الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثالث: يقول عن يمينه: حي على الصلاة، ثم يعود إلى القبلة، ثم يعود إلى الالتفات عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح؛ يفعل مثل ما فعل عن يمينه.
ومنها: استصحابُ العَنَزة للصلاة، ونحوها، في السفر، وجواز الاستعانة للإمام، بمن يركزُها له، ونحو ذلك.
ومنها: أن الأفضل قصرُ الصلاة في السفر؛ وإن كان بقرب بلد، ما لم ينو إقامة أربعة أيام، فصاعدًا، والله أعلم.
واعلم: أن مواظبته صلى الله عليه وسلم على فعل شيء تدل على رجحان فعله، ولا تدل على وجوبه، إلا على مذهب من يرى أن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب؛ وليس بمختار عند أهل علم الأصول. والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قَالَ: "إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"(1).
أما ابنُ عمر، وبلالٌ؛ فتقدم ذكرهما.
وأما ابن أم مكتوم:
فتقدم في الحديث الأول من هذا الباب: أنه أحدُ مؤذِّني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة.
واسمه: عمرُو بنُ قيسِ بنِ زائدةَ بنِ الأصمِّ بنِ هزمِ بنِ رواحةَ؛ هذا قول الأكثرين، وقيل: اسمه: عبدُ الله بن زائدة، كان اسمه الحصين؛ فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله، وقيل غير ذلك في اسم أبيه وجده؛ وهو قرشي عامري، واسم أمه:
(1) رواه البخاري (2513)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى، ومسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.
عاتكةُ بنتُ عبد الله بن عنكثة بن عامرِ بن مخزومِ؛ وهو ابنُ خالِ خديجةَ بنتِ خُويلدٍ.
هاجر إلى المدينة، قبل مقدَم النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدَ مصعبِ بنِ عمير، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة؛ ليصلي بالناس، وشهد القادسية، وقُتل بها شهيدًا، وكان ذهابُ بصره بعدَ بدر بسنتين.
وقال أبو حاتم بنُ حِبَّانَ: وشهدَ القادسية، ومعه رايةٌ سوداءُ، وعليه درعٌ، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها في خلافةِ عمر.
روى عنه: عبد الرحمن بنُ أبي ليلى، روى له: أبو داودَ، والنسائيُّ، وابن ماجه (1).
وفي هذا الحديث:
ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من المحافظة على أمر ربه سبحانه وتعالى؛ في بيان الشرائع، والأحكام دِقِّها وجلِّها؛ فإن الله تعالى جعل البيان إليه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وفيه: جوازُ الأذان للصبح، قبلَ طلوع الفجر الصادق؛ في الصوم، وغيره.
وفيه: وجوبُ البيان عند الاشتباه؛ فإنه لما كان الأكل والشرب جائزًا إلى طلوع الفجر الثاني للصائم، والأذانُ في العادة مانعٌ منهما؛ بيَّن حكمه صلى الله عليه وسلم؛ وهو عدم الامتناع منهما بأذان بلال، إلى سماع أذان ابن [أم] مكتوم.
وقال بعض أصحاب الشافعي: يُكره الأذان في الصوم قبلَ وقت أذان بلال؛ وهو وقتٌ بين الفجر الصادق والكاذب، ومنهم من قال: يجوز بعد نصف الليل.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 205)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 214)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 735)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 4)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1198)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 582)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 251)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 567)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 26)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 360)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 600)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 30).
لكن في حديث بلال، وابن أم مكتوم؛ ما يدلُّ على تفاوت وقت أذانهما، ففي رواية في "صحيح مسلم":"أنه ليسَ بينَ أذانهما، إلا أنْ ينزلَ هذا، ويصعدَ هذا"(1).
وفيه: دليلٌ على جواز أن يكون المؤذن أعمى؛ فإن ابن مكتوم كان أعمى، وأذانه صحيح، ولا كراهة فيه إذا كان معه بصير، وقال أصحاب الشافعي: يكره أن يكون الأعمى مؤذنًا وحده.
وفيه: دليل على جواز تقليد البصير للأعمى في الوقت، وجواز اجتهاده فيه؛ فإن الأعمى لا بد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر؛ إما سماع من بصير، أو اجتهاد.
وفي الصحيح: "أنه كانَ لا يؤذن، حتى يقالَ له: أصبحت أصبحت"(2)؛ فهذا دليل على رجوعه إلى البصير، ولو لم يرد ذلك، لم يكن في هذا اللفظ دليلٌ على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه؛ لأن الدال على أحد الأمرين منهما، لا يدل على واحد منهما معينًا.
وفيه: دليلٌ على جواز أن يكون للمسجد الواحد مؤذنان.
وفيه: دليل على استحباب أن يؤذن كل واحد منهما مفردًا، مرتين، إذا اتسع الوقت؛ كصلاة الفجر، ونحوها، فإن كان ضيقًا؛ كالمغرب، فإنه لم ينقل فيها مؤذنان، وقال الفقهاء من أصحاب الشافعي: يتخيرون بين أن يؤذن كل منهم في زاوية من زوايا المسجد، وبين أن يجتمعوا، ويؤذنوا دفعة واحدة.
واعلم أنه لو اقتصر على مؤذن واحد في المسجد؛ لم يكن مكروها، وفرق بين أن يكون الفعل مستحبًا، وبين أن يكون تركه مكروهًا، فلو زاد على مؤذنين؛
(1) رواه مسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، والبخاري أيضًا (1819)، كاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال".
(2)
رواه البخاري (592)، كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، ومسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.
فليس في الحديث تعرض له، لكن إن احتاج المسجد، أو الناس إلى أكثر؛ اتخذ ثلاثة، أو أكثر بحسب الحاجة، وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة؛ للحاجة عند كثرة الناس.
قال العلماء من أصحاب الشافعي، وغيره: يستحب ألا يزاد على أربعة، إلا لحاجة ظاهرة، قالوا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدًا؛ فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة، بل:
إن اتسع الوقت: يرتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء به؛ أُقرع بينهم.
وإن ضاق الوقت: فإن كان المسجد كبيرًا؛ أَذَّنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقًا؛ أذنوا دفعة، بشرط أن تحصل كلمات الأذان، من كل واحد منهم، وألا يحصل من اختلاف الأصوات تهويش، فإن أدى إلى ذلك: لم يؤذن إلا واحد، فإن تنازعوا: أقرع.
وأما الإقامة: فإن أذنوا على الترتيب: فالأول أحقُّ بها، فإن كان هو المؤذنَ الراتب، أو لم يكن هناك مؤذنٌ راتب؛ فإن كان الأولُ غيرَ المؤذن الراتب، فأيُّهما أولى بالإقامة؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي؛ أصحهما: أن الراتب أولى؛ لأنه منصبه.
ولو أقام، في هذه الصور، غيرُ من له ولاية الإقامة؛ اعتُدَّ به على الصحيح، الذي قاله جمهور أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يُعْتَدُّ به؛ كما لو خطب واحد، وأمَّ بهم غيرُه؛ فلا يجوز على قول.
وأما إذا أذنوا معًا: فإن اتفقوا على إقامة واحد؛ جاز، وإلا: فيُقرع.
قالوا: ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد، قال: ولا بأس أن يقيموا معًا؛ إذا لم يؤدِّ إلى التهويش، وبشرط أن تصدر كلمات الإقامة منهم كلِّهم؛ فلو صدر بعضها من بعضهم، والبعض من الآخرين؛ لم تصح الإقامة، والله أعلم.
* * *