الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجمهور بأنه قد يحصل التأذي بحر المسجد عند انتظار الإمام، لكن قد ثبت في "الصحيح": أنهم كانوا يرجعون من صلاة الجمعة وليس للحيطان فيء يستظلون به (1) من شدة التبكير بها أول الوقت، فدل على عدم الإبراد بها، والله أعلم.
وقد عورض هذا الحديث بما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث خباب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرَّمضاء فلم يشكنا، وسئل أبو إسحاق -يعني: السبيعي- بعد رواية هذا الحديث: أفي الظهر؟ قال: نعم، قيل: أفي تعجيلها؟ قال: نعم (2)، واختلف العلماء في الجواب عنه على أوجه:
أحدها: أنه منسوخ؛ لأنهم لما شكوا ذلك، كانوا بمكة، وحديث الإبراد بالمدينة، فإنه من رواية أبي هريرة وغيره، ومن العلماء من لم ير النسخ، وقال: الجمع ممكن، فيحمل حديثُ خباب على الأفضل، وحديثُ الإبراد على الرخصة، والتخفيف في التأخير، أو يجمع بأن الإبراد سنة؛ للأمر به والتعليل، ويحمل حديثُ خباب على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإبراد الَّذي ذكرناه أولًا، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفارَةَ لَها إلا ذَلِكَ، أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"(3)، ولمسلمٍ:
(1) رواه البخاري (3935)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (860)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (619)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.
(3)
رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْها، فكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا"(1).
تقدم ذكر أنس رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نسيَ صَلَاةَ فَلْيُصَلِّها إذا ذكرَها" معناه: أنه يلزمه الصلاة إذا خرجت عن الوقت بنوم أو نسيان، وتكون قضاء، وهذا لا خلاف فيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا كَفَّارةَ لها إلَّا ذلكَ" يعني: أنه لا كفارة لها غير فعلها وقتَ ذكرِها، ولا يلزمه شيء آخرُ مع فعلها؛ من عتقٍ أو صيام أو صدقة، كغيرها مما تدخله الكفارة مع وجوب قضائه، ويحتمل أن مراده أنه لا بدل لقضائها كما يقع الإبدال في بعض الكفارات، أو أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار، بل لا بدَّ من الإتيان بها.
وقوله: "أقم الصلاة لذكري" قال مجاهد في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]؛ أي: لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها (2).
وقد قرئ في الشواذ: {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا} .
ثم الأمر بقضائها يقتضي فعله عند ذكرها، فيصير ظرفًا للمأمور به، فيتعلق الأمر بالفعل فيه، ولا شك أنه كذلك، أما على الوجوب في حق من تركها عامدًا، فإنه يجب على الفور، أو على الاستحباب في حق النائم والساهي، ولا يجب كما ذكره بعض أصحاب الشافعي، وقد ذكر بعضهم الوجوب على الفور مطلقًا، وبعضهم عدم الوجوب على الفور مطلقًا، واستدل بعض العلماء على عدم وجوب القضاء على الفور بعذر النوم والنسيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما ناموا عن صلاة الصبح بالوادي، فما أيقظهم إلا حر الشمس، أخر قضاءها، واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، وذلك دليل على جواز التأخير، لكنه
(1) رواه مسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 561).
يتوقف ذلك على أنه لا يكون ثَمَّ مانع من المبادرة إلى فعلها، وادَّعى بعضهم أن المانع كونُ الشمس كانت حينئذ طالعة، والصلاة حينئذ مكروهة، وذلك مردود بأنها كانت صبح اليوم، وأبو حنيفة وغيره يجيزها في هذا الوقت، وبأن في هذا الحديث: فما أيقظهم إلا حرُّ الشمسُ، والحرُّ بها لا يكون إلا بعد ارتفاعها، والقضاء كان بعد ذلك، واعتقد بعضهم أن المانع من فعلها على الفور كونُ الوادي حضرَهم فيه الشيطان، وقد نبه في الحديث على ذلك، فأخر الصلاة حتى خرج عنه، لكن كل وقت ومكان وقع فيه مثل هذا يكون قد حضر فيه الشيطان غالبًا، لكن حضوره في الوادي قطعي بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرُه ظنيٌّ راجح، وذلك كله يقتضي رجحان القضاء على الفور وإرغام الشيطان، لكن ما فعله صلى الله عليه وسلم من تأخيرها لذلك راجح مقدَّم على هذا الرجحان الَّذي يقتضي القضاء على الفور في هذه الصورة؛ لأنه صاحب الشرع، وهو صلى الله عليه وسلم أعرف به، والله أعلم.
ثم الصلاة إذا قلنا: إنه يجب الترتيب في قضائها، فلو ذكر الفائتة المنسية وهو في صلاة، هل يقطعها؟ لم يقل المالكية بالقطع مطلقًا، بل لهم في ذلك تفصيل بين الفذ والإمام والمأموم، وبين أن يكون الذكر بعد ركعة أولًا، فلا يستمر الاستدلال مطلقًا لهم، وحيث يقال: يقطعها، فوجهُ الدليل منه أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر، ومن ضرورة ذلك قطعُ ما هو فيه، ومن أراد إخراج شيء من ذلك، فعليه أن يبين معنى مانعًا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها، ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل.
وفي الحديث دليل على: وجوب القضاء على العامد بالترك بطريق الأولى؛ لأنه إذا لم تقع المسامحة مع قيام العذر بالنوم والنسيان، فلأن لا يقع مع عدم العذر [أولى]، وحكى القاضي عياض عن بعض المشايخ أن قضاء العامد مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم:"فليصلِّها إذا ذكرها"؛ لأنه بغفلته عنها وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها، لزمه قضاؤها.
قال شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله: وهو ضعيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: