الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطَّهارة
الحديث الأوَّل
عن عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة -وفي رواية: بالنِّيَّاتِ-، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُها أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"(1).
بدأ المصنف به؛ لتعلُّقه بالطَّهارة، واقتداءً بالسَّلف، والبداءة به في تصانيفهم.
وهذا الحديث لم يروه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَّا عمرُ بنُ الخطاب، وقيل: رواه عنه غيره، ولم يصحَّ، والله أعلم.
وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإسلام.
قال الشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ -رحمهما الله-: يدخل في حديثِ: "الأعمال بالنِّيَّة" ثلثُ العلم (2).
(1) رواه البُخاريّ (1)، كتاب: بدء الوحي،
باب:
كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1907)، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية".
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 14)، عن الإمام الشافعي. وذكر ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(ص 9)، عن الإمام أحمد أنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث -وعدّ منها حديث: "إنما الأعمال بالنيات"-.
وقال الشافعيُّ: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه (1).
وليس معنى كلام الشَّافعيِّ رحمه الله انحصاره في السَّبعين، وإنما مراده المبالغةَ في الكثرة، والله أعلم.
أما راويه فهو: أبو حفصٍ عمرُ بنُ الخطَّابِ بنِ نُفَيْلِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ رِياح -بكسر الرَّاء ثم الياء المثنَّاة من تحت- بنِ عبدِ اللهِ بنِ قرطِ بنِ رَزَاحِ -بفتح الرَّاء ثَمَّ الزَّاي- بنِ عديِّ بنِ كعبٍ، القرشيُّ العدويُّ؛ يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي -بالهمز وتركه-.
أسلم قديمًا، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من سُمِّيَ أميرَ المؤمنين عمومًا، وسُمِّيَ قبلَه به خصوصًا عبدُ الله بنُ جحشٍ على سريَّةٍ في اثني عشرَ رجلًا.
وهو أول من مصَّرَ الأمصار، وفتح الفتوح، وهو أحدُ العشرةِ المشهودِ لهم بالجنَّة، وثاني الخلفاء، وسُمِّيَ الفاروقَ لفرقانِه بين الحقِّ والباطل بإسلامه وظهورِ ذلك.
وكان من محدَّثي هذه الأمَّة، ونزل القرآن بموافقتِه في ستَّة أشياء.
ومناقبهُ أكثرُ مِنْ أنْ تُحْصَر، وأشهرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، يحتمل ذكرها مجلدات.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة حديث، وتسعة وثلاثون حديثًا، اتفق البُخاريّ ومسلم منها على ستة وعشرين حديثًا، وانفرد البُخاريّ بأربعة وثلاثين حديثًا، ومسلم بأحد وعشرين حديثًا.
وولِّيَ الخلافة عشرَ سنين وخمسةَ أشهر، وقيل: ستة، وقُتل يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من ذي الحجة، وقيل: لثلاث، سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين على الأصحِّ، ودفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، وصلَّى عليه صُهيبُ بنُ سنان الروميُّ رضي الله عنه (2).
(1) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1888).
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 265)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1144)، =
وأما لفظه:
فقوله: "سمعت" هي أرفعُ صيغِ الرواية، ثمَّ: حدَّثنا، وأخبرنا، كذا قاله الخطيبُ البغداديُّ (1).
وقال أبو عمرو بن الصَّلاح: "حدَّثنا"، و"أخبرنا" أرفع من "سمعت" من جهةٍ؛ إذ ليس في "سمعت" دلالةٌ أن الشَّيخ رَوَّاه إيَّاه، بخلافهما (2).
وقوله: "رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختلف أئمَّة الحديث هل يجوز تغيير "قال النبيّ" إلى: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو عكسه؟.
فقال أبو عمرو بن الصَّلاح: الظَّاهر أنَّه لا يجوز، وإن جازت الرِّواية بالمعنى؛ لاختلاف معنى النبوَّة والرِّسالة، قال: والصَّواب -والله أعلم- جوازه؛ لأنَّه لا يختلف به هنا معنًى، وهذا مذهب أحمد بن حنبل، وحمَّاد بن سلمة، والخطيب (3).
ولفظة "إنمَّا" للحصر عند جمهور اللُّغويين والأصوليين وغيرهم، فتثبت الحكم في المذكور، وتنفيه عمًّا عداه، ولكنَّ نفيَه عما عداه بمقتضى موضوعها، أو هو من طريق المفهوم، وفيه بحث.
وهي تقتضي الحصر المطلق والمقيد، ويفهم ذلك بالقرائن والسِّياق، فإن دلَّ السِّياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص، فَقُلْ به، وإلا فاحملْه على الإطلاق.
= و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 38)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 131)، و"صفة الصفوة" له أيضًا (1/ 268)، و "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (4/ 137)، و"الكامل في التاريخ" له أيضًا (2/ 449)، و "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 316)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 133)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 588)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 385). وقد أفرده كل من ابن الجوزي، والذهبي، وابن عبد الهادي الحنبلي، وغيرهم في ترجمة مستقلة.
(1)
انظر: "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص: 284).
(2)
انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 135).
(3)
المرجع السابق (ص: 214).
والنِّيَّة -بتشديد الياء على المشهور، وحكي تخفيفها-، وهي القصد، وهو: عزم القلب على الشيء، والمراد هنا: العزم على الفعل تقربًا إلى الله تعالى.
والهَجْرُ في اللُّغة: التَّرْك، وهو تَرْكُ الوطن وغيره هنا (1).
وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلىَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلىَ اللهِ وَرَسُولِهِ".
القاعدة عند أهل العربية المتقررة أَنَّ الشَّرْطَ والجزَاء والمبتدأ والخبر لا بُدَّ أَنْ يتغايَرا، وها هنا وقع الاتحاد في قوله:"فمن كانت هجرته" إلى آخره، فلا بُدَّ أن يقدر له شيء، وهو: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّةً وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا.
ووقعت الهجرة في الإسلام على أوجه:
أحدها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصَّحابة.
الثَّانية: من مكّة إلى المدينة.
الثَّالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرَّابعة: هجرة من أسلم من أهل مكّة ليأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يرجع إليها.
الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه.
ومعنى الحديث وحكمُه يتناول الجميع، غيرَ أَنَّ الحديث ورد على سببٍ، على ما سيأتي، والعبرة بعموم اللفظ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ الَى دُنْيَا"، الدُّنْيَا -بضم الدَّال على المشهور-، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها، وجمعها دُنا؛ كَكُبْرَى وكُبَر، وهي من دَنَوْتُ؛ لِدُنُوِّها وسبقها الدَّار الآخرة، وينسب إليها: دُنْيَوِيٌّ، ودُنْيِيٌّ، وقال الجوهريُّ وغيره: ودُنْيَاوِيٌّ (2).
(1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 250)، (مادة: هجر).
(2)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 265)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 272)، (مادة: دنا).
وفي حقيقتها قولان للمتكلمين:
أحدهما: ما على الأرض مع الجَوِّ والهواءِ.
والثاني: كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدّار الآخرة، وهو الأظهر.
وقوله: "دُنْيَا" -مقصور غير مُنوَّنٍ على المشهور-، وهو الذي جاءت به الرِّواية، ويجوز في لغةٍ غريبةٍ تنوينها، وروى ابنُ الأعرابي بيت العَجَّاج في جمع دُنْيَا:
دُنْيًا طَالَ ما قد عَنَتْ
بالتنوين، والمشهور فيه بلا تنوين.
وقوله: "أَوِ امْرَأَة يَتَزَوَّجُهَا" أي: يَنْكِحُهَا كما جاء في الرّواية الأخرى، وقد تستعمل بمعنى الاقتران بالشيء، ومنه قوله تعالى:{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قَرَنَّاهم، عند الأكثرين.
وقال مجاهد والبخاري وطائفة: أَنْكَحْنَاهم.
فإن قيل: كيف ذُكِرَتِ المرأة مع الدُّنْيَا مع أنها داخلة فيها؟ فالجواب: أنه جاء أن سببَ هذا الحديث: أن رجلًا هاجر من مكّة إلى المدينة ليتزوَّج امرأةً تسمى أمَّ قيس، لا لقصدِ فضيلةِ الهجرة، فقيل له: مهاجرُ أمَّ قيسٍ (1)، فلهذا خصَّ ذكر المرأة، وإن كانت أعظم أسباب الدُّنيا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا: الْمَرأَةُ الصَّالِحَةُ"(2).
فالغالبُ أنها شرُّ متاع الدُّنيا دونَ سائر ما يُنوى به الهجرةُ من أفراد الأعراض
(1) رواه الطّبرانيّ في "المعجم الكبير"(8540)، ومن طريقه: المزي في "تهذيب الكمال"(16/ 126)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء"(10/ 590)، وأخرجه ابن منده، وأبو نعيم من طريق أخرى، كما ساقه الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(18/ 281)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1467)، كتاب: الرضاع، باب: خير متاع الدُّنيا المرأة الصالحة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
الدُّنْيَوية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِي أَضَرُّ على الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ"(1).
وقد صنف الإمام أبو الفرج بنُ الجوزيِّ وغيرُه أسبابَ الحديث، كما صنف الواحديُّ وغيره أسبابَ النزول للقرآن، والله أعلم.
وقد يجاب أيضًا: بأنَّ المرأة لا يلزم دخولُها في هذه الصِّيغة؛ لأنَّ لفظة "دُنْيَا" نكرة، وهي لا تعم في الإثبات، فلا تدخل المرأةُ فيها، وقد يكون ذكرها من باب التنبيه على زيادة التحذير منها؛ كذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على مرتبته، كما في ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة، وذكر الصَّلاة الوسطى بعد الصلوات في المحافظة، وذكر محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم -صَلَّى الله عليه وعليهم أجمعين- بعد النبيّين في أخذ الميثاق عليهم، وليس منه النَّخْلُ والرُّمَّانُ بعد ذكرِ الفاكهة، وإن كان قد غَلِطَ بعض النَّاس فيه، فعدَّه منه؛ لأنَّ فاكهةً نكرة في سياق الإثبات، فلا تعم، والله أعلم.
أما معانيه، فتقدَّم بعضها في ألفاظه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" لا بُدَّ فيه من إضمار، ولا جائزَ أن يكون المضمر: وجودها؛ لوجود العمل ولا نيَّة، فتعيَّن أَنْ يكونَ المضمر الصِّحةَ أو الكمالَ، وتقدير الصِّحة ألزمُ؛ لأنَّه أقرب إلى خطوره بالذهن عند الإطلاق، فالحمل عليه أولى، وقد يُقدرونه بالاعتبار، وقرب ذلك بمثل؛ كقولهم: إنما الملكُ بالرِّجال؛ أي: قوامه ووجوده، وإنَّما الرِّجال بالمال، وإنَّما الرَّعيَّة بالعدل، وكل ذلك يُراد به أَنَّ قوامَ هذه الأشياء بهذه الأمور.
وعلى تقدير إضمار الصحة أو الكمال، وقع اختلاف الفقهاء، فذهب الشَّافعيُّ والجمهور إلى تقدير الصِّحة، وذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى تقدير
(1) رواه البُخاريّ (4808)، كتاب: النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم (2741)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
الكمال، وقدَّر بعض المحدثين القبول، وهو راجع إلى ثواب الآخرة، وهو مرتبٌ على الصِّحة والكمال، وقد تَنفكُّ الصِّحة عن القبول بالنِّسبة إلى أحكام الدُّنْيَا فقط، والأعمال تُطْلَقُ على الجوارح والقلوب، قولًا كان العمل أو فعلًا، لكنَّ الأسبقَ إلى الفهم تخصيصُه بالجوارح، لكنْ في الشَّرعيات فهو يستعمل فيهما، فيقال: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وخصَّص بعضهم أعمال الجوارح بما عدا القول، وهو غلط؛ لاتفاقهم على أنَّ اللِّسان جارحة، والقول عملُه، نعم يستعمل القول والعمل في معرض التَّقابل، أما أنَّ القول لا يسمى عملًا، فلا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" مقتضاه أنَّ مَنْ نوى شيئًا، يحصل له، وما لم ينوه، لا يحصل له، ولهذا عظَّمُوا هذا الحديث، وجعلُوه داخلًا في ثلث العلم، أو نصفه، والمراد بالحصولِ وعدمه بالنِّسبة إلى الشَّرع، وإلَّا فالعملُ قَدْ حصل، لكنَّه غيرُ معتدٍّ به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله:"وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إليه".
فإِنْ قِيل: فما فائدة ذكر الثَّاني بعد الأول؟
قلنا: فائدته اشتراط تعيين المنويِّ، فمن كان عليه صلاة مقضيَّة، لا يكفيه أَنْ ينويَ الصَّلاةَ الفائتة، بل لا بدَّ أَنْ ينويَ كونها ظُهرًا أو عصرًا أو غيرهما.
ولولا اللَّفظ الثَّاني، لاقتضى الأولُ صِحة النيَّة بلا تعيين، أو أَوْهَمَ ذلك.
وكونُ هذا الحديث ثلثَ العلم، قال البيهقيُّ وغيره: معناه أَنَّ كَسْبَ العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنيَّةُ أحدُ أقسامِه الثَّلاثة وأرجحُها؛ لأنَّها تكون عبادة بانفرادها، بخلاف القسمين الآخرين، ولهذا كانت نِيَّة المؤمن خيرًا من عمله؛ لأَن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه، بخلاف النيَّة (1)، وتدخل النيَّة في الوضوء والاغتسال والتيمم والصَّلاة وأنواعها، والزَّكاة والصيام والاعتكاف والحجِّ والطلاق والخلع والعتق والكتابة، والتدبير والإبراء والظهار
(1) انظر: "السنن الصغرى" للبيهقي (ص: 20).
ونحوها، بجعل الكناية كالصريح، وكذلك في البيع والإجارة وسائر المعاملات، والرجعة والوقف والهبة وكناية لفظ الطلاق وغيرها عند من يقول: كنايتها مع النية كالصريح، وهو الصَّحيح، وكذلك إذا كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر، فأوفاه ألفًا، صرف إلى ما نواه منهما، وكذلك ما أشبه ذلك، ويدخل -أيضًا- في الأيمان والنُّذور، والله أعلم.
وأمّا ما يتعلق بأحكامه:
فاعلم أن النيَّة في جميع العبادات تكون بالقلب كما سبق، ويُسْتحبُّ أَنْ يتلفظ مع ذلك بلسانه، فإِنِ اقْتصَرَ على القلب، كفاه، وإِن اقتصر على اللسان، فلا.
وعن الشَّافعيِّ قولٌ ضعيفٌ غريبٌ؛ أنَّه يكفيه في الزَّكاة اللَّفظ؛ لأنَّها تشبه الدُّيون، ولهذا يجوز تقديمها قبل وقتها، ويأخذها السُّلطان قهرًا؛ ولهذا قال الأوزاعيُّ: لا تجب النيَّة في الزَّكاة.
وقال أبو عبد الله الزبيريُّ -من متقدِّمي أصحابِ الشَّافعيِّ-: يُشترط في نيَّة الصَّلاة نيَّةُ القلب، ولفظُ اللسان، وهو غلط، ولو جرى على لسانه شيء، وفي قلبه غيره، فالاعتبار بالقلب.
وفي اشتراط إضافة العبادة إلى الله تعالى لصِحَّة النيَّة خلاف؛ فالاعتبارُ بالقلب، قال الجمهور: لا يشترط، لَكنْ يُستَحَبُّ، وشَرَطَها أبو العباس بنُ القاصِّ وغيرُه.
وينبغي لِمَنْ أرادَ شيئًا من الطَّاعات أَنْ يستحضرَ النيَّة، فينوي بها وجه الله تعالى.
وهل يشترط ذلك أول كل عمل -وإن قل وتكرر فعله- مقارنًا لأول العمل متصلًا به؟ اشترطه بعضهم، وشرط بعضهم ذلك في أول العمل، ولا يشترطه إذا تكرر، بل يكفيه أَنْ ينوي أول كل عمل، ولا يشترط تكرارها فيما بعد، ولا مقارنتها، ولا الاتصال.
وشرط بعضهم المقارنة دون الاتصال، وشرط بعضهم الاتصال، وهو أخف من المقارنة، وكلُّ هذه المذاهب راجعةٌ إلى أن النيَّةَ جزءٌ من العبادة، أم شرطٌ لصحتها؟ مذهبُ الجمهور أَنَّها جزءٌ منها، ولأصحاب الشَّافعي وجهٌ أَنَّها شرط، والشرط لا تجب مقارنته ولا اتصاله ولا تكراره للمشروط، بل متى وجد ما يرفعه أو ينفيه، وجب فعله.
وتنبغي النيَّة في الصَّدقات، وقضاء حوائج النَّاس، وعيادة المرضى، واتَّباع الجنائز، وابتداء السَّلام وردِّه، وتشميت العاطس وجوابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار والقبور، والنفقة على الأهل والضيفان، وإكرام أهل الود والفضل وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه وتعلمه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه، والفتوى والقضاء، وإماطة الأذى عن الطريق، والنصيحة والإعانة على البر والتقوى، وقبول الأمانات وأدائها، وما أشبه ذلك؛ حتَّى ينبغي له إذا أراد أَنْ يأكلَ أو يشربَ أو ينامَ أَنْ يَقْصِدَ به التقوِّيَ على طاعة الله تعالى، وإراحة البدن لينشطَ للطَّاعة.
وكذلك إذا أراد جِمَاعَ زوجته أَنْ يقصدَ امتثالَ قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وإيصالَها حقها، وتحصيلَ ولد صالحٍ يعبُد الله تعالى، وإعفافَ الزَّوجة، وإعفافَ نفسه وصيانتَها من التطلع إلى حرام، أو الفكر فيه، أو مكابدة المشاقِّ بالصبر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"(1).
وكذا ينبغي لِمَنْ يعملُ حِرفةً ينفع المسلمين ممَّا هو فرضُ كفاية أن يقصد إقامةَ فرض الكفاية، ونفعَ المسلمين؛ كالزراعة وغيرِها من الحِرَفِ التي هي قِوَامُ عيشِ المسلمين.
(1) رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.