الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يشغل يده بإمساكه، أولًا، فإن لم يشغل، خِيفَ سقوطه وانكشاف عورته إن كان بعض ثوبه الإزار، وإن شغل، كان فيه مفسدتان: إحداهما: منعُه من الإقبال على صلاته والاشتغال بها، الثانية: أن شغل يديه بالركوع والسجود لا يؤمن معه انكشاف العورة فيهما بسقوط الثوب، مع أنه نقل عن بعض العلماء القولُ بظاهر الحديث، ومنع الصلاة في السراويل والإزار وحده، لأنها صلاة في ثوب ليس على عاتقه منه شيء، وهو مخصوص بغير حالة الضرورة، والأشهر عند جمهور العلماء خلاف هذا على ما حررنا نقله أولًا، وجواز الصلاة بما يستر العورة، وحمل الحديث على كراهة التنزيه؛ حيث لا ضرورة ولا معارض له بأمرٍ أكثرَ مصلحةً للصلاة منه، والله أعلم.
* * *
الحديث الثامن
عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، وَلْيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ"، وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيه خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ:"قَرِّبُوهَا" إلى بَعْضِ أَصْحَابهِ، فَلَمَّا رَآهُ، كَرِهَ أَكْلَهَا، فَقَالَ:"كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجِي مَنْ لَا تُنَاجِي"(1).
تقدم الكلام على جابر.
أما البقول -في جمع البقل- قال أهل اللغة: البقل: كل نبات اخضرت به الأرض (2).
وقوله: "وأُتي بقدر فيه خضرات"، هكذا هو في "صحيح مسلم": بقدر وهو
(1) رواه البخاري (817)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكُرّاث، ومسلم (564)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من كل ثومًا أو بصلًا أو كُرَّاثًا أو نحوها.
(2)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (11/ 60)، (مادة: بقل).
ما يُطبخ فيه، ورواه البخاري في "صحيحه"، وأبو داود في "سننه"، وغيرهما: بِبَدْر -بباءين موحدتين - (1)، قال العلماء: وهو الصواب، وفسره الرواة وأهل اللغة والغريب بالطبق، قالوا: وسمي بَدْرًا لاستدارته كاستدارة البدر، واستبعدوا لفظة القدر بأنها تشعر بالطبخ (2).
وقد ورد الإذن بأكل البقول المذكورة مطبوخة، وأما البدر، فلا تشعر كونها فيه مطبوخة، بل يجوز أن تكون نية، فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة.
وأما الضمير في "فيه"، فهو عائد على القدر إذا قلنا: إنه مذكر، وهو لغة، وأما إذا قلنا: إنها مؤنثة، فيكون الضمير عائدًا إلى الطعام الَّذي في القدر، والله أعلم.
وقوله: "فأُخبر بما فيها من البقول": دليل على أن القدر مؤنثة.
وقوله: "قربوها، إلى بعض أصحابه"، الضمير في قربوها عائد إلى البقول، أو إلى الخضرات، لكن عوده إلى البقول أولى؛ لأنه أقرب.
وقوله: "فلما رآه كره أكلها، قال: كُلْ فإني أُناجي من لا تناجي"، فيه دليل على إباحة أكل الثوم والبقل ونحوهما، وهو حلال بإجماع مَنْ يعتد به، وحكي عن أهل الظاهر أو بعضهم تحريمُ أكل هذه الأشياء؛ لأنها تمنع عن حضور الجماعة، وتقريره عندهم أن الجماعة فرضُ عين، ولا يتم الإتيان به إلا بترك أكل هذه الأشياء؛ لهذا الحديث، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فترك أكل هذا واجب، وحجة الجمهور المعتد بهم قوله صلى الله عليه وسلم:"كلْ؛ فإني أناجي من لا تناجي"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أيُّها الناس! ليس لي تحريمُ ما أحلَّ الله"(3)، ويلزم من
(1) رواه أبو داود (3822)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الثوم، وقد تقدم تخريجه قريبًا عند البخاري.
(2)
انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 533)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 81)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 106)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 49)، (مادة: بدر)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 50)، وعنه أخذ المؤلف مادته هذه.
(3)
رواه مسلم (565)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من كل ثومًا أو بصلًا أو =
إباحة أكلها ومنع حضور الجماعة والمساجد بسبب أكلها، ألَّا تكون الجماعة واجبة على الأعيان، وتقريرُه أن كل هذه الأشياء جائز؛ لما ذكرناه، ومن لوازمه تركُ الصلاة جماعة في حق آكلها، ولازمُ الجائز جائز، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، وذلك ينافي الوجوب عليه.
وفي الحديث فوائد:
منها: اعتزال الجماعة والمساجد لمن أكل بصلًا أو ثومًا أو نحوهما مما له رائحة كريهة، ولزوم بيته، وذلك تصريح بالنهي عن ذلك في كل مسجد، وهو مذهب العلماء كافة، وحكي عن بعض العلماء: أن النهي خاص بمسجد الرسول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فليعتزلْنا، أو: فليعتزلْ مسجدَنا"(1)، وأكد ذلك بأن مسجده صلى الله عليه وسلم كان مهبطَ الوحي، والصحيحُ عمومُه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية في "صحيح مسلم":"فلا يقربن المساجد"(2)، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم:"مسجدنا" للجنس، أو لضرب المثال؛ لأنه معلل بتأذي الناس أو الملائكة الحاضرين، وذلك قد يكون موجودًا في المساجد كلها.
ومنها: أن أكل البصل والثوم ونحوهما حلال، والنهي إنما هو عن الحضور مع الجماعة، أو عن حضور المسجد، لا عن أكلها، فإنه جائز بإجماع من يعتد به، وتقدم ذلك، وقد اختلف أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - في الثوم هل كان حرامًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم كان يتركه تنزهًا كغيره؟ على وجهين، وظواهر الأحاديث عدم التحريم، وأنه صلى الله عليه وسلم كغيره، ومن قال بالتحريم قال:
= كُرَّاثًا أو نحوها، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، لكن بلفظ:"ليس بي" بدل من "ليس لي".
(1)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(2)
رواه مسلم (561)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كُرَّاثًا أو نحوها، والبخاري أيضًا (815)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكُرَّاث، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"فلا يقربن مسجدنا -أو- مساجدنا".