الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موافقة المأمومين له فيه، بخلاف غيره.
وفيه دليل على: فضل الله تعالى، وكرمه؛ حيث جعل غفر الذنوب، على ما ذكرنا، مرتبًا على موافقة الإمام في التأمين.
* * *
الحديث الخامس، والسادس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا صلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، والسَّقِيمَ، وَذَا الحَاجَةِ، وإِذَا صلَّى لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ"(1).
وفي معناه: الحديث السابع:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بنَا، فَمَا رَأَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ:"يأيُّها النُّاسُ! إِنَّ مِنْكُم مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِه الكَبِيرَ، والصَّغِيرَ، وَذَا الحَاجَةِ"(2).
تقدم الكلام على أبي هريرة، ونسبه الأنصاري.
وأما أبو مسعود:
واسمه: عُقْبَةُ بنُ عمرِو بنِ ثعلبةَ بنِ أَسيرةَ -بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة- بن عَسيرةَ -بفتح العين، وكسر السين المهملتين- بنِ عطيةَ بنِ جدار -بكسر الجيم- بنِ عوفِ بنِ الخزرج، البدريُّ؛ لسكناه ماءً ببدر، وقيل: لشهوده بدرًا الوقعة المشهورة؛ قاله البخاري، ولا يصح.
(1) رواه البخاري (671)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء، ومسلم (467)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
(2)
رواه البخاري (6740)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؛ ومسلم (466)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
قال ابن إسحق: كان أبو مسعود أحدثَ من شهد العقبة سنًّا، ولم يشهد بدرًا، وشهد أحدًا، وما بعدها من المشاهد، ونزل الكوفة، وسكنها، وخلفَ عليًّا بها في خروجه إلى صِفين.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مئة حديث، وحديثان؛ اتفقا على: تسعة أحاديث، وللبخاري: حديث واحد، ولمسلم: سبعة.
روى عنه؛ من الصحابة: عبدُ الله بن يزيد الخطْمي، ومن التابعين: ابنه بشير، وقيل: له صحبة؛ ولا تصح، وجماعةٌ غيرُه.
ومات بالكوفة، وقيل: بالمدينة قبل الأربعين، قيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: أيام خلافة علي، وقيل: مات بعد الأربعين سنة إحدى، أو اثنتين، وقيل: في آخر خلافة معاوية.
وروى له: أصحاب السنن والمساند (1).
وأما الكلام على معنى التخفيف:
فاعلم: أن المراد به: تخفيفٌ لا يخلُّ بمقاصد الصلاة، وأركانها، وسننها.
والضابط في التطويل، وعدمه: إذا لم يكن المأمومون يؤثرونه؛ فإن آثروه، طول، وحدُّ التطويل مقدَّر: بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلِه فيها غالبًا؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة، ويريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي؛ فيتجوَّزُ فيها.
والمراد باعتبار قول المأمومين؛ في التطويل، وتركه: إذا كانوا محضورين؛ كما إذا اجتمع قوم لصلاة الليل، أو كان المسجد صغيرًا، في الفرائض؛ أما إذا كان المسجد كبيرًا، والجماعة غير محضورين: فإن الإمام يخفف بهم، مطلقًا؛
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 16)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 279)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1074)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 157)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 507)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 55)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 215)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 493)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 524)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 220).
بحيث لا يخل بالفرائض، والسنن؛ وهذا الحكم مذكور في الحديثين المذكورين، مع علته.
ثم المشقة في التطويل: أمرٌ إضافي؛ فليس المعتبر فيه عادة بعض المصلين الجاهلين المقصرين، ولا الغالين المتنطِّعين؛ بل هو معتبر بما قاله العلماء.
فلا يزيد في القيام؛ بالقراءة الطويلة المملة المؤدية إلى كراهية الصلاة، ولا في الركوع، والسجود؛ على ثلاث تسبيحات، ونحوها، من دعاء في السجود، وتعظيم في الركوع؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل؛ مع أمره بالتخفيف، [وشدة غضبه في الموعظة، في إطالة الإمام الصلاةَ بهم؛ فهذا لا يعدُّ طولًا ومشقَّة، شرعًا؛ بل التخفيف عنه مكروه](1)، وعن الواجب حرام.
ثم العلة في كراهة التطويل: إنما هو التنفير عن الخير، بسبب المشقة الحاصلة منه، مع الحاملة على: ترك العبادة، أو الدخول فيها بغير انشراح، أو تملل، أو شغل القلب بكراهته؛ عن الحضور في الصلاة، والخشوع؛ اللذين هما مقصودها، والمطلوب منها، والله أعلم.
ثم غضبه صلى الله عليه وسلم في هذه الموعظة: إما لمخالفة العلم في تخفيف الصلاة، أو التقصير في تعلمه، أو لهما، والله أعلم.
ثم تطويل الإمام في الصلاة عذرٌ في التخلف عن حضور الجماعة، إذا عُلم من عادة الإمام التطويلُ الكبير؛ لهذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظته؛ لكونِ التطويل على المأمومين سببًا لترك الجماعة، وربما يكون في حق بعض الجهال سببًا لترك الصلاة.
ولا شك أن ترك أصل الجماعة حرام، وبعضهم يقول: إن تركها بعض الناس؛ بحيث قام شعارها في الناحية، لم يحرم، وبعضهم يقول: إنَّ تركها مكروه مخالف للسنة.
وقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، من رواية سعيد بن جبير، عن
(1) ما بين معكوفين ساقط من: "ح".
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سمعَ النداءَ فلم يُجِبْ؛ فلا صلاةَ له، إلَّا مِنْ عُذْرٍ"(1)؛ وفي هذا الحديث: أن الأمر بإتيان الجماعة أمر حتم، لا ندب؛ فتعين أن يكون الأمر الحتم على من سمع النداء: فرضَ عين، أو كفاية.
ثم الأعذار في ترك الجماعة؛ المنصوص عليها في السنة، عشرة:
الأول: المرض؛ بدليل تأخر النبي صلى الله عليه وسلم عنها في مرضه، وقد جعله صلى الله عليه وسلم علة في عدم تطويل الإمام الصلاة.
الثاني: حضور الطعام، خصوصًا عند توقان النفس إليه، وهو صائم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قُرِّبَ العَشاءُ، وحضرتِ الصلاةُ؛ فابدؤوا بهِ قبلَ صلاة المغرب، ولا تَعْجَلوا عن عشائِكم"؛ حديث صحيح، على شرط الشيخين، من رواية أنس (2).
الثالث: النسيان الذي يعترض الشخص في بعض الأحوال؛ للحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَفَلَ من غزوة خيبر سارَ ليلةً، حتى إذا أدركه الكرى، عَرَّسَ، وقال لبلال:"اكلأ الليل"، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأصحابه؛ حتى طلعت الشمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نامَ عنْ صلاةٍ، أو نَسِيَها؛ فَلْيُصَلِّها، إِذا ذَكَرَها"(3).
الرابع: السِّمَنُ المفرِط؛ للحديث الصحيح الذي رواه أنس رضي الله عنه: أن رجلًا من الأنصار كان ضخمًا؛ لا يستطيع حضور الجماعة مع
(1) رواه ابن ماجه (793)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن حبان في "صحيحه"(2064)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12266)، وفي "المعجم الأوسط"(4303)، والدارقطني في "سننه"(1/ 420)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 57).
(2)
قلت: هو في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجه، فلا حاجة لقول المؤلف رحمه الله.
حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فإنه يوهم عدم تخريجهما له، والواقع خلافه.
(3)
رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، ودعاه لطعام صنعه له في بيته؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حَصير في بيته ركعتين (1).
الخامس: مُدافعةُ الأخبثين البول، والغائط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وهو يدافعُه الأخبثانِ: البولُ، والغائطُ، (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجدَ أحدُكم الغائطَ؛ فليبدأْ بهِ قبلَ الصلاةِ" (3).
السادس: خوفُ الإنسان على نفسه، وماله، في طريقه إلى المسجد؛ لحديث عتبانَ بنِ مالكٍ رضي الله عنه في "الصحيح": أنه قال: يا رسولَ الله! إذا كانتِ الأمطارُ، سالَ الوادي، ولم أستطعِ الخروجَ إلى المسجد؛ فأصلي لهم، ووددت أنك يا رسولَ الله تأتي، فتصلي في بيتي؛ حتى أتخذه مصلًّى، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث (4).
السابع: وجودُ البرد الشديد المؤلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلَّى هو وأصحابه في رحالهم ذات ليلة، في برد شديد، وقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلَ مثلَ هذا، أو أمرَ بهِ الناسَ، حديث صحيح (5).
الثامن: المطر المؤذي؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت ليلة بردٍ ومطر، فصلُّوا في الرِّحال"، وكان يأمرُ المؤذِّنَ بذلك، حديث صحيح (6)، والمطرُ عذرٌ في التخلف عن الجماعة؛ قليلًا كان، أو كثيرًا؛ لحديث صحيح فيه.
(1) رواه البخاري (1125)، كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى في الحضر.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه النسائي (852)، كتاب: الإمامة، باب: العذر في ترك الجماعة، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 53)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 72)، عن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (415)، كتاب: المساجد، باب: المساجد في البيوت، ومسلم (33)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(5)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(2076).
(6)
رواه البخاري (635)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، ومسلم (697)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الصلاة في الرحال في المطر.
التاسع: وجود الظلمة؛ لحديث صحيح، من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، في ليلة ظلماءَ، فنادى منادٍ به: أَنْ صَلُّوا في الرِّحال (1).
العاشر: أكلُ الثوم والبصل، إلى أن يذهب ريحهما؛ وكذلك ما في معناهما؛ مما له رائحة كريهة؛ كالكراث، والبقول المنتنة، وقد ثبت في النهي عن ذلك أحاديثُ صحيحة؛ تمنع إتيان المساجد حتى يذهب ريحها؛ سواء كان فيها جماعة، أم لا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
وقد ألحق الفقهاء بهذه النصوص عليها أعذارًا في معناها، وبعضها أولى بأن يكون عذرًا؛ فالشخص مأمور بالجماعة، وإتيانها، فإذا عذر في إتيانها، فلا يتركها؛ إما واجبًا، وإما مندوبًا، والله أعلم.
واعلم: أن الضعف يعم: الصغر، والكبر، والمرض، والسقم؛ فيكون ذكر السقيم، والصغير، والكبير؛ من باب ذكر الخاص بعد العام، أو من باب تعداد الصفات الموجبة للعذر، في ترك الإمام التطويل عليهم، في الصلاة.
وفي الحديثين مسائل:
منها: الردُّ على من قال: لا تجوز صلاة الجماعة إلا خلف معصوم.
ومنها: أن الإمام يخفف الصلاة؛ على الشرط، والتفصيل الذي ذكرناه.
ومنها: ذكر الأحكام للناس بعللها.
ومنها: جواز حضور المريض، والصبي، والشيخ، وسائر من به ضعفٌ الجماعةَ.
ومنها: مراعاة الضعفاء في أمور الآخرة؛ وكذلك في أمور الدنيا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"سِيروا على سَيْرِ أَضْعَفِكم"(2).
(1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(1656)، وأبو يعلى في "مسنده"(5673)، وابن حبان في "صحيحه"(2084)، والطبراني في "المعجم الكبير"(13102).
(2)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 396 - 397): لا أعرفه بهذا اللفظ، ولكن معناه =
ومنها: جواز ذكر الإنسان؛ في الشكوى، والانتصار عليه.
ومنها: التأخر عن الجماعة؛ للأعذار.
ومنها: الموعظة لأمر الدين، وذكر الأحكام عند المخالفة.
ومنها: الغضب في الموعظة.
ومنها: تألُّف الناسِ على الطاعات، وعدمُ تنفيرهم عنها.
ومنها: أن الإنسان إذا صلى منفردًا، فإنه يصلي ما شاء؛ من قيام، وركوع، وسجود، لا في اعتدال، وجلوس بين سجدتين؛ سواء كان في فرض، أو نفل، والحديث في تطويل المنفرد مطلقٌ منزل على ما ذكرنا.
ومنها: تسمية الصلاة، وإضافتها إلى وقتها المأمور بإتيانها فيه.
ومنها: خطاب الناس، ونداؤهم في الموعظة، مما تكرهه نفوسهم من المخالفة، وإظهار ذلك القصد، والإرشاد والتعليم، والتبليغ؛ من غير تخصيص بالذكر لفاعل المخالفة، والله أعلم.
* * *
= في قوله صلى الله عليه وسلم: "اقدر القوم بأضعفهم؛ فإن فيهم الكبير والسقيم والبعيد وذا الحاجة". وهو عند الشافعي في "سننه"، والترمذي، وقال: حسن، وابن ماجه من حديث عثمان بن أبي العاص، وصححه ابن خزيمة والحاكم، وقال: على شرط مسلم: ونحوه عند الحارث ابن أبي أسامة عن أبي هريرة رفعه: "يا أبا هريرة! إذا كنت إمامًا، فقس الناس بأضعفهم"، وفي لفظ:"فاقتد بأضعفهم" ا. هـ.