الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وممن قال بأن الجماعة فرض عين: عطاءٌ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، وابنُ المنذر، وابنُ خزيمةَ، وداودُ؛ وهو قولٌ محكيٌّ عن الشافعي.
ومنها: إطلاق الفضيلة في الجماعة؛ سواء تبدد قلب المصلي في الجماعة، أو لم يتبدد؛ لطلب الشرع لها، والحث عليه، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ جمَاعَةً، تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بيتِهِ، وَفي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرينَ ضِعْفًا؛ وَذَلِكَ أنَّهُ إذَا تَوَضَّأ، فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُم خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلا الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً؛ إلا رُفعَتْ لَهُ بَها دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئةٌ، فَإذَا صَلَّى؛ لَمْ تَزَلِ المَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُم صلِّ عَلَيْه، اللهُم اغفِرْ لَهُ، اللهُم ارْحَمْهُ، ولَا يَزالُ في صَلاةٍ؛ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ"(1).
أما أبو هريرة، فتقدم.
والجمعُ بين عدد الدرجات، في الحديث الذي قبل هذا؛ تقدم أيضًا.
وأما الألفاظ:
فالخطوة: -بفتح الخاء-، هي الفعلة من المسمى: واحد الخطا، وبضمها، وهي الرواية: ما بين القدمين؛ وهو الاسم، والفتحُ للمصدر، ولكنها في هذا الموضع، بفتح الخاء أشبهُ؛ لأن المراد: فعل الماشي (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا رُفِعَتْ لَه بِها دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنهُ بِها خطيئةٌ".
(1) رواه البخاري (620)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، وهذا لفظ البخاري.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 51)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 231)، (مادة: خطا).
قال الداودي: إن كانت له ذنوب؛ حُطت عنه، وإلا رفعت له درجات، قال: وهذا يقتضي: أن الحاصل بالخطوة درجة واحدة؛ إما الحط، وإما الرفع، قلت: فعلى هذا تكون "الواو" بمعنى "أو"، لا بمعنى العطف.
وقال غيره: بل الحاصل بالخطوة، ثلاثةُ أشياء؛ لقوله في الحديث الآخر:"كتبَ اللهُ له بكلِّ خطوةٍ حسنةً، ويرفعُه بها درجةً، وحطَّ عنهُ بها سيئةً"(1).
ثم التضعيف في صلاة الجماعة؛ في المسجد، تضعف على صلاة المنفرد؛ في سوقه وبيته، من غير عذر؛ كما تقدم، أما إذا صلى في الجماعة؛ في البيت، أو في السوق، من غير عذر؛ هل يحصل له هذا التضعيف؟
ظاهر لفظه، في تعليله، في قوله صلى الله عليه وسلم:"وذلكَ أَنَّه إذا توضأَ، إلى آخره": يقتضي ترتبه عليه؛ لأن ما رُتِّب على مجموع، لا يحصلُ ببعضه، إلا بدليل على: إلغاء ذلك البعض، وعدم اعتباره؛ فيصير وجودُه كعدمه، ويبقى ما عداه معتبرًا.
إذا تقرر ما ذكرنا؛ فاللفظ يقتضي: الحكمَ بالمضاعفة في صلاته في الجماعة بهذا الوصف، على صلاته في بيته وسوقه؛ وهو الوضوء في البيت، والإحسان فيه، والمشيُ إلى الصلاة؛ لرفع الدرجات، وصلاة الملائكة عليه، ما دام في مصلاه.
فحينئذٍ يلزم أن يكون الحكم في محله، بوجود هذه المذكورات؛ فكلُّ ما أمكن أن يكون معتبرًا منها، لا يجوز ترتُّب الحكم على بعضه؛ لأنه الأصل؛ فإذا صلى في بيته في جماعة، لم يحصل له التضعيف؛ بمقتضى ظاهر اللفظ، والقياس؛ لأنه لا يمكن إلغاؤه.
لكنه ورد حديث آخر مطلق في صلاة الجماعة؛ من غير تقييد بالمسجد؛ فحينئذٍ، يرجع كل واحد من الحديثين، والنظر فيهما: إلى العموم والخصوص.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله، في رواية عنه: لا يتأدَّى الفرضُ في
(1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(6637)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
البيوت، بإقامته في الجماعة فيها؛ ولعلَّه نظر إلى ما ذكرناه.
ثم المفاضلة للصلاة في المسجد؛ بين الانفراد، والجماعة، هل نقول: إنها تحصل للمصلي في البيوت؛ ظاهر إطلاق العلماء حصولُها بينهما بهذا القدر المخصوص؛ أما المفاوتة بينهما، من حيث الجماعة والانفراد؛ فلا شك فيه.
لكن فيه تردد أصحاب الشافعي رحمهم الله؛ في أنه هل يتأدى الفرض، أو المشروع في الجماعة؛ بإقامتها في البيوت؟
إذا قلنا: إنها فرض على الكفاية، منهم من قال: يكفي؛ كما لو صلوا جماعة في السوق.
والصحيح: أنه لا يكفي؛ لأن المشروع في الجماعة، إنما شرع بوصف كونه في المسجد؛ وهو منتفٍ في البيوت، لكنه بعدم الخصوصية في المسجد؛ لا بحسب الجماعة.
أما المفاضلة بين الجماعة: في المسجد، والبيت والسوق؛ فمقتضى الحديث: المفاضلةُ بينهما؛ للمقابلة بلفظ الجماعة بينهما؛ لأنا لو جرينا على إطلاق اللفظ، لم تحصل المقابلة، وكون الشيء قسمًا، يصير قسمًا منه باطل؛ فتصح المقابلة بينهما في الجماعة والانفراد، فيكون الحديث عامًّا: في المسجد، والبيت والسوق بينهما.
وقد أشار بعضهم إلى المفاوتة بين المسجد والسوق فقط؛ من حيث ما ورد: أن الأسواقَ موضعُ الشياطين؛ فالصلاةُ فيها ناقصة الرتبة، فهي مكروهة؛ وهذا ممكن في السوق، بخلاف البيت، فلا تطرد فيه، لكنهم لم يذكروا الصلاة في السوق مع الصلاة في المواضع المكروهة؛ كالحمام، ومعاطن الإبل.
فكأن الحديث خرج مخرج الغالب؛ في أنَّ منْ لم يصلِّ في الجماعة، صلى منفردًا، لا لمقابلة الجماعة بالجماعة؛ في المسجد، وفي البيت والسوق، أو الانفراد؛ بالانفراد فيها؛ وبهذا يرتفع الإشكال.
ثم الأوصاف التي تعتبر في ذلك؛ لا تُلغى، فللناظر في الحديث، معتبر:
فوصف الرجولية: لا يخرج المرأة؛ لتساويها مع الرجل، في ثواب العمل، بالنسبة إليها؛ إلا إذا منعناها الخروج للجماعة في المسجد؛ فحينئذٍ صلاتها في بيتها أفضل؛ مع الجماعة، أو منفردة، من خروجها.
وتقييد الوضوء في البيت: غير معتبر؛ لكونه غير داخل في التعليل.
والوضوء معتبر، لا شك فيه، لكن المعتبر فيه: كونه ظاهرًا؛ [أو فعل الطهارة فيه نظر، ويرجح الثاني باستحباب تحديد الوضوء](1)، لكن الظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا تَوَضَّأ"، ليس للتقييد بالفعل؛ وإنما خرج مخرج الغالب، أو ضرب المثال.
وأما إحسان الوضوء: فلا بد من اعتباره؛ وبه يستدل على: اعتبار فعل الطهارة، لا غيره، ويبقى ما ذكرناه؛ من خروجه مخرج الغلبة، أو ضرب المثال.
وأما خروجه إلى الصلاة، لا غيره: فمشعر بالخروج لأجلها؛ وهو مصرَّح به في حديث آخر: "لا يُخْرِجُه، أو لا يَنْهَزُه إلا الصَّلاةُ"(2)؛ وهذا وصف معتبر.
وأما صلاته مع الجماعة: فلا بدَّ من اعتبارها؛ لأنها محل الحكم، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد:
منها: الحثُّ على الصلاة في الجماعة المشروعة لها.
ومنها: أن فعلها في المسجد أفضل.
ومنها: تجديد الوضوء لكل صلاة، وفعل الواجب أفضل من المندوب.
ومنها: أن المسجد الأبعد للجماعة أفضلُ من القريب، إلا أن تتعطل الصلاة، أو الجماعة؛ بذهابه عنه إلى البعيد.
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".
(2)
رواه الترمذي (603)، كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر في فضل المشي إلى المسجد.