الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما قوله: "لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهرَهُ"؛ فمعناه: لم يعطفْ، ومنه حنيتُ العودَ: عطفتُه، ويقال: حنيت، وحنوت -بالياء، والواو-؛ لغتان حكاهما الجوهري، وغيره، وقد روي بهما في "صحيح مسلم": يحنو، ويحني، والأكثر في اللغة والرواية: الياء.
وفي هذا الحديث فوائد:
منها: ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتابعة له؛ في الصلاة، وغيرها، حتى لم يتلبسوا بالركن الذي ينتقل إليه، حين يسرع في الهُوِيِّ إليه؛ بل يتأخرون عنه.
ومنها: أن في فعل الصحابة ذلك دليلًا على: طول الطمأنينة من النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:"فإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سجدَ فاسجدوا" ما يقتضي تقديم ما يسمى ركوعًا وسجودًا.
ومنها: أن السنة للمأموم: لا ينحني للسجود حتى يضع الإمامُ جبهته على الأرض، إلا أن يعلم من حاله؛ أنه لو تأخر إلى هذا الحد، لرفع الإمام من السجود قبل سجوده.
ومنها: مع مجموع ما ذكر؛ أن السنة للمأموم: أن يتأخر عن الإمام قليلًا، بحيث يشرع في الركن، بعد شروعه فيه، وقبل فراغه منه، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(1).
أَمَّا قولهُ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ":
(1) رواه البخاري (747)، كتاب: صفة الصلاة، باب: جهر الإمام بالتأمين، ومسلم (410)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين.
فقد اختلف العلماء في معنى الموافقة:
فالأظهر: أنها راجعةٌ إلى الزمان، ويقوي ذلك قوله في رواية في "صحيح مسلم":"إذا قالَ أحدُكم: آمينَ، والملائكةُ في السماءِ: آمينَ؛ فوافقتْ إحداهما الأُخرى، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"(1).
وقيل: وافقهم في الإخلاص، والصفاتِ الممدوحة.
وقيل: وافقهم في مجردِ القول، ويلزم منه الموافقةُ في الزمان؛ فهو راجع إلى الأول.
وقوله: "غُفر له ما تقدَّم من ذنبهِ"؛ أي: من الصغائر، إن كانت، وإن لم تكن؛ رُجي تخفيفُ الكبائر، وإن لم تكن كبائر؛ رُفعت درجات.
واختلف في الملائكة المذكورين في الحديث؛ فقيل: الحفظة، وقيل: غيرهم من أهل السماء؛ للحديث في "صحيح مسلم": "فوافقَ قولُه قولَ أهلِ السماء"(2).
وأجاب الأولون عنه: بأنه إذا قالها الحاضرون؛ من الحفظة، قالها مَنْ فوقهم؛ حتى تنتهي إلى أهل السماء، ووقع في رواية، في غير الصحيح:"فمن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ؛ غُفِرَ لهُ"(3)؛ وهي صحيحة المعنى؛ فإن الموافق للموافق موافق، والله أعلم.
وفي هذا الحديث:
دليل على: استحباب التأمين للإمام، والمأموم، وأما المنفرد؛ فيستحب له -أيضًا-، ولكل قارئ في غير الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قالَ أحدُكم: آمينَ"، الحديث؛ وهو أعمُّ من أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا، أو في غير صلاة.
(1) رواه مسلم (410)(1/ 307)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين.
(2)
رواه مسلم (410)(1/ 307)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين.
(3)
بل رواه البخاري (6039)، كتاب: الدعوات، باب: التأمين.
وفيه دليل على: استحباب موافقة المأموم الإمام، في التأمين؛ فيكون معه، لا قبله، ولا بعده.
وقد يستدل به على: الجهر بالتأمين للإمام؛ وهو ضعيف؛ فإن فعله، والتحضيضَ عليه، لا يلزم منه الجهرُ به، ووجهُ الاستدلال على جهر الإمام به: أنه علق تأمينهم بتأمينه؛ فلا بد أن يكونوا عالمين به، ولا يحصل لهم العلم إلا بالسماع.
قال أصحاب الشافعي: يسن للإمام، والمنفرد: الجهر بالتأمين؛ وكذا يسن للمنفرد، على المذهب الصحيح، وأجمعت الأمة على: أن المنفرد يؤمن؛ وكذلك الإمام والمأموم، في الصلاة السرية؛ وكذلك قال الجمهور في الجهرية.
وقال مالك، في رواية عنه: لا يؤمن الإمام في الجهرية.
وقال أبو حنيفة، والكوفيون، ومالك، في رواية: لا يجهر بالتأمين، وقال الأكثرون: يجهر.
واستدل لمالك: أن الإمام لا يؤمن؛ بأن المراد من الحديث، إذا أمن الإمام: على بلوغه موضع التأمين؛ وهو خاتمة الفاتحة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا قالَ: ولا الضالين، فقولوا: آمين"(1)؛ فإذا بلغ موضعه، قيل: أَمَّن، وإن لم يتلبس به؛ كما يقال: أنجد: إذا بلغ نجدًا، وأتهم: إذا بلغ تهامة، وأحرم: إذا بلغ الحرم؛ فكذلك إذا أمن: إذا بلغ موضعه.
وهذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه على ظاهر الحديث؛ فإن حقيقته في التأمين، عُمل به، وإلا فالأصل: عدم المجاز، ولعل مالكًا اعتمد على عمل أهل المدينة؛ إن كان لهم في ذلك عمل، ورجح به مذهبه، وقد تقرر في كتب الأصول: ضعفُ القول بعمل أهل المدينة فقط، خصوصًا إن عارضه نص، أو ظاهر.
وفيه دليل على: فضل الإمام؛ فإن تأمينه موافق لتأمين الملائكة؛ ولهذا شرع
(1) رواه مسلم (415)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه.