الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أن الاستحاضة على ضربين:
أحدهما: ألَّا يكونَ حيضًا، ولا مختلطًا به؛ بأن يكونَ دونَ يومٍ وليلة غير متكرر؛ فحكمُه: أَنْ تتوضأَ لكل صلاة.
والضرب الثاني: أن يكونَ بعضُه حيضًا، وبعضه ليس بحيض؛ بأن يكون دمًا متصلًا دائمًا، مجاوزًا لأكثر الحيض؛ وصاحبة هذا الضرب، لها ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ تكونَ مبتدأَةً؛ وهي التي لم ترَ الدم قبل ذلك؛ وفيها قولان للشَّافعي، أصحهما: تُرَدُّ إلى يوم وليلة، والثاني: إلى ستٍّ، أو سبع.
الثاني: أن تكون معتادةً؛ فترد إلى قَدْرِ عادتها في الشهر الذي قبل شهر استحاضتها.
الثالث: أن تكون مميزةً، ترى بعض الأيام دمًا قويًّا، وبعضها دمًا ضعيفًا؛ كالأسود، والأحمر؛ فتكون حيضتها أيامَ الأسود، بشرط: ألَّا يَنْقُصَ الأسودُ عن يومٍ وليلة، ولا يزيدَ على خمسة عشرَ يومًا، ولا ينقصَ الأحمر عن خمسةَ عشرَ يومًا.
ولهذا كله تفاصيلُ في كتب المذهب مبسوطة، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عائشةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من إنَاءٍ واحدٍ؛ وكِلانا جُنُبٌ، وكَان يَأْمُرُني، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُني؛ وَأَنا حَائِضٌ، وكانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إليَّ؛ وهُوَ مُعْتكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ؛ وأنا حائِضٌ (1).
تقدم الكلام على لفظ الجنب، ومعناه، واغتسال الرجل والمرأة من إناءٍ واحدٍ.
(1) رواه البخاري (295)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، ومسلم (319)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.
وقولها: "وكان يأمرُني، فَأَتَّزِرُ"؛ معناه: أشدُّ إزارًا، أسترُ به سُرَّتي، وما تحتَها إلى الركبة.
وقولها: "فيباشرُني؛ وأنا حائضٌ"، معناه: يباشرني بجميع أنواع الاستمتاع من القبلة، والمعانقة، وبالذَّكَر فيما فوق الإزار فوق السرَّة، وتحت الركبة وهو حلالٌ باتفاق العلماء، ونقل جماعةٌ الإجماعَ عليه، منهم: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وغيره.
ولا يغتر بما حكي عن عبيدة السلماني، وغيره: مِنْ أَنَّه لا يباشرُ شيئًا منها بشيء منه؛ فإنه منكرٌ غيرُ مقبولٍ، ولو صحَّ، لكان مردودًا بالأحاديث الصحيحة في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوقَ الإزار، [بفعله] وإذنه:
أما فعلُه: ففي هذا الحديث، وغيره.
وأما إذنه: ففي قوله صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم"، عن أنس رضي الله عنه:"اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكاحَ"(1)؛ يعني: الوطْءَ في الفرج، أو فيما دون السرة، وفوق الركبة.
ولو تركنا، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده؛ لم يكن فيه دليل على الإباحة، أو المنع؛ لما تقرر أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب، على المختار عند الأصوليين، وغيرهم من العلماء.
وأمَّا المباشرة بالجماع للحائض في الفرج، فهو حرام بنص القرآن العزيز، والسنة الصحيحة، وإجماع المسلمين:
فلو فعله معتقدًا حِلَّه، صار كافرًا مرتدًا.
ولو فعله غيرَ معتقدٍ حله، فإن كان ناسيًا، أو جاهلًا وجوده، أو تحريمَه، أو مكرَهًا: فلا إثم عليه، ولا كفارة.
وإن وطئها عالمًا بالحيض والتحريم مختارًا، فقد ارتكب معصية كبيرة؛ نص
(1) رواه مسلم (302)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد.
الشَّافعيُّ رحمه الله: على أنها كبيرة، ويجب عليه التوبة.
ولا كفارة -على الصحيح الجديد من قولَي الشَّافعيِّ-، وهو مذهبُ مالكٍ، وأبي حنيفة، وأحمدَ في إحدى الروايتين، وجماهير السلف؛ كعطاءٍ، وابن أبي مليكة، والشعبي، والنخعي، ومكحول، والزهري، وأبي الزناد، وربيعة، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختياني، وسفيان الثوري، والليث بن سعد -رحمهم الله تعالى-.
وللشَّافعيُّ قولٌ قديمٌ ضعيف: أنه يجب عليه الكفارة؛ وهو مروي عن ابن عباس، وجماعة من التابعين، والأوزاعي، وإسحاق، وأحمد في الرواية الثانية.
واختلفوا فيها: فقال الحسن البصري، وسعيد بن جبير: عتق رقبة.
وقال الباقون: دينارًا ونصف دينار، على اختلاف منهم فيه؛ هل يجب الدينار في أوله وجِدَّته، أو في زمن الدَّفْق، والنصفُ في آخره، أو بعد انقطاعه؟ والأحاديث في ذلك كلها ضعيفة؛ فالصواب: عدم الوجوب، واستحبابُ التصدق بشيء، والله أعلم.
وأما المباشرةُ فيما دون السرَّة، وفوقَ الركبة؛ ففيها أوجهٌ لأصحاب الشافعي:
وأشهرها في المذهب: التحريم؛ وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأكثر العلماء؛ منهم سعيدُ بن المسيب، وشُريح، وطاوس، وعطاء، وسليمان بن يسار، وقتادة.
والوجه الثاني: الجوازُ مع الكراهة؛ وهو قويٌّ من حيثُ الدليل، وهو المختار؛ لحديث أنس رضي الله عنه الذي رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اصنعوا كلَّ شيءٍ، إلا النكاحَ"(1)؛ فاقتصاره صلى الله عليه وسلم في مباشرته على ما فوق الإزار محمولٌ على الاستحباب؛ وبه قال عكرمة، ومجاهد، والشعبي، والنخعي،
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
والحكم، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، ومحمد بن الحسن، وأصبغ، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو المنذر، وداود.
والوجه الثالث: إن كان المباشر يضبط نفسه؛ لضعف شهوته، أو لشدة ورعه: جاز، وإلا: فلا؛ وهو حسن، قاله أبو الفياض البصري؛ من أصحابنا.
ثم تحريم المباشرة والوطء إنما هو في مدة الحيض، وبعدَ انقطاعه إلى أن تغتسل، أو تتيمم؛ إن عدمت الماء بشرطه؛ وهذا قول الجمهور من العلماء.
وقال أبو حنيفة: إذا قطع الدم لأكثر الحيض؛ حل وطؤها في الحال.
واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، والله أعلم.
وحيث جوزنا المباشرة فيما عدا الفرج مما يستمتع به، فلا فرق فيه بين أن يكون عليه دم، أم لا، على المشهور الذي قطع به جماهير العلماء من أصحاب الشَّافعيِّ، وغيرهم؛ للأحاديث المطلقة، وينبغي اجتنابه خروجًا من الخلاف، ومن معنى تحريم وطء الحائض في الفرج، والوطء في الدبر، والله أعلم.
وقولها: "وكان يُخرجُ رأسَهُ إليَّ وهو معتكفٌ، فأغسِلُه وأنا حائضٌ":
أما الحائض: فهو اسم فاعل من الحيض يطلق على المؤنث، بلا هاءٍ، وحُكي في لغة قليلة: حائضة، بالهاء.
وفي هذه الجملة:
جواز إخراج المعتكِفِ بعضَ بدنِه من المسجد، ولا يبطلُ اعتكافهُ.
وجواز غسلِ رأس المعتكف حالَ اعتكافه، وترجيلِه، وما في معناه، بشرط: ألا يقذر المسجد.
وجواز مخالطة المعتكف بالحائض إذا لم يخرج من المسجد، ولا تدخل هي المسجد، ومحادثتها، وما في معنى ذلك.
وجواز استخدام الرجل امرأته فيما خفَّ من الشغل، واقتضته العادة.