الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه: أنه يجوز لغير المؤذن الراتب أن يُعْلِمَ الإمامَ بالصلاة، خصوصًا إذا كان في إعلامه مصلحةٌ ظنها، أو تحقَّقها.
وفيه: ذكر المصلحة مبينة غير مجملة، والله أعلم.
* * *
الحديث السابع
عن عائشِةَ رضي الله عنها، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إذَا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وحَضَرَ العَشَاءُ، فابْدَؤوا بِالعَشَاءِ"(1)، وعن ابنِ عمرَ: نحوُه (2).
ولمسلمٍ عَنْها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ"(3).
أمَّا عائشةُ، وابنُ عمر؛ فتقدَّم ذكرهما.
اعلم: أن الألف واللام في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ"؛ يحتمل الاستغراقَ بجميع الصلوات، ويحتمل أن يكونَ لتعريف الماهية، ويحتمل أن يكون للعهد؛ لصلاة معينة للشرع.
لا جائز أن يكون للاستغراق للأمر بالبداءة بالعشاء لحضور العشاء؛ فخرج به صلاة النهار، وتبين أنها غير مرادة، فبقي الترددُ بين صلاة الليل؛ وهي: المغرب، والعشاء، وانتفى تعريف الماهية، وترجحَ حملُها على معهود الشرع معين عنده؛ وهي: المغرب؛ لما صح في بعض الروايات: "إذا وُضِعَ العَشَاءُ،
(1) رواه البخاري (5148)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، ومسلم (558)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه البخاري (642)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (559)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.
(3)
رواه مسلم (560)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.
وأَحَدُكُم صَائِمٌ، فابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا" (1)، وفي رواية صحيحة: "فَابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ المَغْرِبِ" (2).
والحديث يفسر بعضه بعضًا، فأما أهل القياس والنظر، ففهموا المعنى في الحديث: في تقدم الطعام على الصلاة؛ لعدم التشويش بالتشوف إلى الطعام؛ لتنبيهه صلى الله عليه وسلم بقوله في الرواية المفسرة: "وأَحَدُكُمْ صَائِمٌ"؛ فإنه مؤدٍّ إلى عدمِ الحضورِ في الصلاة.
لكن هل يقتصر على ما يكسر سَوْرَةَ الجوع، أو يأكل ما يشبعه؛ بحيث لا يؤدي إلى خروج الصلاة عن وقتها، ولا يذهب حضوره فيها؟
نُقِلَ عن الإمام مالك رحمه الله: البَدَاءَةُ بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا خفيفًا، واستدل بالحديث المفسر، وعلى أَن وقتَ المغرب فيه توسعة.
لكن إن أراد التوسعة بالنسبة إلى الطعام للصائم، فمقبول، وإن أراد التوسعة إلى غروب الشفَق، ففيه نظر بالنسبة إلى من يقول بضيقِ وقتِها، وتقديره بزمان معين يدخل فيه ما يكسر سَوْرة الجوع بلقيمات.
وأما الظاهريَّة فقالوا: بتقديم الطعام على الصلاة مطلقًا، وزاد بعضهم، فقال: وإن صلى، فصلاتُه باطلة، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعامِ، ولا وَهُوَ يُدافعُهُ الأخبثان":
الأخبثان: البولُ، والغائط، وقد ورد التصريحُ بهما في بعض الأحاديث.
وهذا الحديث عام في كل صلاة، ومنعها مع حضور الطعام، ومدافعة الأخبثين؛ لأن (لا) لنفي الجنس مع النكرة تعم، وصلاة نكرة مع لا؛ فكان ذلك عامًّا في كل صلاة.
(1) رواه ابن حبان في"صحيحه"(2068)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5075)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (641)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقد تقدم الكلام بالنسبة إلى اللفظ قبله، وأنه خاص بالمغرب، لا بالنسبة إلى المعنى؛ فإن هذا دال على: المعنى والتعميم، وفيهما دليل على: تقديم حضور القلب، وفضيلته في الصلاة على فضيلة أول الوقت؛ فإنهما لمَّا تَزَاحَمَا قَدمَ صاحبُ الشرع الوسيلةَ إلى حضورِ القلب على أداء الصلاةِ في أولِ الوقت.
وقد يمنع أصحابُ المعاني في هذا الحديث: الحكمَ بتأخير الصلاة بمجرد حضور الطعام، بل يقولون: لا يدفع حضوره التشوف إليه.
قال شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله: والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر؛ فإما أن يكون متيسرَ الحضور عن قرب حتى يكون كالحاضر، أو لا.
فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون كالحاضر، وان كان الثاني: وهو ما يتراخى حضوره، فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإن حضور الطعام يُوجب زيادةَ تشوُّفٍ، وتطلُّعٍ إليه.
وهذه الزيادة يمكن أن تكون اعتبرها الشارع في تقديم الطعام على الصلاة، فلا ينبغي أن يُلحقَ بها ما لا يساويها؛ للقاعدة الأصولية: إن محل النص إذا اشتمل على وصفٍ يمكن أن يكون معتبرًا، لم يُلْغَ، هذا آخر كلامه، وهو نفيس، والله أعلم (1).
ثم اعلم أن مدافعة الأخبثين لا تخلو من أحوال:
أحدها: أن يكون بحيث لا يعقل بسببه الصلاة، وضبط حدودها، فهذا لا تحل له الصلاة، ولا الدخول فيها إجماعًا.
الثاني: أن يكون بحيث يعقلها مع ذهاب خشوعه بالكلية، ومذهب جمهور الأمة: أَنه لا تبطلُ صلاتُه.
ونقل عبد الله بن خفيف رحمه الله عن الشَّافعيِّ رحمه الله قولًا: أَنَّ ذهابَ الخشوعِ يُبطِلُ الصلَاة، وهو غريب جدًّا.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 148).
أما الدخول فيها مع فقدان الخشوع، فقد يقال: يمنعه على هذا القول، والذي يتعين: أنه مكروهٌ.
الثالث: أن يكون بحيث يؤدي إلى الإخلال بركن، أو شرطٍ امتنع الدخول في الصلاة معه، وان دخل، واختل الركن، أو الشرط، فسدت الصلاة به.
وان لم يؤدِّ إلى ذلك، فالمشهورُ من مذاهب العلماء: الكراهة.
ونقل عن مالك في ذلك: أنَّه يؤثرُ في الصلاة بشرط شغله عنها، وأنه يعيد في الوقت، وبعدَه، وتأولَه بعضُ أصحابه: على شغل لا يدري كيف صلى معه، وأما الشغلُ الخفيف الذي لا يمنعُ إقامةَ حدودها مع ضَمِّ وركيه، فهو الذي يعيدُ معه في الوقت.
والذي يقتضيه التحقيق: أنه إن منع ركنًا، أو شرطًا، منع الدخول، وقيل: فسدت الصلاة به، وإن لم يمنع: فهو مكروه نظرًا إلى المعنى، وإلا: فهو مانع الدخول، أو الاستمرار؛ نظرًا إلى أصل النهي، لكن فعلها مع النهي لا يقتضي الإعادة عند الشافعي، فإنها لا تجب إلا بأمر مجدد.
الرابع: أن يكون بحيث يؤدي به إلى الشك في شيء من الأركان، فحكمُه حكمُ مَنْ شكَّ فيها بغير هذا السبب، وهو البناء على اليقين بأنه لم يفعله، فيأتي به، ويكون ذلك مكروهًا -أيضًا-.
وقد جعل بعضُهم مدافعة الأخبثين ناقضًا للطهارة، أو قائمًا مقام الناقض؛ لخروج الخبث عن محله ومقره، فيجعله مانعًا للدخول في الصلاة، وهذا بعيد؛ لأنه إحداثُ سببٍ في نواقض الوضوء من غير دليل لم يذكره أحد من العلماء، وليس في الحديث صراحة به، وإن كان فيه مناسبة، لكنها لا تثبت بها الأحكام، والله أعلم.
وأما أحكامه:
ففيه دليل على: أن شهود الصلاة في الجماعة ليس بواجب؛ لأن النداء
بالإقامة إذا سمعه وهو في بيته، وقد حضر طعامه، لم يجبه، وبدأ به، وإن فاتته الصلاة في الجماعة.
وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن الجماعة لا يسقط أصل وجوبها به، لكن حضورَ الطعام عذرٌ في تركها، ووجود العذر رخصة في ترك الواجب، لا أنه يرفعه بمعنى عدم تعلق الخطاب به.
وفيه دليل على: أنه يبدأ بالأكل، ويأكل حاجته بكاملها بحيث يسمى عشاء، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية في "صحيح مسلم:"فابْدَؤوا بِالعَشاء" ولا تعجلَنَّ حتى تفرغَ منه".
وهذا يضعف تأويلَ من تأوله على أكل ما يكسر سورةَ الجوع، ويبطله؛ لكن شرطَه: ألا تخرجَ الصلاة عن وقتها، وتصيرَ قضاءً، هذا هو المذهب الصحيح عند الشافعي، وجمهور أصحابه، وغيرهم.
وحكى أبو سعيد المتولي من أصحاب الشافعي وجهًا لبعض الأصحاب: أنه لا يصلِّي، بل يأكلُ، ويتوضأ، وإن خرج الوقتُ؛ لأن مقصودَ الصلاة الخشوعُ، فلا يفوته، وهو ضعيف؛ لما يلزم منه من ترك واجب لأجل المحافظة على فعل مندوب.
مع أن العلماء من أصحاب الشَّافعي، وغيرهم قالوا: وإن ترك الطعام، وصلى على حاله، وفي الوقت سعة، فصلاته صحيحة، وكان فعلها مكروهًا، ويُستحب له إعادتها.
وفيه دليل على: أنه ينبغي ألا يدخلَ في الصلاة إلا وقلبه فارغٌ من كل ما يشغله، ويُذهب خشوعَه؛ لأنه إذا نُهي عنها لأمر لازم ليس وجوده بتعاطيه؛ فغيره مما يتعاطاه أولى.
وفيه دليل على: فضيلةِ هذه الأمة، وما منحها الله تعالى من مراعاة حظوظ البشرية، وتقديمها على الفضائل الشرعية، ووضع الشديدات عنها، وتوفير ثوابها على ذلك، خصوصًا إذا قصده للمتابعة؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم.