الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الحديث: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من القيام بالبيان والإيضاح [والنصح](1) لأمَّتِه.
وفيه: ابتداء العالمِ أصحابَه بالعلم، خصوصًا إذا علم أن بهم حاجةً إلى العمل به.
وفيه: أنَّه ينبغي للعالم التنبيهُ على الوقائع المخالفة للعلم، والرجوع عنها، أو الاستغفار والتوبة منها، إِنْ كانَ تلبَّسَ بها متلبِّس.
وفيه: الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير شنيعة النُّطق بها.
وفيه: تعظيم جهة القبلة، وتكريمُها، والنهي عمَّا يلزم منه عدمُ ذلك؛ كما في الاستدبار -والله أعلم-.
* * *
الحديث الثالث
عن عبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما قال: رَقِيْتُ يَوْمًا عَلَى بيتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقْضِي حاجَتَهُ مُستَقْبِلَ الشَّامِ، مُستدبِرَ الكَعْبةِ (2).
أمَّا عبدُ الله بنُ عمرَ، فكنيتُه أبو عبدِ الرَّحمن، وتقدَّم الكلام على نسبه ونسبته في أول حديثٍ من الكتاب، وهو معدود في المكيين المدنيين، أسلمَ قديمًا مع أبيه وهو صغير لم يبلغِ الحلمَ، وهاجرَ معه ومع أمه زينبَ بنتِ مظعون، وأختِه حفصةَ أمِّ المؤمنين، وقدَّمه على نقله، واستُصغر عن أحد، وشهد الخندقَ وما بعدَها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أكثر الصَّحابة حديثًا، وأحدُ العبادلة الأربعة: وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم، ولا يطلق العبادلة اصطلاحًا على غيرهم، وإن أطلقه الجوهري في
(1) ما بين معكوفين ليست في "ح".
(2)
رواه البخاري (147)، كتاب: الوضوء، باب: التبرز في البيوت، ومسلم (266)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، بلفظ:" .... مستدبر القبلة" بدل "مستدبر الكعبة".
"صحاحه" على ابن مسعود رضي الله عنه؛ لتقدُّم وفاته، وإنَّما خُصَّ هؤلاء من بين العبادلة بالذِّكر؛ لكونهم من أصاغر الصَّحابة وفقهائها، وتأخروا، وأخذ عنهم العلم والرِّواية -والله أعلم-.
ولعبدِ الله بنِ عمرَ مناقبُ كثيرةٌ، وفضائلُ شهيرةٌ، رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف حديثٍ، وستُ مئةِ حديثٍ، وثلاثون حديثًا، اتّفق البخاريُّ ومسلمٌ على مئةٍ وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين.
رَوَى عنه أولادُه وأحفادُه ومولاه نافع، وخلقٌ كثير من التابعين، وكان رضي الله عنه لا يُعدل برأيه؛ فإنه أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستِّين سنةً، فلم يخفَ عليه شيءٌ من أمره ولا من أمر الصحابة رضي الله عنهم.
روى له أصحاب السنن والمسانيد، وكانَ يتحفظُ ما سمعَ من النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألُ عما غاب عنه من قولٍ أو فعلٍ مَنْ حَضَرَ، ويتَّبعُ آثارَه صلى الله عليه وسلم حتى مواضعَ صلاتِه صلى الله عليه وسلم سفرًا أو حضرًا، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم قبلَ أبيه وبعدَه أدبًا، وكان يغضب إذا قيل: هاجرَ قبل أبيه، وكان قوَّامًا صوَّامًا متواضِعًا، لا يأكلُ حتى يؤتى بمسكين فيأكل معه، وكان ممَّن لم تملْ به الدّنيا، وقال سعيد بنُ المسيِّبِ: لو شهدت لأحدٍ أنه من أهل الجنة في الدنيا، لشهدت لابن عمر (1)، وكان ضابطًا لأحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزيد فيها ولا ينقص، وقال صلى الله عليه وسلم:"أَرَى عَبْدَ اللهِ رَجلًا صَالِحًا"(2)، وكان من البكَّائين الخاشعين، إذا أعجَبه شيءٌ من ماله، قرَّبه لربِّه، فكان رقيقُه يتزينون له بالعبادة وملازمةِ المسجد، فيعتقهم، فيقول له أصحابُه: ما بهم إلا خديعتك، فيقول: من خَدَعْنا بالله، انخدعْنا له (3)، قال نافعٌ:
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 363)، والحاكم في "المستدرك"(6366)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(1/ 172)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(31/ 113).
(2)
رواه البخاري (3531)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ومسلم (2478)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، من حديث حفصة رضي الله عنها.
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 167)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 294)،=
لو نظرْتَ إلى ابنِ عمرَ إذا اتَّبع أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قلتَ: إنه مجنون (1)، ولم يمتْ حتى أعتقَ ألفَ إنسانٍ وزيادة، وربما تصدَّق في المجلسِ الواحد بثلاثين ألفًا، وبعثَ إليه معاويةُ بمئةِ ألف، فلم يحلْ حول وعنده شيءٌ منها، وكان إذا تلا:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، يبكي حتى يغلبه، وإذا تلا:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، يبكي ويقول: إن هذا الإحصاءَ لشديدٌ.
مات رضي الله عنه بمكةَ سنةَ ثلاثٍ، وقيل: أربع وسبعين، بعد موت ابن الزُّبير بثلاثة أشهر من جرح أصاب رجله، ابنَ أربعٍ، وقيل: سِتٍّ، وقيل: سبع وثمانين سنةً، وكان مولدُه قبل الوحي بسنةٍ، ودفن بالمحصَّب، وقيل: بسَرِف، وقيل: بفَجٍّ، وكلُّها مواضعُ بقرب مكَّة بعضُها أقربُ إلى مكة من بعض (2).
وأمَّا ألفاظه:
فقوله: "رَقِيْتُ" -هو بكسر القاف، ولغة طَيِّئٍ بفتحها-، وحكى صاحب "المطالع" الفتحَ مع الهمز (3)، وسُمِّيت الكعبةُ كعبةً؛ لاستدارتها؛ من التَّكَعُّب، وهو الاستدارة.
واختلف العلماء في كيفية العمل بهذا الحديث:
= وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(31/ 133).
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 310)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(31 - 119/ 120).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 142)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 209)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 641)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 950)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 79)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 563)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 336)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 261)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 180)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 203)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 181)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 287).
(3)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 299)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 331)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 236)، (مادة: رقى).
فمنهم: من رآه ناسخًا لحديث أبي أيوب، واعتقد الإباحةَ مطلقًا، وقاس الاستقبالَ على الاستدبار، واطّرح تخصيص حكمه بالبنيان، ورأى أنه وصفٌ مُلْغًى لا اعتبارَ به.
ومنهم: من رأى العمل بحديث أبي أيوب، واعتقد أن هذا خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: من جمع بينهما، وأعملَهما كما تقدَّم -والله أعلم-.
واستدل من خصَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ نظرَ ابنِ عمرَ، وجلوسَه صلى الله عليه وسلم كان اتفاقًا منهما من غير قصد لبيان حكم للأمة، وأنه رد بصرَه في الحال؛ لأنه لو كان ذلك حكمًا عامًّا، لبينه صلى الله عليه وسلم بالقول كغيره من الأحكام، فلمَّا لم يقع ذلك، دل على الخصوص، ثمَّ إن حكم العام إذا خُصَّ أن يقتصر على جواز التخصيص، ويبقى العام فيما عداه على عمومه فيما بقي من الصُّور؛ إذ لا معارضَ له في ذلك، وحديث ابنِ عمرَ هذا لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا، بل دل على الاستدبار فقط، فالمعارضة بينه ويين حديث أبي أيوب إما هي في الاستدبار، فيبقى الاستقبال لا تعارضَ فيه، فيجب العمل به في المنع منه مطلقًا، لكنهم أجازوهما معًا في البنيان، وعليه هذا السؤال، وهذا إذا كان في حديث أبي أيوب لفظٌ يعمُّ، وليس هو كذلك، بل هما جملتان، إحداهما عامَّة في محلِّها، تناولَ حديثُ ابنِ عمرَ بعضَ صورِ عمومها بالخصوص، والأخرى لم يتناولها، فهي باقية على حالها، وتقديم القياس على اللَّفظ العامِّ فيه كلام في أصول الفقه، وشرط صحة القياس مساواةُ الفرع للأصل، أو زيادتُه عليه في المعنى المعتبر في الحكم، ولا تساوي هاهنا؛ لزيادة قبح الاستقبال على الاستدبار على ما يشهد العرف به، وقد اعتبر ذلك العلماء في منع الاستقبال وجواز الاستدبار، فلا يلزم من إلغاء الناقص إلغاءُ الزائد في قبحه وحكم جوازه.
وفي الحديث: وجوبُ تتبُّع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كلها ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعيَّةٌ.
وفيه: جوازُ استدبار القبلة في البنيان، وأنَّه مخصِّص لعموم النَّهي -والله أعلم-.
وفيه: استحبابُ الكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط، وجواز قضاء الحاجة في مكان غير معدٍّ له؛ من سطحٍ وغيره، سواء كان مضطرًا إلى ذلك أم لا.
وفيه: جوازُ الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل، وجوازُ تَبَسُّط أقارب الزوجة في بيت الزَّوج حالة الاحتشام، وكفُّ البصر عما يُستَحْيَا من رؤيته -والله أعلم-.
واعلم أن العلماءَ من أصحاب الشافعي رحمهم الله قالوا: يجوز استقبالُ القبلةِ واستدبارُها في البنيان إذا كان قريبًا من ساتر من جدارٍ أو نحوه؛ بحيث [يكون بينه وبين ثلاث أذرع فما دونها، وأن يكون الساتر مرتفعًا بحيث](1) يسترُ أسافلَ الإنسان، وقدَّروه بآخرة الرَّحل، وهي نحو ثلثي ذراع، فإن زاد ما بينه وبين الساتر على ذلك، أو قصر عن آخرة الرحل، فهو حرام كالصحراء، إلّا إذا كان في بيت بُني لذلك، فلا حَجْرَ فيه كيف كان، قالوا: ولو كان في الصحْرَاء، وستر بشيء على الشَّرط المذكور، زالَ التحريم، فالاعتبار بوجود الساتر وعدمه، فيحلُّ في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم فيهما لعدمه، هذا هو الصحيح المشهور.
ومنهم: من اعتبر الصحراء والبنيان مطلقًا، ولم يعتبر الحائل، فأباح في البنيان مطلقًا، وحرم في الصحراء مطلقًا، لكن تفريعهم على الأول، فقالوا: لا فرقَ بين أَنْ يكونَ الساتر دابَّة، أو جدارًا، أو كثيبَ رملٍ، أو جبلًا، ولو أرخى ذيلَه في قبالة القبلة، حصل السَّتر به على أصحِّ الوجهين؛ لحصول الحائل، وهذا الكلام كله مبنيٌّ على أنَّ العلة المستنبطةَ هل هي معتبرةٌ أم لا؟.
أما إذا لم يعتبرها، فلا كلام، وإن اعتبرها، فهل هي احترام القبلة، أو رؤية
(1) ما بين معكوفين زيادة من "ح".