الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما سبُّ عبدِ الله ولدَه بلالًا، ومبالغتُه فيه: ففيه أن السنَّةَ سبُّ المعترضِ على السنَّةِ، والمعارضِ لها برَأيه.
وفي الحديث فوائد:
منها: منعُ الرجل امرأته من الخروج من منزله، إلا بإذنه.
ومنها: أنه لا يمنعها إذا استأذنته في الخروج إلى المساجد؛ بالشروط المذكورة.
ومنها: الأدب مع السنة، وأن لا تُعارض بصريح الرد، والأخذ بالرأي.
ومنها: تأديبُ المعترضِ عليها، والرادِّ عليها برأيه، وسبُّه، وتعزيرُه، والمبالغةُ في ذلك.
ومنها: الردُّ على العالم بمجرد الهوى، وتأديبُ الرجل ولدهَ؛ وإن كان كبيرًا في تغيير المنكر.
ومنها: تأديبُ العالم مَنْ تعلَّم عنده، وتكلَّم بما لا ينبغي.
ومنها: تقديمُ حقِّ الله تعالى، وحقِّ رسوله صلى الله عليه وسلم على غيرهم.
ومنها: القولُ بالحق؛ سواء كان القول له قريبًا، أو غيره، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: صلَّيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، ورَكعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكعَتينِ بَعْدَ العِشَاءِ (1)، وفي لفظ: فَأمَّا المَغْرِبُ، والعِشَاءُ، والجُمُعَةُ؛ فَفِي بَيْتِه (2).
(1) رواه البخاري (1112)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى.
(2)
رواه البخاري (1119)، كتاب: التطوع، باب: التطوع بعد المكتوبة، ومسلم (729)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة، وهذا لفظ البخاري.
وفي لفظٍ: أَن ابنَ عُمَرَ قال: حَدَّثَنْي حَفْصَةُ: أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتين بَعْدَمَا يَطلُعُ الفَجْرُ؛ وكانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا (1).
تقدم الكلام على ابن عمر.
وأما أختُه حَفْصَةُ:
فتقدَّم نسبُها، في ذكر أبيها عمر رضي الله عنه؛ وهي: أم المؤمنين، بنتُ أمير المؤمنين عمرَ، أسلمت تبعًا لأبيها؛ وهي: أختُ عبدِ الله لأبيه وأمه، وأمُّها: زينبُ بنتُ مظعون.
وكانت تحتَ خُنَيْسِ بنِ حُذافةَ السَّهْمِيِّ، فلما تَأيَّمَتْ حفصة، ذكرها عمرُ لأبي بكر؛ فلم يرجع إليه كلمة، ثم عرضها على عثمان حين ماتت رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: ما أريدُ أن أتزوجَ اليومَ؛ فشكا ذلك عمرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بعرضِه إليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يتزوجُ حفصةَ مَنْ هو خيرٌ من عثمانَ، ويتزوَّجُ عثمانُ مَنْ هي خيرٌ من حفصةَ".
ثم خطبها إلى عمر، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي أبو بكر عمرَ؛ فقال: لا تَجِدْ عليَّ في نفِسك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكرَ حفصةَ فلم أكنْ لأُفشيَ سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وتزوجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -عند أكثرهم- في سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: سنة اثنتين، وطلَّقها تطليقة، ثم ارتجعها؛ لأن جبريل صلى الله عليه وسلم قال له:"راجعْ حفصةَ؛ فإنَّها صَوَّامة قوامةٌ، وإِنَّها زَوْجُكَ في الجنَّةِ"(3).
(1) انظر: تخريج الحديث المتقدم؛ إذ هو قطعة منه.
(2)
رواه البخاري (3783)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 365)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(1000)، والحاكم في "المستدرك"(6753)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 50)، عن قيس بن زيد، مرسلًا.
وأوصى إليها عمر بعدَ موته، وأوصت حفصةُ إلى أخيها عبد الله بما أوصى به عمر، وبصدقةٍ تصدقت بها بمال وقفته بالغابةِ.
رُوي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستون حديثًا؛ اتفقا على: ثلاثة، وانفرد مسلم: بستة.
روى عنها: أخوها عبد الله، والمطلب بن أبي وداعة بن ضميرة، وعبد الله بن صفوان، وشتير بن شَكَل، وروى لها: أصحاب السنن والمسانيد.
وتوفيت سنة إحدى، وقيل: سنة خمس وأربعين، وقيل: أول ما بويع معاويةُ، وبويع معاوية في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وقيل: توفيت سنة سبع وعشرين؛ وهو ضعيف (1).
أما الكلامُ على لفظه:
فذكرُ هذا الحديثِ في باب: صلاة الجماعة لم تظهر له مناسبة، إلا من حيثُ المعيَّةُ؛ في قول ابن عمر:"صَلَّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث"، لكنه لا يلزمُ منها الاجتماعُ للسنن المذكورة؛ لأجل الجماعة فيها، وإن كان محتملًا؛ فإن المعية مطلقًا أعمُّ منها في الصلاة.
ومما يبعد الاحتمالَ المذكورَ؛ قولُ عائشة بعدَه: "لم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، على شيء من النوافل أشدَّ تعاهُدًا منه على ركعتيِ الفجرِ"(2)، وهذا لا تعلُّق له بالجماعة.
(1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 98)، و "المستدرك" للحاكم (4/ 15)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 50)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1811)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 180)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 38)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 67)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 605)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 153)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 227)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 581)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 439).
(2)
سيأتي تخريجه قريبًا.
وأما الكلامُ على هذا الحديث، فمن أوجُهٍ:
الأول: ما يتعلَّق بعلوم الحديث، وأنواعه؛ وهو أن [في] الرواية التالية، دليلًا على:
رواية الأخ عن أخيه؛ سواء كان ذكرًا، أو أنثى.
وأخذ العلم من المرأة؛ خصوصًا إذا كانت أعلمَ بالواقعة والحالة.
وقبول خبر الواحد، وهو مذهب العلماء العلماء؛ من جميع الطوائف، خلافًا لبعضهم، وعمل بخبر الواحد: الصحابة، فمن بعدهم فيما لا يحصى من الأحكام.
الثاني: فيما يتعلق بالصلوات النوافل المقيدة بأوقات وأعداد.
فمنها: السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدها.
فأما الحكمة في النوافل قبلها، فلأن النفس متكيفة بأسباب الدنيا، واشتغالها بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فكان تقديمها عليها تأنيبًا للنفس في الفرض بالعبادة قبله؛ لتتكيف بحالة الخشوع، وتدخل في الفرض على حالة حسنة لم تكن للنفس قبله، فإنها منافرة للطاعة، لا سيما إذا كثر أو طال ورود الحالة المنافية لما قبلها، فإنها قد تمحو أثرها، أو تضعفه، وأما في النوافل بعدها، فلأنها جابرة لما وقع في الفرائض من نقص إن وقع.
الثالث: ما يتعلق بعددها، ولا شك أنه قد ثبت في ذلك أحاديثُ، لكن
تأكدها على مراتب، فبعضها آكد من بعض؛ بحسب مواظبته صلى الله عليه وسلم عليه، أو
تخصيصه بكثرة الثواب في فعله لمشقة الفعل، أو لاشتغال الناس عنها بمعايشهم، أو راحة بنوم أو لعب، وغيرهما، أو لغير ذلك.
واعلم أنه ثبتت في السنن الراتبة المقيدة بالفرائض أحاديثُ:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى اثنتي عَشْرَةَ رَكْعَةً في يومٍ وليلةٍ، بُنيَ له بهنَّ بيتٌ في الجنة"(1).
ومنها: "ما مِنْ مسلمٍ يصلِّي لله تعالى في يومٍ اثنتي عشرةَ ركعةً تطوُّعًا غيرَ فريضة، إلا بنى الله له بيتا في الجنة"(2).
ولا شك أن هذا العددَ موجودٌ في أحاديث ابن عمر المذكورة في الكتاب هنا، وفي حديث عائشة هنا: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدَها وبعدَ المغرب وبعدَ العشاء، وإذا طلع الفجر صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث، لكنه لا يلزم منها الاجتماع للسنن المذكورة [إلى] صلى ركعتين، وهن اثنتا عشرة أيضًا، وليس للعصر ذكر في "الصحيحين".
وجاء في "سنن أبي داود" بإسنادٍ صحيح عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين (3).
وفي الترمذي، وقال: حسن: عن ابن عمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"رحمَ اللهُ امرأً صَلَّى قبل العصر أربع ركعات"(4).
وفيه -أيضًا-، وقال: حسن، عن علي رضي الله عنه:"كان النبي صلى الله عليه وسلم[يصلي] قبل العصر أربع ركعات"(5).
وجاء في أربعٍ بعد الظهر عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال:
(1) رواه مسلم (728)(1/ 502)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، عن أم حبيبة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (728)(1/ 503)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، عن أم حبيبة رضي الله عنها.
(3)
رواه أبو داود (1272)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر.
(4)
رواه الترمذي (430)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، وأبو داود (1271)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 117)، وابن حبان في "صحيحه"(2453).
(5)
رواه الترمذي (429)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، والطبراني في "المعجم الصغير"(1124)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 473).
رسول الله صلى الله عليه وسلم من حافظَ على أربعٍ قبل الظهرِ، وأربعٍ بعدَها، حَرَّمه اللهُ على النار" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (1).
وفي "صحيح البخاري" عن ابن مغفل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا قبل، المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء"(2)، وفي "الصحيحين" عن ابن مُغفَّل -أيضًا- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ "(3)، والمراد: بينَ الأذانِ والإقامة.
فهذه جملةٌ من الأحاديث في السنن الراتبة مع الفرائض.
قال جمهور العلماء، وأصحاب الشافعي: هذه النوافل المذكورة في هذه الأحاديث جميعُها مستحبة، لا خلافَ في شيء منها، إلا في الركعتين قبل المغرب، فإنَّ فيهما وجهينِ عندَ أصحاب الشافعي: أشهرهما عندهم: عدم الاستحباب، والمحققون منهم قالوا باستحبابهما؛ لحديثي ابن مغفَّل، وحديثِ ابتدارِهم السواريَ بهما، وهو في "الصحيحين"(4).
قال العلماء من الشافعية وغيرهم: واختلافُ الأحاديث في أعدادها محمولٌ على التوسعة فيها، وأن لها أقلَّ وأكملَ، فيحصل أصلُ السنة بالأقل، والأكملُ فعلُ الأكثر.
وَكذلك في الضحى والوتر وغيرها، فأعدادها بالأقل والأكثر وما بينهما دليلٌ على أقل المجزي من أصل السنة، وعلى الأكمل، والأوسط، والله أعلم.
(1) رواه أبو داود (1269) كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، والترمذي (428)، كتاب: الصلاة، باب:(317) منه آخر، والنسائي (1816)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد.
(2)
رواه البخاري (1128)، كتاب: التطوع، باب: الصلاة قبل المغرب.
(3)
رواه البخاري (598)، كتاب: الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، ومسلم (838)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بين كل أذانين صلاة.
(4)
رواه البخاري (481)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة إلى الأسطوانة، ومسلم (837)، كساب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
هذا ما يتعلق بالنوافل المقيدة، وأما النوافل المطلقة، وتسمى المُرسَلة، فما كان منها في حديث صحيح أو حسن مقيدًا بعدد أو هيئةٍ، أُعمل به، وكان مستحبًّا، وتختلف مراتبه وتأكيده باختلاف دليله في فعله وتركه قولًا وعملًا على حسبه؛ في صحته ومَراتبه، وما كان في حديث ضعيف، احتمل أن يعمل به؛ لدخوله تحت العمومات، لكن شرطه أن لا يقومَ دليل على المنع منه في العمومات أَخصُّ منه، وليس الحديثُ الموضوع من ذلك ألبتة، خصوصًا إن أحدثَ شعارًا في الدين؛ كالصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب؛ فإن حديثها موضوع، وقد أدخلها بعضُهم تحت العمومات الدالَّة على فضل الصلاة والتسبيحات، وَلم يستقم له ذلك لو كان حديثها ضعيفًا، وهو الذي لم يدخل تحت حدِّ الصحيح أو الحسن، فكيف بالموضوع الذي هو شرٌّ من الضعيف المختلَق المصنوع؟! كيف وقد صحَّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص ليلةِ الجمعةِ بقيام، وهو أخصُّ من العمومات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة، ثم احتمال دخوله تحت العمومات إنما هو في الفعل لا في الحكم بالاستحباب المخصوص بهيئةٍ؛ لأنه يحتاج إلى دليل شرعي عليه بذلك الوقت والهيئة والحالة، والله أعلم.
ومما أُحدثَ شعارًا في الدين عيدًا ثالثًا أحدثَه الروافضُ وسموه: عيدَ الغدير، وليس له أصل في الشريعة.
ثم المحدَث في الدين قد يكونُ زيادةَ وصفٍ في العبادة المشروعة لم تثبت في السنة؛ كاجتماع في موضع الانفراد، ويزعم من يفعل ذلك أن يدخل تحت عموم السنة؛ كما يفعل في ليلة النصف، والتعريف بغير عرفة، وهذا لا يستقيم؛ فإن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذُها التوقيف، فإن دلَّ الدليل على كراهة المحدث بخصوصيته، كان أقوى في منعه وأظهر.
وقد ذكر أصحاب الشافعي رحمهم الله في رفع اليدين في دعاء القنوت وجهين، فمن نظر إلى صحة الحديث في رفع اليدين في الدعاء عندَ الإطلاق،
قال برفعهما، ومن نظر إلى التوقيف والتعبد، قال بالمنع، كيف والصلاة تُصانُ عن زيادة عمل بغير دليل خاصٍّ فيه صحيحٍ، فإذا لم يصحَّ فيه حديثٌ خاصٌّ، كان دليلُ صيانةِ الصلاة عن زيادةِ عمل أخصَّ من دليلِ رفع اليدين في الدعاء مطلقًا.
ثم المحدَثُ قد يكون محرَّمًا، وقد يكون مكروهًا، ويختلف ذلك باختلاف نفس الشرع فيه من التشديد بالنسبة إلى ذلك الجنس والتخفيف، فإنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأصول العقائد، لم تكن مساويةً للبدع المتعلقة بأحكام الشريعة الفروعية، ولا شك أن الناس من العلماء الأصوليين والفروعيين قد تباينوا تباينًا كثيرًا في الكلام على البدع والتشديد فيها، حتى إن بعض العلماء من المالكية مرَّ بقوم يصلُّون في إحدى ليلتي الرغائب في رجب، والتي في نصف شعبان، وبقوم عاكفين على محرَّم، فحسب حالهم على المصلين لتلك الصلاة، وعلَّل بأنهم عالمون بارتكاب المعصية يرجون الاستغفار والتوبة، والمصلُّون لتلك الصلاة معتقدون أنهم في طاعة، فلا يتوبون ولا يستغفرون.
والقياس في هذا يرجعُ إلى العُمومات الشرعية أو دليلٍ خاصٍّ عليه، وميل المحققين من العلماء إلى ذلك.
وقد ثبت عن السلف من الصحابة والتابعين ما يؤيده؛ كجعل ابن عمر رضي الله عنهما صلاةَ الضحى بدعةً؛ حيث لم يثبت عنده فيها دليل بإدراجها تحت عموم الصلاة؛ لتخصيصها بوقت مخصوص، ولذلك قال في القنوت الذي فعل في عصره: إنه بدعة، ولم يرَ إدراجه تحت عموم الدعاء.
وكذلك نقل الترمذي عن عبد الله بن المغفَّل، لابنه في الجهرِ بالبسملةِ:"إياكَ والحدثَ"(1)، وَلم يرد إدراجه تحت دليل عام.
وكذلك ما خرجه الطبراني بسنده عن قيس بن أبي حازم قال: ذُكر لابن
(1) رواه الترمذي (244)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال: حسن، وابن ماجه (815)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: افتتاح القراءة، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 55).
مسعودٍ قاصٌّ يجلس بالليل ويقولُ للناس: قولوا كذا، وقولوا، فقال: إذا رأيتموه، فأخبروني، قال: فأخبروه، فجاء عبدُ الله متقنِّعًا، فقال: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود، تعلمون إنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1)، وفي رواية:"لقد جئتم ببدعةٍ ظلمًا" أو: "لقد فضلتم أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه علمًا"(2)، وإنما أنكر ذلك؛ لأنه رآه من باب الزيادة في العبادات، مع أنه داخل تحتَ العمومات في فضيلة الذكر.
ولا شك أن ذلك جميعَه -بتقدير ثبوته عنهم- محمولٌ على أنه لم تبلغهم الأحاديثُ الخاصة فيه، أو أنه اقترن به أمرٌ من رياءٍ، أو ترك واجب شرعي، أو استدراج بذلك إلى مفاسدَ علموها، وإلا فالأحاديثُ الصحيحة ثابتة بالأمر بالذكر، فرادى ومجتمعين، والحث عليه، وعلى صلاة الضحى، والدعاء في الصلاة؛ لحديث أبي بكر رضي الله عنه: علمني دعاءً أدعو به في بيتي وفي صلاتي (3).
وحديث: "إنّ لله تعالى ملائكةً سياراتٍ فضلاءَ، يطلبون حِلَقَ الذكر، فإذا وجدوها، قالوا: هلموا إلي طِلْبَتِكُم"(4)، وكذلك القنوتُ في الصبح وغيرها.
وهذا كلُّه راجع إلى معرفة وجوه السنة، وما هي، وقد بين ذلك الشافعي رحمه الله أحسنَ بيان، فيما رويناه في كتاب "المدخل إلى معرفة السنن" للبيهقي رحمه الله بإسنادنا إليه، ثم إلى الربيع، قال: أنا الشافعي: وسُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله تعالى فيه نصَّ كتاب، فسنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمثل نَصِّ الكتاب.
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8629)، من طريق عبد الرزاق في:"المصنف"(5408).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8630)، من طريق عبد الرزاق في "المصنف"(5409).
(3)
رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر.
(4)
رواه البزار في "مسنده"(10/ 77 مجمع الزوائد للهيثمي)، وأبو نعيم في:"حلية الأولياء"(6/ 268)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ نحوه.
والثاني: ما أنزلَ الله فيه جملةَ كتابَ، فبيَّنَ عن الله تعالى معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها، أعامًّا أم خاصًّا؟ وكيف أراد أن يأتي به العباد؟
والثالث: ما سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ممَّا ليس فيه نصُّ كتاب، فمنهم من قال: جعله تعالى بما افترض من طاعة، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نصُّ كتاب.
ومنهم من قال: لم يَسُنَّ سنةً قطُّ إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عددِ الصلاة وعملها عن أصل حمله فرض الصلاة، وكذلك ما سَنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى قال:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فما أحل وحرم، فإنما بين فيه عن الله تعالى كما بيَّنَ الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءت به رسالة الله -جل ثناؤه-، فأثبت به سنة بفرض الله عز وجل.
ومنهم من قال: أُلقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقيت في روعه من الله -جل ثناؤه-.
هذا آخر كلام الشافعي في "المدخل"(1)، والله أعلم.
وقال غيره: سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولُه، أو فعلُه، أو حالُه، أو تقريره لما اطلع عليه صلى الله عليه وسلم من القول والفعل الحال بحضرته وسكت عليه، والله أعلم.
فالحاصل أن السنة في المعنى الشرعي أمرٌ بين الغُلُوِّ والإهمال، فلا يتنطع متعاطيها، ولا يبخل مترخصيها، بل هي حالة بين حالتين، وهي حال ساداتِ الأمة وسلِفها، والقدوةِ من أهلها وخلِفها، فنسأل الله التوفيق لذلك، وأن يهديَنا لأحسن المسالك.
(1) ورد هذا الكلام بمعناه في كتاب: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 21) وما بعدها.