الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"فليصلِّها إذا ذكرها"، وهو كلام مبني على ما قبله، وهو قوله:"من نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها"، والضمير في قوله:"فليصلِّها إذا ذكرها" عائد على الصلاة المنسية، أو التي وقع النوم عنها، فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان، وهو الذكر واليقظة؟ نعم لو كان كلامًا مبتدأ؛ مثل أن يقال: من ذكر صلاةً، فليصلِّها إذا ذكرها، لكان ما قيل محتملًا، وأما قوله: كالناسي، إن أراد بذلك أنه مثله في الحكم، فهي دعوى، ولو صحت لم يكن ذلك مستفادًا من اللفظ، بل من القياس، أو من مفهوم الخطاب الَّذي أشرنا إليه، وكذلك ما ذكر في هذا من الاستناد إلى قوله:"لا كفارةَ لها إلا ذلك"، والكفارةُ إنما تكون من الذنب، والنائم والناسي لا ذنبَ لهما، وإنما الذنب للعامد، لا يصح أيضًا؛ لأن الكلام كله مسُوق على قوله:"من نام عن صلاة أو نسيها"، والضمائر عائدة إليها، فلا يجوز أن يخرج عن الإرادة، ولا أن يحتمل اللفظ ما لا يحتمله، وتأويل لفظ الكفارة هاهنا أقرب، وليس من إيغال أن الكلام الدال على الشيء مدلول على ضده؛ فإن ذلك ممتنع، وليس ظهور لفظ الكفارة في الإشعار بالذنب بالظهور القوي الَّذي تصادم به النص الجلي في أن المراد الصلاة المنسية، أو التي وقع عنها النوم، وقد وردت كفارة القتل خطأً مع عدم الذنب، وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع، وجواز اليمين ابتداء، فلا ذنب، والله أعلم (1).
* * *
الحديث الخامس
عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنهم كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِم تِلْكَ الصَّلاةَ (2).
* أما جابرٌ، فتقدم ذكره.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 58 - 59).
(2)
رواه البخاري (679)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلّى ثم أمّ قومًا، ومسلم (465)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، وهذا لفظ مسلم.
وأما معاذٌ، فكنيته أبو عبد الرحمن بنُ جبلِ بنِ عمرِو بنِ أوسِ بن عايذ -بالياء المثناة من تحت والذال المعجمة- بنِ عديِّ بنِ كعبِ بنِ عمرِو بنِ أودى بنِ سعدِ بنِ عليِّ بنِ أَسدِ بنِ شاردةَ بن تزيدَ -بالتاء المثناة فوق- بنِ جشمَ بنِ الخزرجِ، الأنصاريُّ ثم الجشميُّ، وقيل في نسبه غير ذلك، وهو مدني أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة جدًّا، وكان له ابن يسمى: عبد الرحمن، وبه كني، وقاتل مع أبيه يوم اليرموك، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين ابن مسعود، قال الواقدي: هذا مما لا اختلاف فيه عندنا.
وقال ابن إسحاق: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ وجعفر بن أبي طالب، وبعثه رسول الله قاضيًا إلى الجند من اليمن يعلِّم الناسَ القرآن وشرائعَ الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالدُ بنُ سعيد على صنعاء، والمهاجرُ بن أبي أمية على كندةَ، وزيادُ بن لبيد على حضرموت، ومعاذُ بن جبل على الجند، وأبو موسى الأشعري على زَبيد، وزمعةَ، وعدن، والساحل، ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له:"بم تقضي؟ "، قال: بما في كتاب الله، قال:"فإن لم تجد؟ "، قال: بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الَّذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يحبُّ رسولُ الله"(1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [أعلمُهم -يعني: أُمَّتهُ-] بالحلالِ والحرامِ معاذُ بن جبل"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: "يأتي معاذ بنُ
(1) رواه أبو داود (3592)، كتاب: الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي (1327)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 230)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 114)، عن أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (3795)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل
…
، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (154)، في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند، (3/ 184)، وابن حبان =
جبل يوم القيامة أمامَ العلماء رَتْوَة" (1)، والرتوةُ -بفتح الراء، وبالمثناة فوق ساكنة، وبالواو مفتوحة، ثم هاء التأنيث-، ومعناها: الرمية بسهم، وقيل: بحجر؛ أي: يكون معاذ يوم القيامة أمام العلماء بمقدار مسافة الرمية بالسهم أو الحجر.
وعن فروة الأشجعي وغيره قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود، فقال: إن معاذًا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]، فأعاد قوله: إن معاذًا، فلما رأيته أعادَ، عرفت أنه تعمَّد الأمر، فسكتُّ (2).
وفي رواية قال: سمعتموني ذكرتُ إبراهيم؟ إنا كنا نشبه معاذًا بإبراهيم، قال فروة: فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة: الَّذي يعلم الخير ويُؤتم به ويقتدى، والقانت: المطيع لله، وكذلك كان معاذ بن جبل معلمًا للخير، مطيعًا لله ولرسوله (3).
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "واللهِ يا معاذُ إِنِّي لأُحِبُّكَ"، قال: وأنا واللهِ أحبُّكَ يا رسولَ الله، الحديث (4). وعن عبد الله بن كعب بن مالك رحمه الله
= في "صحيحه"(7131)، والحاكم في "المستدرك"(5784)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1833)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 404)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 347)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 288)، عن محمد بن كعب القرظي، مرسلًا.
وفي الباب: عن جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك رضي الله عنهما.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 349)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9947)، والحاكم في (المستدرك)(9947)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 418).
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 349)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9944)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 419).
(4)
رواه النسائي (1303)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، والطبراني في "المعجم =
قال: كان معاذ رجلًا شابًّا جميلًا من أفضل شباب قومه، سمحًا، لا يمسك، وادَّانَ حتى أغرق ماله كله في الدين، فباع النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله في دَيْنه حتى قام معاذ بغير شيءٍ، في قصة طويلة فيها: أن معاذًا رضي الله عنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طائفة من أهل اليمن عامَ الفتح ليجبره، فمكث أميرًا باليمن، وكان أول من تجر في مال الله تعالى، وأنه أصاب حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم على أبي بكر، الحديث. وهذا الحديث مرسل صحيح (1).
وخرج معاذ إلى الشام في خلافة أبي بكر، واستعمله عمر على الشام إذ مات أبو عبيدة، فمات من عامه في طاعون عَمْواس بين قرية بين الرملة وبيت المقدس، قاله أبو عمر بن عبد البر.
وقال المدائني: مات معاذ بناحية الأردن في طاعون عمواس.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث وسبعة وخمسون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحد، روى عنه من العبادلة: ابنُ عمر، وابنُ عباس، وابن عمرٍو بنِ العاصي، وأبو قتادة الأنصاريُّ، وجابرُ بن عبد الله، وأنسٌ، وأبو أمامةَ الباهليُّ، وأبو ثعلبةَ الخشنيُّ، وعبدُ الله بن أبي أوفى، وعبدُ الرحمن بنُ سمرة، وعبدُ الرحمن بنُ غنم، وجنادةُ بن أبي أمية، والمقدامُ بن معدي كرب، وجماعةٌ من التابعين المخضرمين، وغيرهم، وروى له أصحاب السنن والمساند.
ونسب الطاعون الَّذي مات فيه إلى عمواس؛ لأنه أول ما بدأ منها، قال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو البصري الدمشقي: كان الطاعون بسنة سبع عشرة وثمان عشرة، وفي سنة سبع عشرة رجع عمر من سرغ بجيش المسلمين ليلًا يقدمهم على الطاعون، ثم عاد من العام المقبل سنة ثمان عشرة حتى أتى
= الكبير، (20/ 111)، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه بهذا اللفظ.
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15177)، ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 31)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 429)، لكن عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.
الجابية، فاجتمع إليه المسلمون، فجند ومصَّر الأمصار، وفرض الأعطية والأرزاق، ثم قفل إلى المدينة.
وعن الزهري قال: أصاب الناسَ طاعونٌ بالجابية، فقام عمرو بن العاصي فقال: تفرقوا عنه؛ فإنه بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذه رحمةٌ لهذه الأمة، اللهم فأذكره معاذًا وآل معاذ فيمن يذكره بهذه الرحمة"(1).
واتفقوا على أنه مات سنة ثمان عشرة، إلا قولًا شاذًّا أنه مات سنة سبع عشرة، واختلفوا في سنه يوم مات، فالأكثرون على أنه ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: أربع، وقيل: ثمان، وقيل: إحدى وثلاثين، وقيل: ثمان وعشرين.
قال الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي رحمه الله: وقبره بغور بيسان في شرقيه رحمه الله ورضي عنه - (2).
أما قول جابر: إن معاذًا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، ففيه دليل على جواز مثل هذا، وإضافة المنكر إلى المعرف، وإذا كان المعرف صفة للمنكر، ويعبر عنه بإضافة الموصوف إلى صفته، وهو مذهب الكوفيين، فيقال: عشاء الآخرة، ومسجد الجامع، ومنعه البصريون، وقالوا حيث جاء إضافة المنكر إلى المعرف في الصفة والموصوف إنما هو بتقدير موصوف معرف محذوف، وهو العشاء الآخرة، وفي مسجد المكان الجامع، والله أعلم.
(1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(8/ 371 - 372).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 347)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 359)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 368)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 301)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 228)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1402)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 383)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 489)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 187)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 403)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 105)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 443)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 19)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 136)، و"تهذيب التهذيب"، له أيضًا (10/ 169).
وقد منع بعض العلماء قول: العشاء الآخرة، قال: لأنه يقتضي أن يكون ثمَّ عِشاءٌ أولى، وقد نُهي عن تسمية المغرب عشاءً، وهذا غلط مردود بما ثبت في "صحيح مسلم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّما امرأةٍ أصابَتْ بَخُورًا، فلا تشهدْ معنا العشاءَ الآخِرَةَ"(1)، وقد ثبت ذلك من كلام جماعة من الصحابة؛ لحديث جابر هذا وغيره، والله أعلم.
وأما صلاة معاذ رضي الله عنه صلاةَ العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصليها بقومه، فاعلم أنه ينبغي أن يقرر أولًا أن فرض معاذ رضي الله عنه في هذه الصلاة كانت الأولى، وهي صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه:
أحدها: أنه روى الدارقطني في بعض طرق هذا الحديث فيمن صلى وفعل فعلَ معاذٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فهيَ لهم فَريضةٌ وله تَطَوُّعٌ"(2)، وعللها بعض المالكية بأنها رواية شديدة الضعف، وعلى تقدير ثبوتها، فهي مدرجة، ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل من كلام ابن جريج، أو من روى عنه، أو من قول جابر؛ لأن ابن عيينة رواه، وليس فيه هذه اللفظة التي ذكرها ابن جريج، ولا شك أن الدارقطني إمام جليل لم يذكر شيئًا من ذلك، وهو أخبر، وأعلم بالحديث، فلو كان ثم شيء مما ذكره هذا المالكي المعلل، لبيَّنه، وابن جريج ثقة فيما رواه
(1) رواه مسلم (444)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 274)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 409)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 86)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
قال الطحاوي معقبًا على هذا الحديث: قد روى ابن عينية هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تامًّا، وساقه أحسن من سياق ابن جريج، غير أنه لم يقل فيه هذا الَّذي قاله ابن جريج:"هي له تطوع ولهم فريضة"، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، ويجوز أن يكون من قول عمرو بن دينار، ويجوز أن يكون من قول جابر، فمن أي هؤلاء الثلاثة كان القول، فليس فيه دليل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا؛ لأنهم لم يحكوا ذلك عن معاذ، إنما قالوا قولًا على أنه عندهم كذلك، وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. ا. هـ. وقد نصّ على أن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الرواة: الحافظ الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 53).
وانفرد به، ولا يثبت القدح في مثل هذا بالاحتمال من غير نص من حافظ على أنها مدرجة، والله علم.
الوجه الثاني: أنه يبعد بعدًا شديدًا أن يجعل معاذ فرضَه مع قومه، وصلاتَه مع النبي صلى الله عليه وسلم نافلةً؛ فإنه رضي الله عنه لا يظن به ذلك، فيترك فضيلة فرضه خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بها مع قومه، مع ما ثبت من رتبته في العلم.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أُقيمت الصلاةُ، فلا صلاةَ إلا المكتوبة"(1)، فكيف يُظن بمعاذٍ رضي الله عنه مخالفةُ ذلك، ويصلي النافلةَ مع قيام المكتوبة؟! إذا تقرر هذا، وأن فرض معاذ رضي الله عنه كان الأولى، وأن صلاته بقومه كانت نافلة، فقد ادعى بعضهم أن ذلك منسوخ بأمرين:
أحدهما: أنه يحتمل أن فعل معاذ ذلك حين كانت الفريضة تقام في اليوم مرتين حتى نهي عنه.
والثاني: أن إسلام معاذ كان متقدمًا، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعده سنتين من الهجرة صلاةَ الخوف غيرَ مرة على وجه تقع فيه المخالفة الظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف، وذلك يدل على عدم إيقاع الصلاة في اليوم مرتين على وجه لا يقع المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة.
والجواب عن الأول: أنه لا بد من نقل على إيقاع الفرض في اليوم مرتين، ولا نقلَ، فلا دليل على النسخ، وإثباتُه بالاحتمال لا يجوز.
وعن الثاني: ما ذكر من الملازمة، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعده صلاة شدة الخوف لا يدل على النسخ بتقدير تقدم إسلام معاذ وفعله، كيف والمنازعة واقعة في أن ذلك هل كان عقب إسلامه أو بعده؟ على أنه قد كانت الضرورة داعية إلى صلاة معاذ بقومه؛ لقلة القراء ذلك الوقت، ولم يكن لهم غِنًى عن صلاة معاذ، ولم يكن لمعاذ غِنًى عن صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، مع احتمال فعل معاذ ذلك أنه كان
(1) رواه مسلم (710)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
مقترنًا بحالة مخصوصة أُبيح له ذلك من أجلها، فيرتفع الحكم بزوالها، فلا يكون نسخًا على كل حال، فهو ضعيف؛ لعدم قيام الدليل على النسخ والفعل من كل وجه، والله أعلم.
إذا تقرر أن فرض معاذ الأولى، وعدم نسخه، ثبت جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وادعاء عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعيد جدًّا، ولو فرض عدم علمه بذلك، وأن ذلك لم يجز، لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم، بل كان ينزل عليه الوحي بمنع فعل معاذ، فقد نزل الوحي في المجادلة عن نفسها، وفي التحريم لما أحلَّ الله، وغير ذلك، وأمرُ الصلاة أعظمُ، فدل على بطلان هذا الادعاء، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وهو راجع إلى قاعدة، وهي أن ائتمام المأموم بالإمام واجبٌ في الصورة والنية، والفعل والقول، أم في الفعل وبعض القول؟ وفي ذلك كلام تقدم معظمه، ونتكلم هنا على ما يتعلق بحديث معاذ، فنقول: يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم مطلقًا؛ لحديث معاذ، فيجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، وعكسه، والقاضي بالمؤدي، وعكسه، سواء اتفقت الصلاتان، أم لا، إلا أن تختلف الأفعال الظاهرة، وهو مذهب الشافعي، ومن قال بقوله، وهو أوسع المذاهب.
وخالف مالك في أحد قوليه في ذلك، وقال: لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض، ونقلُ هذا القول عن مالك ليس بجيد، كذا قال شيخنا أبو الفتح القاضي، قال: وهذا أضيقُ المذاهب في هذه المسألة.
وقال أبو حنيفة، ومالك -في المشهور الراجح عنه، وهو أوسط المذاهب-: يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض، لا عكسه (1)، وحديث معاذ رضي الله عنه أشبهُ بالاستدلال على جواز عكس هذا المذهب، خصوصًا لمن لم يعد المعنى في العبادات، لكنه اعترض على فعل معاذ بأن الاستدلال به إنما هو من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم، وشرط صحة الاستدلال بالفعل الواقع من
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 59).