الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلبْ الثالث زكاة الثمار المعدة للتجارة
(1)
يجتمع في الثِّمار المعدَّة للتجارة سببان للزكاة:
أولهما: كونها عروض تجارة ويجب فيها ربع العشر.
وعروض التجارة: هي كل ما أُعد للبيع والشراء من العقارات والسيارات والسلع، فإذا حال عليها الحول من نيتها للتجارة وبلغت نصابا فإن الزكاة تجب فيها، فتقوّم عند تمام الحول، ويخرج ربع عشر قيمتها، ويدل على ذلك ما رواه سمرة بن
(1) يراد بالثمار هنا: كل ما وجبت فيه الزكاة مما خرج من الأرض، على خلاف بينهم فيما تجب فيه الزكاة مع كونهم قد اتفقوا على إيجابها في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، واختلفوا فيما عدا ذلك على أقوال أشهرها ثلاثة:
القول الأول: إيجاب الزكاة في كل ما خرج من الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض، وهو مذهب أبي حنيفة.
القول الثاني: إيجاب الزكاة في كل ما يقتات ويدخر من الحبوب والثمار، وهو مذهب المالكية والشافعية على خلاف بينهم في بعض التفاصيل.
القول الثالث: إيجاب الزكاة في كل ما ييبس ويبقى ويكال، وهو المذهب عند الحنابلة، انظر المبسوط 3/ 3، والكافي لابن عبد البر (ص 102)، والأم 2/ 46، والشرح الكبير 6/ 494، وللاستزادة والترجيح. انظر: أبحاث الندوة الثامنة لقضايا الزكاة المعاصرة في زكاة الزروع والثمار للدكتور ماجد أبو رخية 8/ 47، والدكتور محمد رأفت 8/ 77، والدكتور زكريا المصري 8/ 143، وفقه الزكاة للقرضاوي 1/ 377.
جندب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمرنا أن نخرج الصدقة من الذي تعد للبيع (1).
وثانيهما: كونها زروعًا وثمارًا، ويجب فيهما العشر أو نصفه أو ثلاثة أرباعه.
فقد اتفق الفقهاء (2) في زكاة الزروع والثمار على أن ما سقي بالأمطار وماء الأنهار بلا آلة وجب فيه العشر، وأما المسقي بآلة، كالدلو والدولاب والساقية والناقة ونحو ذلك فيجب فيه نصف العشر، لأن المؤنة تكثر فيه وتقل فيما يسقى بالسماء أو السيح.
وقد نقل أبو شجاع من الشافعية عن البيهقي الإجماع على ذلك، كما حكاه صاحب البحر الزخار من الزيدية، وقال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا، وفي صحيح مسلم:"وفيما يسقي بالساقية نصف العشر"(3).
ولا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار اتفاقًا لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]؛ لأن الخارج نماء في ذاته فوجبت فيه الزكاة فورًا كالمعدن، بخلاف سائر الأموال الزكوية، فإنما اشترط فيها الحول ليمكن فيه الاستثمار.
(1) أخرجه أبو داود في سننة، كتاب الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة، 2/ 145 (1562).
(2)
راجع في الفقه الحنفي: فتح القدير 2/ 2، حاشية ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار 2/ 53، وفي فقه الشافعية: تحفة الحبيب للبجيرمي على الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، وفي فقه الحنابلة راجع والمغني لابن قدامة 2/ 698، وفي فقه المالكية: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1/ 449، وفي فقه الظاهرية: المحلى لابن حزم 5/ 256. وفي الفقه الزيدي: البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار لابن المرتضى 2/ 168.
(3)
مسلم، كتاب الزكاة، باب ماهية العشر أو نصف العشر 3/ 67 (981).
وقد اتفق الفقهاء أنه لا تجب فيها الزكاة مرتين للسببين المذكورين إذا تحققت فيها شروط الوجوب، واستدلوا على ذلك بما رُوِي من حديث فاطمة بنت حسين (1) مرفوعًا:"لا ثناء في الصدقه"(2)، وإنما يجب إحدى الزكاتين، على خلاف بينهم أي الزكاتين هي الواجبة؟
وذلك على قولين:
القول الأول: تجب فيها زكاة التجارة، وهو قول الحنفية (3) والشافعية في القديم (4)، والمذهب عند الحنابلة (5).
القول الثاني: تجب فيها زكاة العين، وهو قول المالكية (6) والشَّافعية
(1) فاطمة بنت حسين بن علي بن أبي طالب، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وقد تزوجها ابن عمها حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فولدت له عبد الله وإبراهيم وحسنا وزينب، ثم مات عنها، فخلف عليها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، زوجها إياه ابنها عبد الله بن حسن بأمرها، فولدت له القاسم ومحمدا ورقية، فمات عنها. وقد روت عن أبيها، وعن جدتها فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفيت في خلافة هشام بن عبد الملك، سنة 110 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 473، تاريخ دمشق 70/ 17، أعلام النساء 4/ 44.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، باب من قال لا تؤخذ الصدقة في السنة إلا مرة، باب رقم:(129)، وأبو عبيد في الأموال (383) بلفظ:"لا ثني في الصدقة"، وذكر وجهين لمعناه، ومنها المقصود هنا، وهو ألا تؤخذ الصدقة في عام مرتين، وانظر: المبسوط 1/ 27، تبيين الحقائق 1/ 268، المدونة 1/ 324، والمنتقى 2/ 123، الأم 2/ 66، المجموع 6/ 8، الإنصاف 7/ 69، الفروع 2/ 412.
(3)
ينظر: المبسوط 1/ 207، فتح القدير 2/ 166.
(4)
ينظر: المجموع 6/ 8، روضة الطالبين 2/ 277.
(5)
ينظر: الإنصاف 7/ 69، كشاف القناع 2/ 71، ومسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه؛ برواية إسحاق الكوسج 1/ 256.
(6)
ينظر: المنتقى 2/ 123، مواهب الجليل 3/ 166.
في الجديد (1)، وقولٌ عند الحنابلة (2).
الأدلة:
دليل القول الأول:
استدلوا بأن زكاة التجارة أنفع للفقراء؛ لأنها تجب فيما زاد بالحساب، وتزداد بزيادة القيمة (3).
ويناقش: بأنه لا يلزم أن تكون أنفع للفقراء بكل حال، فقد يكون المقدار المخرج زكاة زروعًا وثمارًا أكثر؛ لكونه يعادل العشر أو نصفه أو ثلاثة أرباعه، بينما زكاة عروض التجارة تعادل ربع العشر، كما أن تقويمها إذا كانت عروضًا قد يقل لانخفاض قيمتها فتقصر عن النصاب، أو يكون نصابها متدنيًا بخلاف زكاة الزروع فهي ثابتة؛ لاعتمادها على الكيل.
أدلة القول الثاني:
1 -
أن زكاة العين أقوى؛ للإجماع عليها ولتعلقها بالعين (4).
2 -
أن نصابها يعرف قطعا بالعدد والكيل، بخلاف زكاة التجارة فإنما يعلم نصابها بالتقويم وهو ظني (5).
(1) ينظر: الأم 2/ 66، روضة الطالبين 2/ 277.
(2)
ينظر: المغني 4/ 256، وقال فيه ابن قدامة:"وقال القاضي وأصحابه: يزكي الجميع زكاة القيمة وذكر أن أحمد أومأ إليه؛ لأنه مال تجارة، فتجب فيه زكاة التجارة كالسائمة". وانظر: الإنصاف 7/ 69.
(3)
ينظر: المجموع 6/ 8.
(4)
ينظر: المجموع 6/ 8.
(5)
المرجع السابق.
يناقش: بأن استعمال الظن وارد في زكاة العين أيضًا عند الخرص لتقويم النصاب.
3 -
أن زكاة العشر أحظّ للفقراء من زكاة ربع العشر.
يناقش: بأن زكاة العشر أحظّ من وجه، وزكاة التجارة أحظّ من وجه، كما تقدم (1).
الترجيح:
يترجح القول الثاني لما يلي:
أولًا: عموم الأدلة القاضية بإيجاب زكاة العين في الزروع والثمار.
ثانيًا: أن زكاة العين أقوى؛ للإجماع عليها، وتعلقها بعين المال المزكى.
ثالثًا: أن الشارع لم يكن ليخفى عليه عند إيجاب زكاة الزروع والثمار أن كثيرًا من زارعيها أرادوا بها التجارة، ومع ذلك اكتفى فيها بتقرير زكاة الزروع والثمار.
رابعًا: أننا لو قلنا بتساوي الأدلة، فليس إيجاب زكاة التجارة فيها بأولى من إيجاب زكاة الزروع والثمار، فنبقى على الأصل وهو المتعلق بعين المزكى، وهو زكاة الزروع والثمار.
ولتنزيل حكم الثمار المعدة للتجارة على الواقع فإنها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون مالكها يزرعها ثم يبيعها، فإنَّه يجري في هذه المسألة الخلاف السابق، ويترجح ما سبق وهو زكاتها زكاة العين بإخراج العشر أو نصفه من الزروع والثمار، والمتعين غالبًا في هذه الأزمان هو نصف العشر، لوجود الكلفة في الزراعة والتخزين ونحوها من متطلبات الزراعة الحديثة.
(1) ينظر: دليل القول الأول ومناقشته أعلاه.
الحال الثانية: أن يكون مالكها يشتري المحصول بعد حصاده ليبيعه، فتجب فيها زكاة التجارة؛ لأنها عروض تجارة، ولم تصدق عليها أحكام زكاة الزروع والثمار؛ لأنها إنما تكون عند الحصاد؛ لعموم الآية:{وَكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1). ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: "والأمر عندنا في الرجل يشتري بالذهب أو الورق حنطة أو تمرًا أو غيرهما للتجارة، ثم يمسكها حتى يحول عليها الحول، ثم يبيعها، أن عليه فيها الزكاة حين يبيعها إذا بلغ ثمنها ما تجب فيه الزكاة، وليس ذلك مثل الحصاد يحصده الرجل من أرضه، ولا مثل الجداد".
وقال في المنتقى معلقًا على كلام الإمام مالك: "وهذا كما قال، أنه إذا اشترى حنطة أو تمرًا للتجارة ثم باعه بعد الحول، فإنَّه يزكي ثمنه زكاة الأثمان، ولا يزكيه زكاة الحبوب؛ لأنَّ الحبوب إنَّما تزكى زكاتها عند تنميتها على وجه الحرث وهو الزراعة، والتنمية بالتجارة إنَّما هي تنمية الذهب والفضة، والذي يراعى في ذلك جهة التنمية، فإن كانت من جهة الزراعة روعي فيها نصاب الحب، وكانت الزكاة في عينه، وإذا كانت التنمية بالتجارة روعي نصاب الثمن، وكانت الزكاة في قيمة الحب دون عينه"(2).
علمًا بأنَّ القدر الواجب في الحالين المذكورتين إنَّما يجب إخراجه بعد تحقق ما يلي:
(1) سورة الأنعام (141).
(2)
المنتقى شرح الموطأ 2/ 122 - 123، ولم أقف على خلاف ما نص عليه الإمام مالك عند أئمة المذاهب، والذي يظهر هو أن الخلاف منحصر فيما زُرع وأعد للتجارة، وأما الذي اشتري ليباع فهو من عروض التجارة، مع كونهم لم ينصوا على ذلك سوى ما ذكرت من كلام الإمام مالك، انظر: المجموع 6/ 8، والمغني 4/ 256.
أولًا: بلوغ المال الزكوي نصابًا وهو خمسة أوسق في زكاة الزروع والثمار (1)، وقد تقدمت معادلتها بالمكاييل والأوزان الحديثة (2)، أما في زكاة التجارة فيكون النصاب هو نصاب النقدين بعد تقويم العروض، وسيأتي بيانه تفصيلاً إن شاء الله (3).
فإن بلغت إحدى الزكاتين نصابًا دون الأخرى، فإنَّه يجب إخراج الزكاة مما بلغ نصابًا، سواءً كانت زكاة تجارة، أو زكاة زروع وثمار، لوجود مقتضيها من غير معارض (4).
ثانيًا: يتم حساب المال الذي يخضع للزكاة بعد استخراج الأصول الثابتة المستخدمة في إنتاج وبيع تلك الثمار، مثل الأبنية والأجهزة كالثلاجات والمعدات الزراعية ونحوها، لكونها عروض قنية، وليست للتقليب والنماء، فلا يجب فيها زكاة التجارة، وهي ليست من الزروع والثمار فزكاتها إنما تؤخذ منها (5).
ثالثًا: مضي الحول، ويتحقق ذلك بالحصاد في زكاة الزروع والثمار، وبتمام سنة قمرية على العروض من حيث نية التجارة فيها، فإن سبق حول إحداهما الأخرى
(1) وهو قول جمهور أهل العلم خلافًا للحنفية الذين لا يشترطون النصاب، وقد تقدمت الإشارة لذلك.
(2)
ينظر: المطلب الأول من المبحث الأول من الفصل الثاني.
(3)
وذلك في المبحث الثالث من الفصل الثاني.
(4)
وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، ولم أقف على المسألة عند الأحناف والمالكية، انظر: روضة الطالبين 2/ 277، والمجموع 6/ 9، الشرح الكبير مع الإنصاف 7/ 70.
(5)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 19، الكافي (ص 88)، روضة الطالبين 2/ 266، المغني 4/ 256، وانظر للاستزادة: أحكام زكاة صور من عروض التجارة للدكتور محمد رأفت عثمان 6/ 129 من أبحاث الندوة السابعة لقضايا الزكاة المعاصرة، وبحث الدكتور أحمد الكردي 7/ 198، وبحث الدكتور وهبة الزحيلي 7/ 244، وبحث الدكتور ماجد أبو رخية 8/ 71، وبحث الدكتور محمد زكريا المصري 8/ 144.
وجبت زكاة ما مضى عليه حول، سواء كانت زكاة تجارة أو زكاة زروع وثمار؛ لوجود مقتضيها من غير معارض (1).
(1) وهو قول عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وفي قول آخر للشافعية هو الأصح عندهم أن الحكم كما لو اتفق حولاهما، انظر: روضة الطالبين 2/ 278، والمجموع 6/ 9، والفروع 2/ 512، والإنصاف 7/ 702.