنّ مِن أركان الوقف أن يكون هناك واقف، وفي استثمار أموال الزكاة لا يوجد واقف؛ لأن أموال الزكاة قبل قبضها من قبل المستحقين ليست مملوكةً لهم حقيقةً حتى يقفوها، كما أنها ليست مملوكة للمزكين أو للإمام (2).
وقد أجيب ذلك بأن هذه الحالة ذات شَبَهٍ بالوقف من بعض الوجوه، وليست مطابقةً له، وما دام الأمر كذلك، فليست بحاجة لتوفُر أركان الوقف وشروطه (3).
9 -
القياس على تقديم الزكاة قبل الحول لمصلحة المستحقين وسَدِّ حاجتهم، فإذا جاز تقديم الزكاة لصالح المستحقين، جاز تنميتها واستثمارها لصالحهم من باب أولى (4).
ويناقش: بأن النصوص جاءت بجواز تقديم الزكاة، بخلاف التأخير، فقد ترجح عدم جوازه، مع كون الاستثمار يتعرض للتأخير والخسارة.
10 -
العمل بالاستحسان (5) في هذا المسألة خلافًا للقياس، فالأصل عدم جواز تأخير صرف أموال الزكاة لاستثمارها، إلا أن الحاجة ماسَّة إلى ذلك في هذا
(1) ينظر: استثمار أموال الزكاة لعيسى شقرة (ص 72) من أبحاث وأعمال الندوة الثالثة.
(2)
ينظر: استثمار أموال الزكاة لشبير (ص 41).
(3)
ينظر: مجلة مجمع الفقه (بحث الدكتور حسن الأمين) ع 3 ج 1 (ص 367)، واستثمار أموال الزكاة للفوزان (ص 131).
(4)
ينظر: مصارف الزكاة وتمليكها للعاني (ص 544).
(5)
يعرف الاستحسان بتعريفات منها: تعريف أبي الخطاب بأنه: "العدول عن موجِب القياس إلى دليل أقوى منه" التمهيد 4/ 93، وانظر الإحكام للآمدي 4/ 391.