المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب سجود السَّهو ‌ ‌الحديث الأول عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار - جـ ١

[ابن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمَة

- ‌ مصادر الكتاب:

- ‌ النسخ الخطية للكتاب:

- ‌ منهج التحقيق:

- ‌تَرْجَمَةُ المؤَلِّف

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ ولادته ونشأته:

- ‌ تدريسُهُ وإفادتُهُ:

- ‌ شيوخه:

- ‌ آثاره العلمية:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ مرضه ووفاته:

- ‌ مصادر ترجمته:

- ‌كتاب الطَّهارة

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثَّامن

- ‌الحديثُ التَّاسعُ

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الاستطابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السَّادس

- ‌باب السِّواك

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب في المَذْي وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الجنابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني والثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التيمم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الحَيْض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب فضل الجماعة ووجوبها

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الأذان

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الصُّفوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الإمامة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس، والسادس

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌باب وجوب الطُّمَأْنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصَّلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب ترك الجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- ‌باب سجود السَّهو

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب المرور بين يدَي المصلِّي

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب جامع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

الفصل: ‌ ‌باب سجود السَّهو ‌ ‌الحديث الأول عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

‌باب سجود السَّهو

‌الحديث الأول

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى صَلاتي العَشِيِّ، قَالَ ابنُ سِيرِينَ: وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أنا، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلى خَشَبةٍ مَعْرُوضَةِ في المَسْجِدِ، فاتَّكأ عَلَيْهَا، كَأنَّه غضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسرَى، وَشَبَّكَ بينَ أَصابعِهِ، وخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَاب المَسْجِدِ، فَقَالُوا: أَقَصِرَتِ الصَّلَاةُ؟ وفي القَوْمَ أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ في يَدَيْه طُولٌ، يقَالُ لَهُ: ذُو اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! أَنَسِيتَ، أَمْ قُصِرَتِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ:"لَمْ أَنْسَ، ولَمْ تُقْصَرْ"، فَقَالَ:"أَكمَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّر، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّر، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَنُبِّئْتُ: أَن عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ، قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ (1).

أما محمد بن سيرين:

فكنيته: أبو بكر، وكنية أبيه سيرين: أبو عمرة، ومحمدٌ: تابعيٌّ، ثقة،

(1) رواه البُخاريّ (468)، كتاب: المساجد، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم (573)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: السهو في الصَّلاة والسجود له.

ص: 527

جليل، إمام، رفيع، مأمون، عال، فقيه، ورع، كثير العلم، أنصاريٌّ، مولاهم، بصري، كان مولى أنسِ بنِ مالك خادمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخوته: معبد، وأنس، ويحيى، وحفصة، وكريمة؛ بنو سيرين، تابعيّون ثقات، وهو وهُمْ: من سبي عين التمر، أسرَهم خالدُ بن الوليد.

سمع حديثًا واحدًا من ابن عمر، ودخل على زيد بن ثابت، وسمع جندبَ بنَ عبدِ الله البجليَّ، وأبا هريرةَ، وعبدَ الله بن الزُّبير، وأنسَ بن مالك، وعمرانَ بنَ حُصين، وعديَّ بن حاتم، وسلمانَ بن عامر الضبي، وأمَّ عطية نسيبة الأنصاريةَ، وجماعةً من التابعين، وأخاه معبدًا، وأخته حفصة؛ وهو من أروى النَّاس عن شريح، وعبيدة.

واختلف في سماعه من ابن عباس، والصحيح: أنه سمع من عكرمة، عنه.

قال أحمد بن حنبل رحمه الله: سمع ابن سيرين من: أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، ولم يسمع من ابن عباس شيئًا، كلها يقول: نُبئت عن ابن عباس، وقد سمع من عمران بن حصين.

قال: وقال هشام بن حسَّان: أدرك الحسنُ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، عشرين ومئة، قلت: فابنُ سيرين؛ قال: ثلاثين، وقال هشام: حدثني أصدق من أدركت من البشر: محمدُ بن سيرين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.

وهو أكبر من أخيه أنس، ومات سنة عشر ومئة، بعد الحسنِ بمئة يوم؛ فعلى هذا يكون عمره: نحوَ خمسةٍ وسبعين سنة.

روى له: الشيخان، وأصحاب السنن والمساند (1).

(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 193)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 90)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 348)، و"حية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 263)، و "تاريخ بغداد" للخطيب (5/ 331)، و "تاريخ دمشق"(53/ 172)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 241)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 99)، و"تهذيب الكمال" للمزي (25/ 344)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 606)، و"تذكرة الحفَّاظ" للذهبي أيضًا (1/ 77)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 190).

ص: 528

وتقدم أبو هريرة.

وأما ألفاظه:

فالعشيُّ: ما بين زوال الشمس إلى غروبها؛ ومنه سميت صلاة الظهر، والعصر: صلاتي العشي، وفي "صحيح مسلم": إحدى صلاتي العشي؛ إما الظهر، وإما العصر.

وأما الخشبة المعروضة: فهي جذع من نخل؛ كذا جاء مبينًا في "صحيح مسلم"، وكان في قبلة المسجد.

وقوله: "وخرجتِ السَّرَعان"؛ هو بفتح السين المهملة، والراء؛ وهو المسرعون إلى الخروج، ويجوز فيه: إسكان الراء؛ نقله القاضي عياض، قال: وضبطه الأصيلي في "البُخاريّ": بضم السين، وإسكان الراء؛ فيكون جمع سريع، كقَفيز وقُفزان، وكَثيب وكثبان، قال الخطابي: وكسر السين خطأ (1).

وقوله: "أقُصِرتِ الصلاةُ؟ "؛ هو بضم القاف، وكسر الصاد، وروي بفتح القاف، وضم الصاد؛ وكلاهما صحيح، ولكن الأول: أشهر، وأصح (2).

وقوله: "وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ، يقال له: ذو اليدين"؛ اسم ذي اليدين: الخِرْباق -بكسر الخاء المعجمة، وبالباء الموحدة، وآخره قاف-؛ وهو سلميٌّ من بني سليم.

وقول الزُّهريّ: إنه ذو الشِّمالين، عميرُ بن عمرو بن غبشان، من خزاعة، حليفٌ لبني زهرة، وإنه قتل يوم بدر، غلط؛ اتفق أهل الحذق والفهم والحفظ على تغليطه؛ منهم: إمام الفن مسلم بن الحجاج، وأبو عمر بن عبد البر.

وقال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على قول الزُّهريّ، في حديث ذي اليدين، وكلهم تركوه؛ لاضطرابه في إسناده،

(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 213)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 361)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 68).

(2)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 187)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 68).

ص: 529

ومتنه، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فالغلط لا يسلم منه بشر، والكمال له، وكل أحد يؤخذ من قوله، ويترك، إلَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم (1).

قوله: "فنبئت أنَّ عُمرانَ بنَ حُصين قال: ثم سَلَّمَ"؛ القائل: هو محمد ابن سيرين الراوي عن أبي هريرة؛ وهو مصرح بأنه لم يسمع ذلك من عمران، بل بواسطة.

وأعلم: أن أحاديث باب السهو في الصَّلاة: ستة، وإن كان الماوردي ذكرها: خمسة، وأغفل حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ وهو: أنه صلى الله عليه وسلم سلَّم في ثلاث، ثم صَلَّى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين.

الثَّاني: حديث أبي هريرة؛ فيمن شك؛ فلم يدر كم صَلَّى، وفيه: أنه سجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما.

الثالث: حديث أبي سعيد؛ فيمن شك، وفيه: أنه يسجد سجدتين قبل أن يسلم.

الرابع: حديث ابن مسعود؛ وفيه: القيام إلى خامسة، وأنه يسجد بعد السلام.

الخامس: حديث ذي اليدين؛ الذي ذكره المصنف، من حديث أبي هريرة؛ وفيه: السلام من اثنتين، والمشي، والكلام، وأنه سجد بعد السلام.

قال أبو عمر: وقد روى قصة ذي اليدين: عبدُ الله بن عمر، ومعاويةُ بنُ حُدَيْج -بضم الحاء المهملة-، وعمرانُ بنُ حُصين، وصاحب الجيوش، واسمه: عبد الله بن مسعدة؛ وهو معروف في الصحابة بابنِ مسعدة، له رواية عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (2).

السادس: حديث ابن بحينة، وقد ذكره المصنف بعد هذا؛ وفيه: القيام من اثنتين، والسجود قبل السلام.

(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 366)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 72).

(2)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 360).

ص: 530

واختلف العلماء، في الأخذ بهذه الأحاديث:

فمنهم: من وقف عليها في مواضعها، ومنع القياس عليها؛ كداود الظاهري، ووافقه أحمد في الصلوات المذكورة خاصة، وخالفه في غيرها، وقال: يسجد فيما سواها؛ قبل السلام، لكل سهو.

ومنهم من قاس: واختلف هؤلاء:

فقال بعضهم: هو غير في كل سهو؛ إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبله؛ في الزيادة، والنقص.

وقال أبو حنيفة: الأصل فيه: السجود بعد السلام، وتأول باقي الأحاديث عليه.

وقال الشافعي: الأصل فيه: السجود قبل السلام، وردَّ بقية الأحاديث إليه.

وقال مالك: إن كان السَّهو زيادة: سجد بعد السلام، وإن كان نقصًا: فقبله.

فأما الشافعي، فقال في حديث أبي سعيد: فإن كانت خامسة، شفعها، ونص على السجود قبل السلام، مع تجويز الزيادة، والمجوز كالموجود.

ويتأول حديث ابن مسعود؛ في القيام إلى خامسة، والسجود بعد السلام؛ على أنه صلى الله عليه وسلم ما علم السَّهو إلَّا بعد السلام، ولو علمه قبله، لسجد قبله.

وتأول حديثَ ذي اليدين؛ على أنها صلاة جرى فيها سهو، فسها عن السجود قبل السلام، فتداركه بعده.

وأقوى المذاهب هنا: مذهب مالك؛ وهو قول للشافعي، ثم مذهب الشافعي؛ وله قول -أيضًا-: بالتخيير.

وعلى القول بالتفرقة؛ بين الزيادة والنقص، وهو أقواها؛ كما ذكرنا؛ لو اجتمع في صلاة سهوان؛ سهو بزيادة، وسهو بنقص: سجد قبل السلام، أو بعده، للزيادة، والنقص؛ أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنَّما اختلافهم في الأفضل.

ص: 531

ولو سها سهوين، فأكثر: كفاه سجدتان للجميع؛ وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور التابعين.

وعن ابن أبي ليلى: لكل سهو سجدتان؛ وفيه حديث ضعيف، والله أعلم.

وفي حديث ذي اليدين هذا فوائد؛ أصولية، وفروعية:

أما الأصولية:

فمنها: ما يتعلق بأصول الدين؛ فهو في موضعين:

أحدهما: جواز السَّهو في الأفعال على الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه-.

والثاني: في الأقوال.

أما الأول: فجوازه مذهب عامة العلماء، والنظار؛ وهذا الحديث يدل عليه؛ وهو مصرح به في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم ينسى؛ كما تنسون (1)؛ وهو ظاهر القرآن.

وشذت طائفة من المتوغلين، فقالت: لا يجوز السَّهو عليه، وإنَّما ينسى قصدًا، أو يتعمد صورة النسيان؛ وهذا باطل؛ لإخباره صلى الله عليه وسلم أنه ينسى، ولأن الأفعال العمدية تبطل الصَّلاة؛ ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي، وإنَّما يتميزان للغير بالإخبار.

والذين أجازوا السَّهو قالوا: لا يقر عليه؛ فيما طريقه البلاغ الفعلي، اختلفوا هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة، أم لا يشترط، بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ؛ وهو العمر؟

وهذه الواقعة -في حديث ذي اليدين- قد وقع البيان فيها على الاتصال، ومذهب أكثرين: أنه يشترط تنبيهه صلى الله عليه وسلم على الفور متصلًا بالحادثة، ولا يقع فيه تأخير.

(1) رواه البُخاريّ (392)، كتاب: القبلة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: السَّهو في الصَّلاة والسجود له.

ص: 532

وجوزت طائفة: تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم؛ واختاره إمام الحرمين.

ومنعت طائفة من العلماء: السَّهوَ عليه صلى الله عليه وسلم؛ في الأفعال البلاغية، والعبادات؛ كما أجمعوا على منعه، واستحالته عليه؛ في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني.

والصحيح: الأول؛ فإن السَّهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه، لم يحصل فيه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة؛ وهو بيان أحكام التأسّي، وتقرير الأحكام.

وقسم القاضي عياض رحمه الله السَّهو عليه صلى الله عليه وسلم؛ في الأفعال إلى: ما لا طريقه البلاغ، وإلى ما طريقه البلاغ، ولإتيان الأحكام من الأفعال البشرية؛ ممَّا يختص به: من العبادات، والأذكار القلبية.

وأبى ذلك بعض من تأخر عن زمنه صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم،

وأفعاله، وإقراره؛ كله بلاغ، واستنتج بذلك: العصمة في العمل؛ بناء على المعجزة، تدل على العصمة، فيما طريقه البلاغ؛ وهذه كلها بلاغ، تتعلق بها العصمة، ولم يصرح في ذلك؛ بالفرق بين محمد، أو سهو، وأخذ البلاغ في الأفعال؛ من حيث التأسي به صلى الله عليه وسلم؛ فإن سوى بين السَّهو، والعمد فيها؛ فهذا الحديث يرد عليه.

قال القاضي عياض: واختلفوا في جواز السَّهو عليه صلى الله عليه وسلم؛ في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع؛ من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور.

الموضع الثَّاني: جوازه في الأقوال؛ وهو ينقسم إلى: ما طريقه البلاغ؛ فالسهو فيه ممتنع إجماعًا؛ كامتناع العمد فيه، قطعًا وإجماعًا.

وأمَّا السَّهو في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي لا تستند الأحكام إليها، ولا أخبار المعاد، وما لا يضاف إلى وحي: فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه، وليس هو من باب التبليغ الذي يتطرق به القدح في الشريعة.

ص: 533

والحق الذي لا مرية فيه، ولا تردد، ولا ترجيح: القولُ بمنع ذلك على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- في كل خبر من الأخبار؛ كما لا يجوز عليهم خُلْفٌ في خبر؛ لا عمدًا، ولا سهوًا، لا في صحة، ولا في مرض، ولا رضا، ولا غضب.

وحسبك في ذلك: أن سيرة [نبينا]صلى الله عليه وسلم، وكلامه، وأفعاله؛ مجموعة معتنًى بها على مر الزمان، يتداولها الموافق، والمخالف، والمؤمن، والمرتاب؛ فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول، ولا اعتراف بوهم في كلمة.

ولو كان، لنقل؛ كما نقل سهوه في الصَّلاة، ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل، وفي نزوله بأدنى مياه بدر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"واللهِ لا أحلفُ على يمين، فأرى غيرَها خيرًا منها؛ إلَّا فعلتُ الذي هو خيرٌ، وكَفَّرْتُ عن يميني"(1)، وغير ذلك.

وأمَّا جواز السَّهو عليه؛ في الاعتقادات في أمور الدنيا: فغير ممتنع.

والذي يتعلق بما ذكرنا، من هذا الحديث؛ قوله صلى الله عليه وسلم:"لم أنَس، ولم تُقْصَر"، وفي رواية أخرى:"كل ذلكَ لم يكنْ"، وقد اعتذر عن ذلك بوجوه:

الأول: أن المراد: لم يكن القصر والنسيان معًا، وكان الأمر كذلك.

الثَّاني: أن المراد: الإخبارُ عن اعتقاد قلبه، وظنه؛ وكأنه مقدر النطق به، وإن كان محذوفًا؛ فإنّه لو صرح به، ثم بأن خلافُه في نفس الأمر، لم يقتض أن يكون خلافه في ظنه؛ فإذا كان لو، صرح به، وقيل: لم يكن ظني؛ لم يكن مغايرًا له؛ فكذلك إذا كان مقدرًا.

وهذان الوجهان؛ يختص الأول منهما: برواية من روى كل ذلك: "لم يكنْ"، فأما من روى:"لم أنَس، ولم تقصرْ"؛ فلا يصح فيه هذا التأويل.

وأمَّا الوجه الثَّاني: فهو مستمر على مذهب من يرى؛ أن مدلولَ اللفظ

(1) رواه البُخاريّ (6247)، في أول كتاب الأيمان والنذور، عن عائشة رضي الله عنها. وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 534

الخبري هو: الأمور الذهنية، فإنّه لم يذكر ذلك؛ فهو الثابت في نفس الأمر، ولا يصير كالملفوظ به.

الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لم أنس"، يُحمل على السلام؛ أي: إنه كان مقصودًا، لكنه بنى على التمام، ولم يقع سهوًا في نفسه، وإنَّما وقع في عدد الركعات؛ وهذا بعيد.

الرابع: الفرق بين السَّهو، والنسيان؛ فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان يسهو، ولا ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النسيان؛ لأنَّه غفلة، ولم يغفل عنها، وكان شغله بحركات الصَّلاة وما فيها، شغلًا بها، لا غفلة عنها؛ ذكر ذلك القاضي عياض (1).

قال شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله: وليس هذا في تلخيص للعبارة عن حقيقة السَّهو والنسيان، مع بعد الفرق بينهما؛ في استعمال اللغة؛ وكأنه يتلوح من اللفظ، على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم النسيان لأمر يتعلق به، وبكون الإعراض نسيانًا عن تفقد أمورها حتَّى يحصل عدم الذكر، لا لأجل الإعراض؛ وليس في هذا -بعد ما ذكرناه- تفريق كلي يخص السَّهو والنسيان، والله أعلم (2).

الخامس: ذكر القاضي عياض رحمه الله: أنه ظهر له ما هو أقرب وجهًا، وأحسن تأويلًا؛ وهو أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم: فنسيتَ، المضافة إليه؛ وهو الذي نهى عنه بقوله:"بِئْسَما لأَحَدِكُمْ أَنْ يقولَ: نَسيتُ، ولكنه نُسِّيَ"(3).

وقد روي: "إنِّي لا أَنسى -على النفي-، ولكن أُنَسَّى"(4)، وقد شك

(1) انظر كلام القاضي عياض رحمه الله في: "شرح مسلم" للنووي (5/ 62).

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 28).

(3)

رواه البُخاريّ (4744)، كتاب: فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم (790)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضائل القرآن وما يتعلق به، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(4)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 100) بلاغًا. وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(24/ 375): أما هذا الحديث بهذا اللفظ، فلا أعلمه يروى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندًا ولا مقطوعًا =

ص: 535

الراوي؛ على رأي بعضهم في الرواية الأخرى، هل قال: أَنسى، أو أُنَسّى؟ وأن "أو" هنا للشك، وقيل: بل للتقسيم.

وإن كان هذا: يكون مرَّة من قبل شغله، وسهوه، ومرة يغلب على ذلك، ويجبر عليه ليسن؛ فلما سأله السائل بذلك اللفظ، أنكره، وقال:"كلُّ ذلك لم يكنْ"، وفي الرواية الأخرى:"لم أَنس، ولم تُقْصَرْ"، أما القصرُ فتبين؛ وكذلك لم أَنس حقيقةً من قبل نفسي وغفلتي عن الصَّلاة، ولكن الله نَسّاني، لأَسُنَّ.

وأعلم: أنه ثبت في الصحيح؛ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو حدثَ في الصَّلاة شيءٌ، لأنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر، أَنْسى كما تنسون؛ فإذا نَسيتُ فذكِّروني"(1).

وهذا يعترض على ما ذكره القاضي عياض؛ من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر نسبة النسيان إليه، وقد نسبه إليه؛ في حديث ابن مسعود هذا مرتين، وما ذكره -أيضًا-؛ من أنه صلى الله عليه وسلم قال:"بئسما لأحدِكم أن يقولَ: نَسيتُ آية كذا"(2).

وهذا ذم لإضافة نسبة النسيان إليه، ولا يلزم من الذم للإضافة إليها؛ الذم لإضافته إلى كل شيء؛ فإن الآية من كلام الله المعظم، ويقبح بالمسلم إضافة كلام الله تعالى، ونسيانه، إلى نفسه؛ وليس هذا المعنى موجودًا، في كل نسيان ينسبه إلى نفسه؛ فلا يلزم مساواة غير الآية لها.

وكيفما كان، لم يلزم من الذم الخاص الذم العام لو لم تظهر مناسبة، وإذا لم يلزم ذلك؛ لم يلزم أن يكون قول القائل، الذي أضافه إلى عدد الركعات؛ داخلًا تحت الذم، فينكر، والله أعلم.

ولما تكلم بعض المتأخرين؛ على هذا الموضع، ذكر أن التحقيق في الجواب عنه: أن العصمة إنَّما تثبت في الإخبار عن الله تعالى؛ في الأحكام،

= من غير هذا الوجه، والله أعلم، ومعناه صحيح في الأصول.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 536

وغيرها؛ لأنَّه الذي قامت عليه المعجزة، أما إخباره عن الأمور الوجودية: فيجوز عليه النسيان؛ لو ضعفنا القول به، والله أعلم.

وأمَّا ما يتعلق بأصول الفقه؛ وهي قواعد فروع الدين:

فقد احتج بهذا الحديث على: جواز الترجيح بكثرة الرواة؛ من حيث إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طلب إخبار القوم، بعد إخبار ذي اليدين.

وفي ذلك بحث؛ من حيث إنه ليس المطلوب هنا السؤال؛ للتحمل، والإخبار، بل لتقوية الأمر المسؤول عنه، وتحقيقه، لا للترجيح للتعارض، والله أعلم.

وأمَّا ما يتعلق بالفروع؛ ففي هذا الحديث فوائد:

منها: أن أبا هريرة رضي الله عنه صَلَّى مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هذه الصَّلاة، التي سلم منها من اثنتين، ومعلوم أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وأنه لم يحصل له صحبة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سوى هذه المدة؛ فيكون حديث ذي اليدين متأخرًا؛ فلا يكون منسوخًا.

ومنها: أن نسيان الراوي لعين المروي لا يمنع الرواية، خصوصًا إذا لم يتلبس بإيهامه حكم.

ومنها: أن نية الخروج من الصَّلاة، وقطعها، إذا كانت بناء على ظن التمام؛ لا يوجب بطلانها.

ومنها: أن السلام سهوًا لا يبطل الصَّلاة.

ومنها: أن كلام الناسي لا يبطل الصَّلاة؛ وكذلك الذي يظن أنه ليس منها، لا يبطلها؛ وبه قال جمهور العلماء؛ من السلف، والخلف، وبه قال ابن عباس، وعبد الله، وعروة؛ ابنا الزُّبير، وعطاء، والحسن، والشعبي، وقتادة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وجميع المحدثين.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري؛ في أصح الروايتين عنه: تبطل

ص: 537

صلاته؛ بالكلام ناسيًا، أو جاهلًا؛ لحديث ابن مسعود، وغيره، وزعموا: أن قصة ذي اليدين منسوخة به؛ بناء على أن ذا اليدين قتل يوم بدر، وأن قصته في الصَّلاة كانت قبل بدر.

قالوا: ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه؛ وهو متأخر الإسلام عن بدرٍ؛ لأنَّ الصحابي قد يروي ما لا يحضره؛ بأن سمعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو صحابي آخر.

والجواب عن ذلك: أنه لا يصح ادعاء النسخ لحديث أبي هريرة بحديث ابن مسعود؛ لاتفاق العلماء من المحدثين، وأهل السير على: أن حديث ابن مسعود في تحريم الكلام في الصَّلاة كان بمكة، حين رجع من أرض الحبشة، قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة متأخرًا عن عام خيبر، بدليل ما ذكرناه؛ من شهوده القصة، وإسلامه عام خيبر، كما تقدم، وقد بينا غلط الزُّهريّ فيما يتعلق بـ "ذي اليدين" من تسميته ذي الشِّمالين، وأنه استشهد يوم بدر.

ومنها: أن كلام العمد لإصلاح الصَّلاة يبطلها عند جمهور الفقهاء، وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشَّك وإجابة المأمومين: أن صلاتهم تَامَّة على مقتضى الحديث، والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث على وجوه:

منها: أنه منسوخ، وقد بينا بطلانه.

ومنها: التأويل لكلام الصحابة بأنه الإشارة والإيماء، لا بالنطق، وفيه بعد؛ لأنَّه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم، وإن كان قد ورد في حديث حماد بن زيد في رواية لأبي داود بإسناد صحيح:"أن الجماعة أَوْمَؤوا"(1) أي: نعم، فيمكن الجَمْعُ بين أن يكون بعضُهم نقل ذلك إيماء، وبعضهم كلامًا، واجتمع الأمران في حق بعضهم.

ومنها: أن كلامهم كان إجابة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإجابته واجبة، واعتَرَض عليه

(1) رواه أبو داود (1008)، كتاب: الصَّلاة، باب: السَّهو في السجدتين.

ص: 538

بعض المالكية بأن قال: إن الإجابة لا تتعين بالقول، فيكفي فيه الإيماء، وعلي تقدير أن يجب لا يلزم منه الحكم بصحة الصَّلاة؛ لجواز أن يجب الإجابة، ويلزمهم الاستئناف.

ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم معَتقِدًا لتمام الصَّلاة، والصحابة تكلموا مجوزين النسخَ، فلم يكن كلام واحد منهم مبطِلًا، وهذا يضعفه ما في "كتاب مسلم" أن ذا اليدين قال: أَقُصِرَتِ الصلاةُ يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعضُ ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على النَّاس فقال:"أَصدقَ ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول الله، بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"كل ذلك لم يكن"(1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" يدلُّ على عدم النسخ، فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ.

قال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: وليتنبه ها هنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: قد كان بعضُ ذلك، بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"كل ذلك لم يكنْ"؛ فإن قوله: "كل ذلك لم يكنْ" تضمن أمرين:

أحدهما: الإخبارُ عن حكم شرعي، وهو عدم القصر.

والثاني: الإخبار عن أمر وجودي، وهو النسيان، وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه السَّهو، وهو الإخبار عن الأمر الشرعي، والآخر متحقق عند ذي اليدين، فلزم أن يكون بعض ذلك كما ذكر (2).

ومنها: أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس أفعال الصَّلاة إذا وقعت سهوًا لا تبطل الصَّلاة؛ بدليل أنه صلى الله عليه وسلم جرى منه أفعال كثيرة: مشيُه صلى الله عليه وسلم إلى منزله، وإتيانُه جذعًا في قبلة المسجد، واستناده إليه لما خرج سرعان النَّاس، وكلامُه لذي اليدين وغيره، وتقدُّمه لإتمام ما بقي من صلاته، وفي هذه المسألة وجهان

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 32).

ص: 539

لأصحاب الشافعي رحمه الله، الصحيح عند المتولي: ما ذكرنا، والمشهور في المذهب: أنها تبطل، وهو مشكل، وتأويل الحديث عليه صعب، أما الأفعال القليلة أو الكثيرة المتفرقة، فإنّها لا تبطل قطعًا، خصوصًا إن كانت لعذر، والله أعلم.

ومنها: جوازُ البناء على الصَّلاة بعدَ السلام سهوًا، وجمهورُ العلماء عليه؛ سواء كان السَّهو بعد ركعة أو ركعتين أو ثلاثًا؛ لأنَّ الأصل في جواز البناء إذا سلم سهوًا؛ لهذا الحديث، وهو ركعتان، وفرعه السلام من ركعة أو ثلاث، فهو في معنى الأصل، ومساو له، وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول، وقد علمنا أن المانع لصحة الصَّلاة إن كان هو الخروج منها بالنية والسلام، وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص، فإذًا الفرع في معنى الأصل بلا فرق.

وذهب سحنون من المالكية إلى تخصيص جواز البناء إذا سلم من ركعتين، على ما ورد في الحديث، ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصَّلاة ونية الخروج منها على خلاف القياس، وإنَّما ورد النص في هذه الصورة المعينة على خلافه، وهو السلام من اثنتين، فيقتصر على مورد النص، ويبقى فيما عداه على القياس.

ومنها: تقدير القرب في جواز البناء بما ورد في هذا الحديث، وما عداه طويل، فلا يجوز فيه البناء، وهو وجه في مذهب الشافعي، وقدره بعضهم بالعرف، واختاره جمهور الشافعيين، وقدره بعضهم بمقدار الصَّلاة، وبعضهم بمقدار ركعة، وهو مرجوح عندهم، وأبى ذلك بعض المتقدمين، وقال بجواز البناء وإن طال، ما لم ينتقض فيه وضوءه، وروي ذلك عن ربيعة، وقيل نحوه عن مالك، وليس بمشهور عنه، والمختار الأول، خصوصًا على رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم وصل إلى منزله، ثم خرج منه.

ومنها: شرعيةُ سجود السَّهو.

ص: 540

ومنها: أن سجود السَّهو سجدتان.

ومنها: أنه في آخر الصَّلاة، وقيل في حِكْمَةِ كونه في آخرها احتمال طرآن سهوٍ آخر، فيكون جابرًا للكل، ويتفرع على ذلك أنه لو سجد، ثم تبيّن أنه لم يكن في آخر الصَّلاة، أعاده في آخرها، ويتصور ذلك في صورتين:

إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت، وهو في السجود الأخير، فيلزمه إتمام الظهر، ويعيد السجود.

والثانية: أن يكون مسافرًا، فيسجد للسهو، وتصل به السفينة إلى الموطن، أو ينوي الإقامة، فيتم ويعيد، والله أعلم.

ومنها: أن سجود السَّهو يتداخل، ولا يتعدد بتعداد أسبابه؛ فإنّه قد تعدد في هذا الحديث الجنس في القول والفعل، ولم يتعدد في السجود، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، ومنهم من قال بتعدد السَّهو، ومنهم من فرق بين اتحاد الجنس وتعدده، فإن اتحد، لم يتعدد، وإلا تعدد.

ومنها: أن محل سجود السهو بعد السلام، وقد تقدم في الكلام على ألفاظ هذا الحديث اختلاف العلماء في ذلك، وتقرير مذهب الشافعي، وتأليف الأحاديث عليه، ومأخذنا في المذاهب، وأن أقواها مذهب مالك، وهو ما كان من نقص فمحله بعد السلام، وأومأ إليه الشافعي في القديم، والأحاديث ثابتة في السجود بعد السلام، في الزيادة، وقبلَه في النقص، وعلى ذلك جمع مالك - رحمه الله تعالى- بينها، والذين قالوا بأن الكل قبل السلام؛ كالشافعي، ومن وافقه أو تابعه من العلماء، اعتذروا عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجهين:

أولهما: ادعاء النسخ بقول الزُّهريّ أن آخر الأمرين من فعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام.

وثانيهما: أن الذين رووه قبله من متأخري الإسلام وأصاغر الصحابة.

وقد اعترض على رواية الزُّهريّ بالإرسال، ولو كانت مسندة، فشرط النسخ

ص: 541

التعارض باتحاد المحل، ولم يقع ذلك مصرحًا به في رواية الزُّهريّ، فيحتمل أن يكون الآخر هو السجود قبل السلام، لكن في محل النقص، وإنَّما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو بين أن المحل واحد، ولم يبين ذلك، واعترض على أن الذين رووا السجود قبل السلام من متأخري الإسلام وأصاغر الصحابة بأنه: لا يلزم منه التحمل حال الإسلام وكبرهم، بل يكون قبلهما، ثم رووه بعدهما، من الاعتذار عن الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام التأويل، بأن المراد بالسلام السلام على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي في التشهد، أو يكون بأخيرهما بعده على سبيل السَّهو، وهما بعيدان؛ لسبق الفهم في السلام هو الذي يقع به التحلل، لا الذي في التشهد، والأصل عدم السَّهو وبطريق إلى الأفعال الشرعية من غير دليل سائغ، وأيضًا فهو مقابل بعكسه، وهو أن يقول الحنفي: محله بعد السلام، وتقدمه قبله على سبيل السَّهو، ومن الاعتذار عنها الترجيح بكثرة الرواة، وهو إن صح، فالاعتراض عليه بأن طريقة الجمع أولى من الترجيح؛ لأنَّه إنَّما يصار إليه عند عدم إمكانه، ولا بد فيه من النظر في محل التعارض، وإيجاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان.

وأمَّا القائلون بأن محله بعد السلام مطلقًا، فاعتذروا عن الأحاديث المخالفة لقولهم بالتأويل، إما بأن المراد بقوله: قبل السلام: السلام الثَّاني، أو بأن المراد بقوله: وسجد سجدتين: سجوَدَ الصَّلاة، وما ذكره الأولون من احتمال السَّهو لا يكون إلَّا بعد التسليمتين اتفاقًا.

وذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى الجمع بين الأحاديث بطريق آخر غير ما ذهب إليه مالك، وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه حديث، فمحل السجود فيه قبل السلام، وكان هذا نظرًا إلى أن الأصل في الجائز أن يقع في المجبور، فلا يخرج عن هذا الأصل إلَّا في مورد النص، ويبقى فيما عداه على الأصل.

وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك

ص: 542

الترجيح، لكنهما اختلفا في وجه الجمع، وترجح قول مالك بذكر المناسبة في أن سجود السَّهو عند النقص قبل السلام، وعند الزيادة بعده، وإذا ظهرت المناسبة، وكان الحكم على وفقها، كانت علة، وإذا كانت علة، عم الحكم جميع محالها، فلا يتخصص ذلك بمورد النص.

ومنها: أن حكم سهو الإمام يتعلق بالمأمومين، فيسجدون معه، وإن لم يسهُوا؛ بدليل أن القوم سجدوا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لسهوه في هذا الحديث لما سجد، وهذا إنَّما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة، ولم يمش، ولم يسلم أنه كان لذلك.

ومنها: أن التكبير في سجود السَّهو كما في سجود الصَّلاة.

ومنها: أنه لا يشرع التشهد بعد سجود السَّهو؛ فإنّه لم يذكر في الحديث، فدل على عدمه في الحكم، وقد فعل العلماء في استدلالهم ذلك كثيرًا، فيقولون: لو كان، لذكر، وقد اختلف أصحاب مالك فيه إذا كان سجودُ السَّهو قبل السلام.

ومنها: جواز رجوع المصلي في قدر صلاة نفسه إلى قول غيره؛ إمامًا كان أو مأمومًا، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعي، ذكره صاحب "التتمة"، والجمهور على خلافه، وقالوا: لا يعمل المصلي إلَّا على يقين نفسه، إلَّا أن يكون المجيزون ممن يحصل اليقين بقولهم، وهو أن يبلغوا إلى حد التواتر، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان سؤاله لهم ليتذكر، لا رجوعًا إلى قولهم، فلما ذكروه، ذكر، فعلم السَّهو، فبنى عليه، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره، رجع إليه لما قالَ ذو اليدين حين قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لم تقصر، ولم أنس"، والله أعلم.

* * *

ص: 543