الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والضَّابط لحصول النِّيَّة والثواب [عليها](1): أنّه متى قصد بالعمل امتثالَ أمر الشَّرع، وبتركه: الانتهاءَ بنهي الشَّرع، كانت حاصلةً مثابًا عليها، وإلا فلا، وإن لم يقصد ذلك، كان عملًا بهيميًّا، ولهذا قال السَّلف: الأعمال البهيمية: ما عُملت بغير نيَّة، والله أعلم.
واعلم أن سؤالَ الله تعالى ومحاسبته إنما يقع يوم القيامة على مخالفة الوسائل والمقاصد الشَّرعية، وإنعامَهُ وإفضالَهُ إنما يقع على موافقتها، والنيَّة وسيلةٌ للشَّرع ومقصودة، والأعمالُ قد تكونُ وسيلة، وقد تكون مقصودةً، وقد يكون هذا وهذا، وكل وسيلةٍ مقصودةٍ إلى ما دونها، وسيلةٌ بالنسبة إلى ما فوقها، والله أعلم.
ودخول الجنة لا يقع إلَّا برحمة الله تعالى، والدرجاتُ فيها بالأعمال، والخلودُ بالنيَّات، والكلُّ مبدؤه وانتهاؤه وتعلقه راجع إلى فضل الله الإلهِ الخالقِ والآمرِ -تبارك الله ربُّ العالمين-.
* * *
الحديث الثَّاني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أحَدِكُمْ إذا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ"(2).
أبو هريرة: أوَّل مكنًّى بها؛ لهرَّةٍ كانت له يلعب بها صغيرًا.
واسمه عبدُ الرَّحمن بنُ صخرٍ على الأصح من نحو ثلاثين قولًا.
واختلف في نسبه -أيضًا- كثيرًا.
أسلمَ عام خيبر سنة سبع من الهجرة، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزمه إلى
(1) ما بين معكوفين ليس في "ح".
(2)
رواه البُخاريّ (6554)، كتاب: الحيل، باب: في الصَّلاة، ومسلم (225)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة، وهذا لفظ البُخاريّ.
أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو أكثر الصَّحابة حديثًا، وعبد الله بن عمرو بن العاص أكثرُ منه حديثًا، على ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعاش أكثرَ منه، وتأخرت وفاته بعده، إلا أنَّ أبا هريرة كان مقيمًا بالمدينة، ولم يخرج منها، وكان النَّاس يأتونها من كلِّ ناحية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها محط الرّكاب؛ لأجل الخلافة، ولزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصَّلاة في مسجده، ولأخذ العلم، وكان أبو هريرة متصدِّيًا للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشر العلم؛ بخلاف عبد الله بن عمرو؛ فإنَّه سافر إلى البلاد، وغلب عليه العبادة، فلهذا لم يُشتهر حديثه، ولم تكثر روايته؛ واشتُهر وكثر حديث أبي هريرة رضي الله عنهما.
وكان أبو هريرة من أصحاب الصُّفَّة، ومن أحفظ الصَّحابة حديثًا.
وقال البخاري: أبو هريرة: دَوْسِيٌّ أزديٌّ يمانيٌّ، نزل المدينة.
قال غيره: روى عنه نحو ثمان مئة رجل أو أكثر من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وغيرهم، وكان ينزل ذا الحليفة، وله بها دار تصدّق بها على مواليه، فباعوها من عمرو بن يزيع، وكان ينوب بالمدينة في الصَّلاة وغيرها، وصلَّى على عائشة وأم سلمة زوجَي النبي صلى الله عليه وسلم، ومات بها، ودفن بالبقيع سنة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وخمسين، وكان سنُّه يوم مات ثمانيًا وثمانين سنة، فتكون سنُّه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثلاثين سنة، أو ثلاثين، أو تسعًا وعشرين، على الخلاف في وفاته.
وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث، وثلاث مئة حديث، وأربعة وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاث مئة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بمئة وسبعين (1).
(1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1768)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(67/ 295)، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (6/ 313)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 546)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 366)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 578)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 32)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 103)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (18/ 91)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 425)،=
وأمَّا ما اشتهر في الشَّام من أن قبره بقرية بناحية بالقرب من عسقلان، فليس بصحيح، بل ذاك قبر جَنْدَرَةَ -بفتح الجيم وسكون النُّون وفتح الدَّال المهملة وبالرَّاء ثم الهاء-، ابنِ خَيْشَنَةَ -بفتح الخاء المعجمة ثم الياء المثناة تحت السَّاكنة ثمَّ الشِّين المعجمة ثمَّ النون ثم الهاء-، ابن نقَيرٍ -بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة تحت ثم الرَّاء-، أبو قِرْصَافَة -بكسر القاف وسكون الرَّاء ثم الصاد المهملة ثم الألف ثم الفاء ثم الهاء- من بني عمرو بن الحارث بن مالك بن كنانة، سكن الشَّام، ومات بها، وقبره بناحية بقرب من عسقلان، ذكره أبو حاتم بن حِبَّان في الصَّحابة، والله أعلم (1).
والقبول يراد به في الشَّرع الصِّحةُ وحصول ثواب الآخرة وقد تتخلف الصحة عن ثواب الآخرة بدليل صحة صلاة العبدِ الآبق، ومن أتى عرَّافًا، وشاربِ الخمر إذا لم يسكرْ ما دام في جسده شيء منها؛ فأما ملازمةُ القبول للصِّحة، ففي قوله صلي الله عليه وسلم:"لا تُقْبَلُ صَلاةُ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ"(2)؛ أي: مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الحَيْض لا تقْبَلُ صَلاتُهَا إلَّا بسترتها، ولا تصحُّ ولا تُقبلُ مع انكشاف عورتها، والقبولُ مفسَّر بترتُّب الغرض المطلوب من الشِّيء على الشِّيء، يقال: قبل فلان عذرَ فلان: إذا رتَّب على عذره الغرضَ المطلوب منه، وهو محو الجناية والذنب.
فقوله صلي الله عليه وسلم: "لا يقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" هو عام في عدم القبول من جميع المحدثين في جميع أنواع الصَّلاة، والمراد بالقبول: وقوعُ
= و" تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 288)، و "شذرات الذهب" لابن العماد (1/ 63).
(1)
وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1733)، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم (ص: 151)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 571)، و (6/ 247)، و" تهذيب الكمال" للمزي (5/ 149)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 514)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 102).
(2)
رواه أبو داود (641)، كتاب: الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، والترمذي (377)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، وقال: حسن، وابن ماجه (655)، كتاب: الطهارة، باب: إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، والامام أحمد في "المسند"(6/ 218)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
الصَّلاة مجزِئةً بمطابقتها للأمر، فعلى هذا يلزم من القبول الصحةُ في الظاهر والباطن، ومتى ثبت القبول، ثبتت الصحة، ومتى ثبتت الصِّحة، ثبت القبول.
ونقل عن بعض المتأخرين أن القبول عبارة عن ترتب الثواب والدَّرجات على العبادة، والإجزاءُ عبارة عن مطابقة الأمر، فهما متغايران، أحدهما أخصُّ من الآخر، ولم يلزم من نَفْي الأخصِّ نفيُ الأعم، فالقبول أخصُّ من الصحَّة، على هذا فكل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولًا، وهذا إنْ نفعَ في نفي القبول مع بقاء الصِّحة، ضرَّ في نفي القبول مع نفي الصحة، لكن يقال: دلَّ الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى، انتفت، فيصحُّ الاستدلال بنفي القبول على نفي الصِّحَة، ويحتاج في نفيه مع بقائها إلى تأويل أو تخريج.
ويرد على من فسَّر القبولَ بكون العبادة مثابًا عليها أو مرضية، مع أن قواعد الشرع تقتضي أن العبادة إذا أُتي بها مطابقة للأمر، كانت سببًا للثواب في ظواهر لا تحصى فيها.
إذا ثبت هذا، فاعلم أن الحدث عبارة عن نواقض الوضوء، وهي عند الشافعية أربع متفق عليها، وأربع مختلف فيها.
وقد فسَّره أبو هريرة -راوي الحديث- بنوع من الحدث حين سُئل عنه، فقال: فُساء أو ضُراط (1)، وكأنَّه أجاب السَّائل عمَّا يجهله منها، أو عمَّا يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر.
والحدث بموضوعه يطلق على الأكبر؛ كالجنابة والحيض والنفاس، والأصغر؛ كنواقض الوضوء، وقد يسمى نفس الخارج حدثًا، وقد يسمى المنع المرتَّبُ عليه حدثًا، وبه يصحُّ قولهم: رفعتُ الحدثَ، ونويتُ رفعه، وإلا استحال ما يرفع ألا يكون واقعًا.
وكَأنَّ الشَّارعَ صلى الله عليه وسلم جعل أمد المنع المترتب على خروج الخارج إلى استعمال الطُّهر، وقد تقوَّى بهذا قولُ من يرى أن التَّيَمُّم يرفع الحدث؛ لكون المرتفع هو
(1) رواه البخاري (135)، كتاب: الوضوء، باب: لا تقبل صلاة بغير طهور.
المنع، وهو مرتفع بالتَّيمُّمِ، لكنه مخصوص بحالة ما، أو بوقت ما؛ إما عدم الماء، أو مانع من استعماله مع وجوده، وليس ذلك ببدع، والأحكام تختلف باختلاف محالها.
وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكلِّ صلاة، فقد ثبت أنَّه كان مختصًّا بوقت، مع كونه رافعًا للحدث اتفاقًا، ولا يلزم من انتهائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة ألا يكون رافعًا للحدث، ثمَّ نُسخ في فتح مكة، وصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلواتِ الخمسَ بوضوء واحد، ونقل عن بعضهم أنه لم ينسخ، وأن الحكم باقٍ إلى الآن، وهو مردود، لكن الحكم في الاستحباب باق، وفي الوجوب منسوخ؛ لأنه إذا نسخ الوجوب، بقي الندب، على ما تقرر في كتب الأصول.
وقد ذكر الفقهاء من أصحاب الشَّافعي وغيرهم: أن الحدث وصفٌ حكميٌّ مقدَّرٌ قيامُه بالأعضاء على معنى الوصف الحسي، وينزلون الوصف الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء؛ كقولنا: الوضوء أو الغسل يرفع الحدث؛ أي: يزيل الأمر الحكمِي المترتب على المقدر الحكمي، فمن يقول بأن التَّيمُّمَ لا يرفع الحدث يقول: إِن الأمرَ المقدر الحكمي باقٍ لم يزلْ، والمنع (1) الذي هو مترتب عليه زائل، فلا يرفع ذلك الوصف الحكمي المقدر، وإن كان المنع المرتب عليه زائلًا، ولا دليل من حيث الشَّرعُ يدل عليه، وأقرب ما يذكرون فيه أَن الماء المستعمل قد انتقل إليه مانع، وذلك منازع في طهارته أو طهوريته أو نجاسته، فلا يلزم انتقال المانع إليه، فلا يتمُّ الدَّليل، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى يَتَوَضَّأ" نفى القبولَ إلى غاية، وهي الوضوء، وما بعد الغاية مخالفٌ لما قبلها، فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، ودخل تحته الصَّلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيًا، وهذا مجمَع عليه في الوضوء.
والحديث محمول عند العلماء على مَنْ تركَ الوضوء بلا عذر، أمَا مَنْ تركه
(1) في "ح": "المترتب".
بعذر، وأتى ببدله، فالصلاة مقبولة قطعًا؛ لأنَّه قد أتى بما أُمر به قطعًا.
وقد استدلَّ المتقدِّمونَ بهذا الحديث على أن الصَّلاة لا تجوز إلا بطهارة، ولا يلزم من عدم القبول عدمُ الصحة؛ بدليل ما تقدَّم، وقد تكون الصَّلاة مقبولة بلا وضوء ولا تَيَمُّم، فمن لم يجد ماء ولا ترابًا، فإنها صحيحة مقبولة، ولا تجبُ إعادتُها على أحد الأقوال عند الشَّافعي، وهو مختار جماعة من محققي أصحابه، وهو قول جماعة من العلماء، فيكون الحديث خرج على الأصل والغالب، والإعادة والقضاء لا يجبان إلا بأمر محدَّد، وهذا كله على مذهب من يقول: إن الطهارة شرط لصِّحَة الصَّلاة، أمَّا من يقول: إنَّها شرط للوجوب؛ كمالكٍ وابن نافع، فإنهما قالا: مَن عَدِم الماء والصعيد، لم يُصلِّ، ولم يقضِ إِنْ خرج وقت الصَّلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شرطها يدل على أنَّه ليس مخاطبا بها حال عدم شرطها، فلا يترتب في الذِّمَّة شيء، فلا تقضى، لكن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِآمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(1) يمنع هذا؛ فإنَّه أَمَرَ بالصَّلاة بشروط تعذرت، فيأتي بها، ولا يلزم من انتفاءِ الشَّرط انتفاءُ المشروط بالنسبة إلى أصل الوجوب، والله أعلم.
وقد استدل بهذا الحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختيارًا أم اضطرارًا، سهوًا أو عمدًا؛ لعدم تفريقه صلى الله عليه وسلم بين حدث وحدث في حالة دون حالة، وقد حكي عن مالك والشَّافعي -في القديم-، وغيرهما: أنّها لا تبطل إذا سبقه الحدث، بل يتوضأ ويبني على صلاته، وإطلاق الحديث يرد عليه.
واختلف العلماء من أصحاب الشَّافعي وغيرهم في موجب الوضوء ما هو؛ فذهب طائفة إلى أَنّه يجب بالحدث وجوبًا موسعًا، وذهب آخرون إلى أنه يجب بالقيام إلى الصلاة؛ بدليل قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]
(1) رواه البخاري (6858)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1337)، كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.