الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عن جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه: أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُعْطِيْتُ خَمْسًا، لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبياءِ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيَرةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ ليَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا؛ فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْه الصَّلاةُ؛ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ ليَ الغَنَائِمُ، ولم تَحِلَّ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمهِ، وبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"(1).
أما جابر بن عبد الله؛ فتقدم ذكره قريبًا، قبل باب التيمم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمسًا"، فهو تعديد لفضائله التي خُصَّ بها، دون سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ثم ظاهر الحديث: أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد من الأنبياء قبله، وقد يعترض على ذلك: بأن نوحًا صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى كل أهل الأرض بعد خروجه من الفلك.
وأجيب عنه: بأنَّ ذلكَ من لزوم الوجود؛ لأنه لم يبقَ إلا من كان معه من المؤمنين؛ فكان مرسَلًا إليهم، لا لعموم أصل بعثته؛ لانحصار الخلق في الموجودين بسبب ذلك الحادث.
بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ عمومَ رسالتِه في أصلِ البعثة، وهو موجب قبولها عمومًا في الأصول والفروع.
ثم تمحيض العبادة لله تعالى هو التوحيد؛ فيجوز أَنْ تكونَ الدعوةُ إليه عامةً، لكن على ألسنة أنبياء متعددة؛ ليَثْبُتَ التكليفُ به لسائرِ الخلق، وإن لم تُعُمَّ الدعوة به، بالنسبة إلى نبيٍّ واحدٍ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بالرُّعْبِ، مَسيرَةَ شَهْرٍ":
(1) رواه البخاري (328)، كتاب: التيمم، في أوله، ومسلم (521)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.
الرُّعْبُ: الوَجَلُ، والخَوْفُ؛ لتوقع نزول محذور.
ثم هذه الخصيصة تنفي وجود الرعب لغيره صلى الله عليه وسلم في أكثر من مسيرةِ شهرٍ، ولا ينفي أقل من ذلك، وأمَّا المساواة، فهي -أيضًا- منفية؛ لحصول الاشتراك معه صلى الله عليه وسلم في خصوصيته وفضائله، ويجوز أن يحصل ذلك لغيره؛ من أتباعه، على سبيل التبعية له صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل الأصالة؛ ككرامات الأولياء، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِدًا": المَسْجِدُ في الأصل: مَوْضِعُ السُّجُودِ.
وهو بكسر الجيم، وفتحها، وقيل: بالفتح: اسم لمكان السجود.
وبالكسر: اسم للموضع المتَّخَذ مسجدًا.
وحكى غير واحد من أهل اللغة: أنه يقال للمسجد: مَسْيِد -بفتح الميم، وكسر الياء المثناة تحت، بدل الجيم-.
ثم يطلق في العرف: على كل مكان مبني للصلاة؛ التي فيها السجود.
وكانت الأمم الماضية لا يجوز لها الصلاة إلا في الأماكن المعدَّة لها؛ من البِيَع، والكنائِس، وقيل: كانوا لا يصلون إلا في أرض تيقنوا طهارتها، وخُصت هذه بالصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته.
فأكرم الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ بجعل الأرض كلِّها مسجدًا؛ توسعةً عليها، واستثنيت أماكن تمنع الصلاة فيها؛ لوصفٍ عرضَ لها؛ لنجاسة، أو إيهام تعظيم، أو لشغل قلب المصلي فيها؛ كالسوق، ومعاطن، تتعلق به شيء، من أحكام المساجد الشرعية.
وقد يكون تسميتها مسجدًا مجازًا من المكان المبني للصلاة؛ لاشتراكهما في الصلاة فيها؛ فيكون من مجاز التشبيه بجملة الصلاة، لا بعضها؛ وهو السجود فقط.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وطَهورًا": الطَّهور: هو المطهِّر لغيره؛ لخصوصية التطهير بالتراب بعد الماء.
ولو كان الطهور هو الطاهر، لم تثبتِ الخصوصيةُ؛ فإنَّ طهارةَ الأرض عامةٌ في حق كل الأمم.
وقد استدل به مَنْ جَوَّزَ التيممَ بجميع أجزاء الأرض؛ للعموم في قوله: "وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِدًا وطَهورًا".
وأجاب من خصّ التيممَ بالتراب؛ بتخصيصه به في الحديث الآخر؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وجُعِلَتْ تربتُها لنا طهورًا"(1)، والخاصُّ يقضي على العام.
واعترض على ذلك بوجوه:
منها: أَنَّ تربةَ كلِّ مكانِ: ما فيه من تراب وغيره.
ومنها: أَنَّه مفهومُ اللقب، وهو يعلق الحكم بالتربة؛ وهو ضعيف عند الأصوليين، لم يقلْ به إلا الدَّقاق.
وأُجِيبَ عن هذا: بأنَّ في الحديث قرينةً زائدة على مجرد تعليق الحكم بالتربة؛ وهو الافتراق في اللفظ: بين جَعْلِ الأرضِ كلِّها مسجدًا، وجَعْلِ تربتها طهورًا؛ بمقتضى الحديثِ الآخر، والافتراقُ في السياق بالعطف يدل على الافتراق في الحكم.
ومنها: أنه لو سُلِّمَ أَنَّ الحديثَ الذي خصَّ التربةَ بالطهوريَّة بمفهومه، والحديثَ الذي عمَّ الأرض بها جميع أجزائها بمنطوقه؛ وإذا تعارضت دلالةُ المفهوم التي تنفي الطهورية، عن غيرها من أجزاء الأرض، ودلالةُ المنطوق التي تقتضي طهوريَّة جميع أجزائها؛ لكان المنطوقُ مقدَّمًا على المفهوم هاهنا، والله أعلم.
وقال بعض المالكية: لفظُ طَهور يستعمل لا عن حدث، ولا خبث؛ كما سُمِّيَ الصعيد طهورًا، وليس عن حدث، ولا خبث؛ فإن التيمم لا يرفع الحدث.
وجعل ذلك جوابًا عن استدلال الشَّافعية على نجاسة فم الكلب، بقوله:
(1) رواه مسلم (522)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.
"طَهُورُ إِناءِ أَحَدِكُمْ، إِذا وَلَغَ فيهِ الكلبُ؛ أن يُغْسَلَ سَبْعًا"(1)؛ فقالوا: طهورٌ؛ يستعمل إما عن حدث، أو خبث، ولا حدثَ على الإناء؛ فتعين أَنْ يكونَ عن خبث.
فمنع هذا -المجيب المالكي- الحصر، وقال: إنَّ لفظَة طَهور، تستعمل في إباحة الاستعمال؛ كما في التراب؛ إذ لا يرفع الحدث كما قلناه؛ فيكون قوله:"طَهورُ إناء أحدِكم" مستعملًا في إباحة استعماله؛ كما في التيمم.
قال شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله: وفي هذا عندي نظر؛ فإن التيمم، وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث، لكن الموجب عندي؛ لفعله الحدث، وفرق بين قولنا: إنَّه من حدث، وبين قولنا: إنَّه يرفع الحدث (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَّاةُ، فَلْيُصلَّ":
أيُّما: هذه صيغةُ عموم يدخل تحتها مَنْ لم يجد ماء، ووجدَ ترابًا، ومن لم يجد ماء، ولا ترابًا، ووجدَ غيرهما؛ من أجزاء الأرض.
يستدل به على عموم التيمم بأجزائها، ومن خصَّ التيممَ بالتراب، يحتاج إلى دليل؛ يخص هذا العموم، أو يحمل الحديثَ على من لم يجد ماء، ولا ترابًا؛ فإنه يصلي على حسب حاله.
ويحتمل أَنْ يكونَ العمومُ بالنسبة إلى جميع حالات الصلاة والمصلي؛ من عدم آلة الطهارة، وغير ذلك، ومما يتعلق بالصلاة، ووقتها، ومكانها.
فإنه كانت الأممُ الماضية لا تصلي إلا في المساجد بوضوء؛ على المشهور من قول العلماء: في أنَّ الوضوء لم يكنْ خاصًّا بهذه الأمة، بقوله صلى الله عليه وسلم:"هَذَا وُضُوئِي، ووُضُوءُ الأَنْبِياءِ قَبْلي"(3)، في التثليث، ولا يخرجها عن وقتها؛ مع ضيق الوقت، وتعيينه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 117).
(3)
تقدم تخريجه.
وخُصَّتْ هذه الأمة بالتيمم بدلًا عن الوضوء، والغسل؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ على أي حال كان، وفي أي مكان، فليصلها، [وخُصَّتْ أنها بسعة الوقت، إلا في المغرب؛ على قول](1).
لكنَّ تعقيبَ الحكمِ بالفاء، في قوله صلى الله عليه وسلم:"فأيما رجلٍ من أمتي"، عقب قوله:"جُعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا" يدل على أن العموم بالنسبة إلى مكان الصلاة، وطهارتها، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأُحِلَّتْ ليَ الغَنائِمُ":
لا شكَّ أنَّ الغنائمَ كانت محرمةً على الأمم الماضية، فكانوا يجمعونها، فتأتي نار من السماء، فتأكلها، فأحلها الله تعالى لهذه الأمة؛ إكرامًا لها لضعفها، بسبب نبيها صلى الله عليه وسلم.
ثم إِنَّ المرادَ بإحلالها له صلى الله عليه وسلم: تصرُّفُه فيها، بقسمتها لنفقته ولمن يشاء؛ كما في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1].
ويُحْتَملُ أَنَّ المراد به: بعضُ الغنائم؛ كما في بعض الأحاديث: "وأُحِلَّ لنا الخُمسُ" رواه أبو حاتم بنُ حِبَّان في "صحيحه"(2).
والغنائم: ما يؤخذ من الكفار؛ بإيجافِ الخيلِ والرِّكاب بقتال، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعْطِيْتُ الشَّفَاعةَ":
الألف واللام تكون للعهد؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وأُعطيتُ الشفاعةَ"، وقوله تعالى:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16].
وتكون للعموم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهُمْ"(3).
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ح".
(2)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(6399)، من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (2751)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، وابن ماجه (2685)، كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 215)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 28)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وقد تكونُ لتعريفِ الحقيقة؛ كقولهم: الرجلُ خيرٌ من المرأة، والفرسُ خيرٌ من الحمار.
ولا شكَّ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم له شفاعة عامة؛ وهي: التي تكون في المحشر، يفزع إليه الخلائقُ بسببها صلى الله عليه وسلم؛ في إراحتهم من طول القيام بتعجيل حسابهم، وهذه خاصة به صلى الله عليه وسلم، لا خلاف فيها، ولا تنكرها المعتزلة؛ فعلى هذا تكون الألف واللام في الشفاعة للعهد.
قال القاضي عياض: وقيل: المراد بالشفاعة: شفاعةٌ لا تُرَدُّ، قال: وقد تكون شفاعته المذكورة في الحديث لخروج مَنْ في قلبه مثقالُ ذرة من إيمان من النار؛ لأن الشفاعة لغيره إنما جاءت قبل هذا، وهذه مختصة به؛ كشفاعة المحشر (1).
واعلم أن شفاعاته الأخروية خمسٌ:
إحداها: هي العظمى التي يحمَدُه عليها الأوَّلون والآخرون؛ وهي خاصة به؛ كما ذكرنا.
الثانية: الشفاعةُ في إدخالِ قومٍ الجنةَ بغير حساب ولا عقاب؛ وهذه أيضًا ثابتة له صلى الله عليه وسلم، قال شيخنا أبو الفتح القاضي- رحمه الله تعالى-: ولا أعلم الاختصاص فيها، أو عدمه (2).
الثالثة: الشفاعة لقوم قد استوجبوا النار؛ فيشفع في عدم دخولهم النار؛ وهذه غير مختصة.
الرابعة: فيمن يدخل النار من المذنبين؛ فيشفع في خروجهم منها، وقد صح فيها: عدم الاختصاص؛ من شفاعة الأنبياء، والملائكة، والإخوان من
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 4). قلت: وما سيذكره المؤلف -من أنواع الشفاعة-، قد ذكرها النووي أيضًا في "شرح مسلم"(3/ 35).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 118).
المؤمنين، ثم يخرج الله كلَّ مَنْ قال: لا إله إلا الله؛ كما جاء في الحديث، لا يبقى فيها إلا الكافرون.
الخامس: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها؛ وهذه لا تنكرها المعتزلة.
فيلخص أَنَّ الشفاعةَ: معلومةُ الاختصاصِ به صلى الله عليه وسلم، ومعلومة عدم الاختصاص، ومحتملة الوجهين؛ فلا يكون الألف واللام للعموم.
فإن كان قد صدر منه صلى الله عليه وسلم الإعلام بالأول للصحابة؛ فالألف واللام للعهد.
وإن لم يتقدم ذلك على هذا الحديث؛ فليجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة، وينزل على الشفاعة العظمى؛ لأنه كالمطلق حينئذٍ، فيكتفى بتنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجةَ إلى هذا التكلُّف؛ فإنه ليس في الحديث إلا قوله: "أُعْطِيتُ الشفاعةَ"، وكل الأقسام قد أعطيها صلى الله عليه وسلم؛ فيحمل اللفظ على العموم.
لأَنَّا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم؛ فلفظُها -وإن كان مطلقًا- إلا أن ما سبق في صدر هذا الكلام يدل على الخصوصية.
ثم اعلم أنه: لا شك أنه قَدْ عُرِفَ بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعةَ نبينا صلى الله عليه وسلم، ورغبتُهم فيها.
وعلى هذا لا يُلتفت إلى قول من قال: يكره أن يسأل الله تعالى أَنْ يرزقَه شفاعةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لكونها لا تكون إلا للمذنبين؛ فإنها قد تكون -كما قدمنا- لتخفيف الحساب، وزيادة الدرجات.
ثَمَّ كلُّ عاقلٍ معترف بالتقصير؛ محتاجٌ إلى العفو، غيرُ معتقد في عمله، مشفقٌ أَنْ يكون من الهالكين؛ ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب؛ وهذا كله خلاف ما عُرف من دعاء السلف، والخلف، والله أعلم.
ثم اعلم أن كيفية شفاعته صلى الله عليه وسلم: أنه يشفع أولًا في إراحة الخلق من الموقف، والفصل بين العباد، وهذا هو المقامُ المحمودُ الذي ادَّخره الله تعالى له، وأعلمه أنه يبعثه فيه.
ثم بعد ذلك حلَّت الشفاعة في أمته صلى الله عليه وسلم، وفي المذنبين، وحلت شفاعة الأنبياء، والملائكة، وغيرهم -صلوات الله وسلامه عليهم-.
ثم تمييز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة، ووضع الصراط، وهذه شفاعة في المؤمنين المذنبين على الصراط؛ وهي لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولغيره.
ثم الشفاعة فيمن دخل النار، وهذا مما تقتضيه مجموع الأحاديث، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وكانَ النبيُّ يُبعثُ إلى قومِه، وبُعثتُ إلى الناسِ كافَّةً":
تقدم الكلام على نوح صلى الله عليه وسلم، والاعتراض به على هذا في كونه بعث إلى أهل الأرض، والجواب عنه.
وفي هذه الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إلى الناس كافة، وهي تقتضي: تخصيص البعثة إلى الناس، دونَ غيرهم، وليس الأمر كذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك في معرض امتنان الله تعالى عليه، لكنه لا تُنفَى زيادةُ الامتنان ببعثَتِه إلى غيرهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأبيض والأسود.
وروى مسلم في "صحيحه": أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وبُعِثْتُ إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ"(1).
قيل: المراد بالأحمر: البيضُ من العجم، وغيرِهم، وبالأسودِ: العربُ؛ لغلبة السُّمرة فيهم، وغيرهم منَ السودان.
وقيل: المراد بالأسود: السودان، وبالأحمر: من عداهم من العرب، وغيرهم.
(1) رواه مسلم (521)(1/ 370)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.
وقيل: الأحمرُ: الإنس، والأسودُ: الجنُّ، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إلى الجن، والإنس.
ثمَّ إنه صلى الله عليه وسلم خُصَّ بهذه الخمسة، وغيرِها؛ من جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، والآيات من خواتيم سورة البقرة.
وجوامعُ كلمهِ صلى الله عليه وسلم هي: القرآن، وكلامُه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَ كلًّا منهما ألفاظُهُ يسيرةٌ، ومعانيه كثيرةٌ، والله أعلم.
وفي هذا الحديث:
جواز ذكر ما امتنَّ الله به على عبدِه، وخصَّه به، وعدمُ كتمانه، قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
وفيه دليل على: جواز الصلاة في جميع البقاع، إلا ما استثناه الشرع؛ من المقبرة، والمزبلة، والمجزرة، وسائر المواضع النجسة، ومواضع الشياطين.
وفيه دليل على: أَنَّ الأصلَ في الأرض الطهارةُ.
وعلى: تحليل الغنائم بشرطها.
وجواز ذكر العلم من غير سؤال، خصوصًا عند الاحتياج إليه.
والتعريف بنعم الله تعالى، وعدم الجهل، والله أعلم.
وقد يستدل به على: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ الأنبياءِ، وأنه صلى الله عليه وسلم فُضِّلَ بأشياءَ على غيره منهم؛ وذلك دليل على أفضليتِه، والله أعلم.
ولا شكَّ أنه: يعرف فضل المتبوع بفضل التابعين -أيضًا-؛ فكما أنه صلى الله عليه وسلم أفضلُ الأنبياء، فكذلك أمته خيرُ الأمم، وقد ثبتَ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أهلُ الجنَّةِ عشرونَ ومِئَةُ صَفٍّ، أَنْتُمْ ثَمانونَ"(1)، والله أعلم.
* * *
(1) رواه الترمذي (2546)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، وقال: حسن، وابن ماجه (4289)، كتاب: الزهد، باب: صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 347)، وابن حبان في "صحيحه"(7459)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه.