الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ"(1).
أما أبو سعيد الخدري؛ فتقدم ذكره، وما يتعلق به.
وأما أحكامه، وفوائده، وما يتعلق به:
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتمُ المؤذِّنَ، فقولوا مثلَ ما يقولُ"، فلا بد أن يعرفَ قولَ المؤذن؛ ومعناه: ليقولَ السامعُ مثلَ قوله، بتدبر معناه، فقوله الأذان المعروف؛ بترجيعه، وتثويبه، وحيعلته.
ولا شك أن الحديث قد قال بعمومه -في قول سامع المؤذن مثل قوله- بعضُ العلماء، فقال: يحكيه مثلَ قوله، إلى آخره؛ وهو ظاهر الحديث.
وذهب الشافعي، وجمهور العلماء: إلى أنه يبدل السامع لفظ الحيعلة، بالحوقلة، ويقال: الحولقة، ويكررها؛ بتكررها؛ لحديث صحيح ثبت فيه:"أنه يقول السامع للمؤذن، بعد قوله: حي على الصلاة: لا حول ولا قوة إلا بالله، إلى آخره"(2).
وقدمه الشافعي على الأول؛ لخصوصه، وعموم الأول، وذكر من المعنى فيه:
أن الأذكار الخارجة عن الحيعلة يحصل ثوابها بذكرها؛ فيشترك السامع، والمؤذن في ثوابها، إذا حكاها السامع.
وأما الحيعلة: فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، من المؤذن وحده،
(1) رواه البخاري (586)، كتاب: الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي، ومسلم (383)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، إلا أن لفظهما:"إذا سمعتم النداء ..... ".
(2)
رواه مسلم (385)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولا يحصل مقصوده من السامع؛ فعوض عن الثواب، الذي يفوته بالحيعلة، الثواب الذي يحصل له بالحوقلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله؛ كنزٌ من كنوزِ الجنةِ"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ غُرست له نخلةٌ في الجنةِ"(2).
لكن قد قال بعض العلماء من الأصوليين: إنه إذا أمكن الجمع بين الخاص والعام، وإعمالهما، وجبَ ذلك؛ فلا يبعد أن يكون متمسك من قال: يجيبه في كل كلمات الأذان.
وقد ذكر أصحاب الشافعي رحمهم الله، في رفع اليدين في الدعاء: يجمع بين إجابته، في الحيعلة بها، وبالحوقلة؛ جمعًا بينهما، ولم أعلم أحدًا، قال به من المتقدمين، وغيرهم، والله أعلم.
وأما ترجيع المؤذن: فهو قوله الشهادتين سرًّا يُسمع نفسه بهما، ثم يرجع إلى رفع الصوت بهما، وظاهر الحديث، أنه يقول مثل قوله، إذا علم ترجيعه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فقولوا مثلَ ما يقولُ".
وأما تثويبه: وهو قولُه في أذان الصبح: الصلاةُ خيرٌ من النوم، فيقول سامعه: صدقتَ وبررتَ؛ لحديث ورد فيه.
ثم إن السامع يقول كل كلمة، بعد فراغ المؤذن منها عقبها؛ لأن الفاء في قوله صلى الله عليه وسلم ـ:"فقولوا" تقتضي التعقيب، وهو يقتضي تعقيب قول المؤذن، بقول الحاكي.
(1) رواه البخاري (6021)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء إذا علا العقبة، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
لم أجده بهذا اللفظ، وروى الإمام أحمد في "المسند"(5/ 418)، وابن حبان في "صحيحه"(821)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(1047)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 197)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(657)، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن إبراهيم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به: "مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة .... ، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله".
ولا شكَّ أنه لا تشرع إجابة المؤذن؛ لمن هو في صلاة فريضة، أو نافلة؛ فأما من هو في غير صلاة، فتشرع له إجابته؛ ولا تكره في حالة، أو وقت من الأوقات، إلا في حالة نهى الشرع عن الذكر فيها؛ فلو أجابه في الصلاة، فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله:
أظهرهما: الكراهة؛ لأنه إعراض عن الصلاة، ولا تبطل به، إلا بقوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والصلاة خير من النوم؛ لأنه كلام آدمي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذهِ الصلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس"(1)، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن اللهَ تعالى، أباحَ فيه الكلام"(2)؛ فمقتضى هذين الحديثين: تحريمُ كلام الآدميين في الصلاة.
فأما بُطلان الصلاة فيه؛ فهو متعلِّق بمن كان عالمًا بتحريمه، متعمدًا؛ فلو كان ناسيًا، أو جاهلًا، لم تبطل.
فلو سمعه في الصلاة، وهو في قراءة الفاتحة، كُرهت الإجابة قطعًا، من غير خلاف، إذا كانت بالأذكار فقط، ولا تبطل الصلاة، بل تبطل قراءة الفاتحة، ويجب استئنافُها؛ لوجوب الموالاة فيها، وهو معذور بقطع الموالاة؛ بالتنفس، ونحوه، وبما هو من مصلحة قراءتها؛ من التعظيم والإجلال لله تعالى، وسؤاله سبحانه وتعالى؛ فإن ذلك لا يقطع موالاتها.
فلو أجاب فيها -أعني الصلاة- بالحوقلة، دون الحيعلة؛ لم تبطل أيضًا.
وفي مذهب مالك: إذا أجاب بالحيعلة في الصلاة، هل تبطل به؟ قولان:
أحدهما: أنه كلام آدمي، مخاطبة له بالمجيء إلى الصلاة؛ فأبطل، بخلاف بقية ألفاظ الأذان؛ التي هي ذكر، والصلاة محل ذكر.
(1) رواه مسلم (537)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12808)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 85).
والثاني: أنه لم يقصد به المخاطبة بالدعاء للناس إليها؛ بل قصد به حكاية ألفاظ المؤذن، وذلك لا يبطل.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "فقولوا مثلَ ما يقولُ" لا يقتضي المثلية في رفع الصوت، ولا في أوصاف المؤذن، ومماثلته، بل من الوجه المبين في الأحاديث الصحيحة: من التكبير، والشهادتين، والحيعلة، والحوقلة؛ على ما بيناه أولًا، والله أعلم.
ثم اعلم: أن الإجابة سنة مرغَّب فيها، ليست بواجبة؛ على الصحيح الذي عليه الجمهور.
وحكى الطحاوي، عن بعض العلماء: الوجوبَ فيه؛ لظاهر الأمر.
واتفق أصحاب الشافعي رحمهم الله: أنه لا تُشرع إجابة المؤذن، إلا مرة واحدة.
وحكى القاضي عياض، خلافًا:
أنه هل يجب عند سماع كل مؤذن، أم لأول مؤذن فقط؟
قال: واختلف قولُ مالك؛ هل يتابع المؤذنَ، في كل كلمات الأذان، أم إلى آخر الشهادتين؟ لأنه ذكر، وما بعده ليس بذكر، وبعضه تكرار لما سبق.
قال: واختلف أصحاب مالك؛ هل يحكي المصلي المؤذنَ في صلاة الفريضة والنافلة، أم لا يحكيه فيهما، أم يحكيه في النافلة، دون الفريضة؟ على ثلاثة أقوال؛ ومنعه أبو حنيفة فيهما، والله أعلم.
قال الشافعي، وأصحابه رحمهم الله: لو سمع الأذان، وهو في قراءة، أو تسبيح، ونحوِهما؛ قطعَ ما هو فيه، وأتى بمتابعة المؤذن.
قالوا: ويتابعه في الإقامة؛ كالأذان، إلا أنه يقول في لفظ الإقامة: أقامها الله، وأدامها؛ ومتابعته فيها داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فقولوا مثل ما يقول".
هذا ما يتعلق بقول سامع المؤذن، وأحكامه.
وأما معنى قوله: فاعلم أن الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان، مشتملة على نوعيه؛ من العقليات، والسمعيات:
فأوله: إثبات الذات، وما تستحقه من الكمال، والتنزيه عن أضدادها؛ وذلك بقوله: الله أكبر؛ وهذه اللفظة -مع اختصار لفظها- دالة على ما ذكرناه.
ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدها، عن الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى؛ وهذه عُمدة الإيمان والتوحيد، المقدَّمة على وظائف الدين.
ثم صرح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ وهذه قاعدة عظيمة، بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعُها بعد التوحيد؛ لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد، كملت العقائد العقليات؛ فيما يجب، ويستحيل، ويجوز؛ في حقه سبحانه وتعالى.
ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة، وعقبها بعد إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها، من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل.
ثم دعا إلى الفلاح؛ وهو الفوز، والبقاء في النعيم المقيم؛ وفي ذلك إشعار بأمور الآخرة؛ من البعث والجزاء، وهو آخر تراجم عقائد الإسلام.
ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة؛ للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان؛ وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق تعبده، وجزيل ثوابه.
وأما مناسبة جواب الحيعلة بالحوقلة؛ فلأن الحيعلة دعاء إلى الحضور للصلاة، وما يترتب على حضورها؛ من البقاء والنعيم؛ فأمروا بالإجابة بالحوقلة، وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فكأنهم قالوا: لا حول لنا، ولا قوة لنا إلا بالله؛ أي: بعونه وتأييده.
وليس الحول والقوة بمترادفين؛ بل الحول: الاعتمادُ في تحصيل الشيء، أو محاولته، والقوةُ: القدرةُ عليه، وكلاهما: غيرُ حاصلين إلا بإقدار الله تعالى، وتوفيقه، والله أعلم.
وللأذان وإجابته آدابٌ وأحكام، وأذكارٌ معروفة في كتب العلم، وعند العلماء؛ فمن أراد فليراجعهم، والله أعلم.
* * *