الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها من أصناف متعددة مختلفة القيمة، فدل على إرادة الأعيان، ولو كانت القيمة معتبرةً لفَرَضَها من جنس واحد، أو ما يعادله قيمة من الأجناس الأخرى (1).
ونوقش: أولًا: بأن ذلك من قياس الحاضر على الغائب المجهول، فإنهم قاسوا عصرهم على عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذه الأشياء لما كانت مختلفةَ القيم في عصرهم، كانت كذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر يحتاج إلى نقل صريح في إثباته، وإلا فالأزمنة تختلف في الأسعار، ومساواة الأشياء وتفاضلها.
ثانيًا: أن هذه دعوى غير مسلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين هذه الأشياء ولم يسو بينها (2).
أدلة القول الثاني
(3):
1 -
أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم"(4)، والإغناء يحصل بالقيمة؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة (5).
ويناقش: بأن الحديث ضعيف، وأن الإغناء كما يكون بالمال يكون بالطعام أيضًا.
(1) المرجع السابق، وسيأتي من استدلالات القول الثاني ما يكون جوابا لبعض أدلة القول الأول.
(2)
ينظر: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال (ص 114).
(3)
غالب هذه الأدلة قد انتظمها كتاب تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال، لأبي الفيض أحمد بن محمد الصديق الغماري، فراجعه إن شئت المزيد.
(4)
سبق تخريجه (ص 359).
(5)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 73.
2 -
أن الأصل في الصدقة المال، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} (1)، والمال في الأصل ما يملك من الذهب أو الفضة، وبيان الرسول للمنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج، لا لحصر الواجب (2).
ويناقش: بعدم التسليم بهذا الأصل، فالمال يطلق على كل ما يتمول، ومن ذلك بهيمة الأنعام والحبوب، والأنواع المنصوصة في زكاة الفطر، فالأصل في زكاة كل نوع ما ورد فيه.
3 -
إذا ثبت جواز أخذ القيمة في الزكاة المفروضة في الأعيان، فجوازها في الزكاة المفروضة على الرقاب -زكاة الفطر- أولى؛ لأن الشرع أوجب الزكاة في عين الحب، والتمر والماشية، والنقدين، كما في حديث معاذ الذي قاله له النبي صلى الله عليه وسلم فيه لما بعثه إلى اليمن:"خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر"(3) ولما كان الحال كذلك اقتضت حكمة الشرع البالغة أمر الناس في عهد النبوة بإخراج الطعام ليتمكن جميعهم من أداء ما فرض عليهم، ولا يحصل لهم فيه عسر، ولا مشقة؛ وذلك لأن النقود كانت نادرة الوجود في تلك الأزمان ببلاد العرب ولا سيما البوادي منها، وخصوصًا الفقراء، فلو أمر بإعطاء النقود في الزكاة
(1) التوبة: 103.
(2)
تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال (ص 59).
(3)
رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع برقم:(1599) ورواه ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال برقم:(1814) والحاكم في مستدركه (1/ 546)، كتاب الزكاة برقم:(1433) وقال: "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل فإني لا أتقنه". قال ابن حجر في التلخيص، كتاب الزكاة، باب زكاة المعشرات (844):"قلت: لم يصح لأنه ولد بعد موته أوفي سنة موته أو بعد موته بسنة، وقال البزار: لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ".
المفروضة على الرؤوس لتعذر إخراجها على الفقراء بالكلية، ولتعسر على كثير من الأغنياء الذين كان غناهم بالمواشي والرقيق، والطعام، أما الطعام فإنه متيسر للجميع، ولا يخلو منه منزل إلا من بلغ به الفقر منتهاه، فكان من أعظم المصالح، وأبلغ الحكم العدول عن المال النادر، العسر إخراجه إلى الطعام المتيسر وجوده، وإخراجه لكل الناس.
ويناقش: بعدم التسليم بإطلاق هذا التعليل، إذ التشريع لكل زمان ومكان، كما أن قيمة زكاة الفطر يسيرة، والدراهم والدنانير كانت شائعة في زمنهم، ولا تشق على كثير منهم، مع كون الزكاة فيها معنى التعبد الذي يتحقق يقينًا بإخراج الطعام في زكاة الفطر.
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها، مع تساويها في كفاية الحاجة، وسد الخلة فأوجب من التمر والشعير صاعًا، ومن البر نصف صاع (1)، وذلك لكونه أعلى ثمنًا لقلته بالمدينة في عصره، فدل على أنه اعتبر
(1) وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، ساق الغماري في كتابه اثنا عشر حديثًا موصولًا منها، وأربعة مراسيل، وعشرة موقوفات، ومثلها من المقطوعات، ومن ذلك ما روى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا ينادي في فجاج مكة:"ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير: مدان من قمح، أو سواه صاع من طعام" قال الترمذي "حسن غريب". وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة رمضان نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، على العبد والحر، والذكر والأنثى. ثم قال الغماري بعد سياق الأحاديث بطرقها الموصلة وغيرها:"فهذه الروايات تثبت صحة ورود نصف الصاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق القطع والتواتر إذ يستحيل -عادة- أن يتواطأ كل هؤلاء الرواة على الكذب أو اتفاق الخلفاء الراشدين ومن ذكر معهم من الصحابة والتابعين الذين لم يفش فيهم داء التقليد على القول بما لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت ذلك وبطل ادعاء البيهقي: ضعف أحاديث نصف الصاع من البر، ثبت المطلوب، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر القيمة في زكاة الفطر". تحقيق الآمال (ص 83).=
القيمة، ولم يعتبر الأعيان، إذ لو اعتبرها لسوى بينها في المقدار (1).
ويناقش: بأن اعتبار القيمة هنا لا يلغي اعتبار النوع، فهما جميعًا معتبران.
5 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء يوم عيد الفطر: "تصدقن ولو من حليكن"(2).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن صدقة الفرض من غيرها (3).
ويناقش: بأنه لو كان المقصود زكاة الفطر لما أمرهن بها فى الخطبة بعد الصلاة، وقد أمر المسلمين أن يؤدوها قبل الصلاة (4).
6 -
أن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} (5).
وجه الدلالة: أن المال هو المحبوب، فإن كثيرًا من الناس يهون عليه إطعام الطعام، ويصعب عليه دفع ثمن ذلك للفقراء، بخلاف الحال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان إخراج الطعام في حقهم أفضل لأنه أحب، وإخراج المال في عصرنا أفضل، لأنه إلينا أحب (6).
= قلت: ولا يسلم هذا الإطلاق الذي ذكره الغماري، وقد وافق البيهقيَّ غيرُه كالزيلعي في تضعيف هذا الحديث، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق للروايات ليس هذا محله.
(1)
المرجع السابق (63).
(2)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب، الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، برقم:(1397)، ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب، فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، برقم:(1000).
(3)
من استنباط البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة.
(4)
كما في صحيح البخاري، كتاب أبواب صدقة الفطر، باب فرض صدقة الفطر برقم:(1432) من حديث ابن عمر وفيه: (. . . وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
(5)
سورة آل عمران (92).
(6)
ينظر: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال (ص 97).
ويناقش: بأن هذا التفريق بين العصرين في ذلك لا دليل عليه، ثم إنه لو سلم فيحمل على صدقة التطوع، أما الفرض فيتبع فيه المشروع، ويكون هو الأفضل.
7 -
أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"(1)
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قيد الإغناء بيوم العيد ليعم السرور جميع المؤمنين، ويستوي فيه الغني والفقير، وهذا المعنى لا يحصل اليوم بإخراج الحب الذي ليس هو طعام الفقراء والناس كافة، ولا في إمكانهم الانتفاع به ذلك اليوم حتى لو أرادوا اقتياته على خلاف العادة (2).
ويناقش: بما تقدم من تضعيف الحديث (3).
8 -
أن مراعاة المصالح من أعظم أصول الشريعة، وحيثما دارت تدور معها، فالشريعة كلها مبنية على المصالح ودرء المفاسد (4).
(1) هذا الحديث سبق في الفصل الثالث لكن بلفظ: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم". وسبق تضعيفه، أما بلفظ:"أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"، ففد ذكره ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7/ 55)، وضعفه لأجل أبي معشر، وأبو معشر هو: نجيح بن عبد الرحمن السندي، وقد ضعفه أيضًا ابن حجر في التقريب، برقم:(7100).
(2)
ينظر: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال (ص 91).
(3)
ينظر: (ص 359).
(4)
ينظر: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال (ص 102)، وبعد عرض الأدلة والوجوه على جواز إخراج زكاة الفطر نقودًا توصل الشيخ أحمد بن محمد الصديق الغماري إلى تفصيل حالات المتلقين لزكاة الفطر، وبيان ما هو الأفضل لكل مجتمع قائلًا: "فمراعاة لهذه المقاصد نقول: إن الواجب على أهل البادية البعيدة من المدن إخراج الطعام المقتات عندهم لا التمر ولا المال؛ لأن حالهم مشابه لحال أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم في كون طعامهم الحب، مع وجود الأرحاء في بيوتهم التي تمكنهم من الانتفاع به، بخلاف المال فإن الفقير لو أخذه في البادية لاضطر معه إلى السؤال حيث لا توجد أسواق، ولا دكاكين لبيع الطعام =