الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: أَن عُمَرَ بْنَ الخَطَابِ رضي الله عنه، جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، بَعْدَمَا غرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم:"واللهِ مَا صلَّيْتُها"، قَالَ: فَقُمْنَا إلى بُطْحَانَ، فَتوَضَّأ للصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَها المَغْرِبَ (1).
أما جابر، وعمر: فتقدم ذكرهما.
وتقدم ذكر: يوم الخندق -أيضًا-، والجمع بين هذا الحديث، وبين أحاديث صلاة الوسطى؛ في الخامس من هذا الباب، وأحكامها.
وأما ما يختصُّ بهذا الحديث؛ من شرحِ الألفاظ، وغيرها:
فقولُ عمرَ رضي الله عنه: "يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ؛ حَتى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ"، لا شك أنَّ (كاد) من أفعال المقاربة؛ ويجوز حذف أَنْ مع الفعل، في خبرها؛ وهذا الحديث يدل عليه، ويجوز إثباتها معه؛ وهو الأكثر، وثبت في هذا الحديث إثباتها في "صحيح مسلم".
وقوله: فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "واللهِ مَا صَلَّيْتُها"؛ وإنما حلف النبي صلى الله عليه وسلم، تطييبًا لقلب عمر رضي الله عنه؛ فإنه شقَّ عليه تأخيرُ العصر إلى قريب من الغروب، فأخبره صلى الله عليه وسلم: أنه لم يصلِّها بعدُ؛ ليكون لعمرَ أسوةً، ولا يشقَّ عليه ما جرى، وتطيبَ نفسُه، وأكد ذلك الخبرَ باليمين.
قوله: فَقُمْنَا الى بُطْحَانَ"؛ هو -بضم الباء الموحدة، وإسكان الطاء، وبالحاء المهملتين-؛ هكذا هو عند المحدثين، في رواياتهم، وفي ضبطهم، وتقييدهم.
(1) رواه البخاري (571)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (631)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا لفظ البخاري.
وقال أهل اللغة: هو -بفتح الباء، وكسر الطاء-، ولم يخبروا غير هذا؛ وكذا نقله صاحب "البارع"، وأبو عبيد البكري؛ وهو واد بالمدينة (1).
وقوله: "فَتَوَضَّأ للصَّلَاةِ، وَتَوضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعدَمَا غَرَبَتِ الشمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغرِبَ"؛ هذا ظاهر أنه صلاهما في جماعة؛ فيكون فيه دليل: بجواز صلاة الفريضة الفائتة جماعة؛ وبه قال العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض، عن الليث بن سعد: أنه منع ذلك؛ وهو مردود بهذا، وبأنه صلى الله عليه وسلم:"صلى الصبح في جماعة، حين ناموا عنها"، رواه مسلم في "صحيحه"(2).
وقد ذكر أصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: أن من فاتته الجمعة لعذر، وغيره؛ أنه يصلِّي الظهر، لكنه هل يصلِّيها في جماعة؟ الأصحُّ: أنه تُشرع في جماعة، لكنْ لا تكون مشتهرة؛ لما يلزم من شهرتها سوء الظن بالإمام.
ولأصحابنا وجهٌ: أنها لا تُشرع في جماعة، بل تصلَّى فرادى.
وفي الحديث فوائد:
منها: جواز سبِّ المشركين؛ لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، من غير إنكار؛ وهو سبٌّ مطلق من غير تعيين، فينبغي أن يُحمل على ما ليس بفحش.
وفيه: تقديم الفائتة على المؤدَّاة؛ لقول عمر رضي الله عنه: "ما كدت أصلي العصر"؛ لأن (كاد) إذا دخل عليه النفي؛ اِقتضى وقوع الفعل، في الأكثر؛ كما في قوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وصلاته صلى الله عليه وسلم العصرَ قبلَ المغرب؛ تدل على ذلك -أيضًا-.
ومذهب مالك: وجوبُه في القليل من الفوائت؛ وهي ما دون الخمس، وفي الخمس خلاف.
(1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 446)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 115)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 135)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 414)، (مادة: بطح). وعبارة صاحب "المشارق": وكذا قيده القالي في "البارع"، وأبو حاتم البكري في "المعجم".
(2)
تقدم تخريجه.
ومستحب عند الشافعي مطلقًا.
فإذا ضُمَّ إلى هذا الحديث الدليلُ على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق، لم يكن في هذا الحديث دليلٌ على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت، وسيأتي إيضاحه.
وفيه دليل على: جواز القسم، من غير استحلاف، واستحبابه إذا كان فيه مصلحة؛ من توكيد أمر، أو زيادة طمأنينة، أو نفي توهُّم نسيان، أو إشفاق، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة؛ لأن القسم توكيدٌ للمقسَم عليه.
وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسَم عليه؛ حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه؛ وهو يقتضي تعظيم الترك، وهو مقتضى الاشتفاق منه، أو ما يقارب معناه.
وقد كثر القسم في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا القسمُ من الله تعالى، في الكتاب العزيز، لكن حكمنا في المقسم به، مخالف له سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى له أن يحلف بعظيم مخلوقاته؛ تنبيهًا على عظمها عنده، وتشريفها؛ كقوله سبحانه وتعالى:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ، {وَالطُّورِ} ، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، {وَالضُّحَى} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ، {وَالْعَصْرِ} ، ونظائرها؛ فكل هذا لما ذكرناه، ولتفخيم المقسم عليه، وتوكيده.
وأما حكمنا: فلا يجوز لنا أن نحلف إلا بالله تعالى، أو باسم من أسمائه تبارك وتعالى لا يشاركه فيه غيره، أو بصفة من صفاته؛ وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ كانَ حالِفًا؛ فلا يحلفْ إلا بِالله"(1)، وفي رواية:"فَلْيَحْلِفْ بالله، أَوْ لِيَسْكُتْ"(2)، وورد
(1) رواه البخاري (6966)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ومسلم (1646)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (2533)، كتاب: الشهادات، باب: كيف يستحلف، ومسلم (1646)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وأبو داود (3249)، كتاب: الأيمان =
في حديث عنه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله، فَقَدْ أَشْرَكَ"(1).
وفيه دليل على: عدمِ كراهةِ قول القائل: ما صَلَّينا؛ خلاف ما تَوهمه قوم من كراهته.
وقد تمسَّك بهذا الحديث، وبحديث:"شَغَلُونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى"(2) بعضُ المتقدمين؛ في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن.
والفقهاء كلُّهم على خلافه؛ وإقامةِ الصلاةِ في حالة الخوف، وأجابوا عن هذين الحديثين: بأنهما كانا في غزوة الخندق، وصلاةُ الخوف شُرعت، في غزوة ذاتِ الرقاع؛ وهي بعدَ ذلك، وتقدَّم ذكر ذلك.
ومن الناس من سلك في الجواب طريقًا آخر، وهو أن الشغل أوجب نسيان الصلاة؛ فتركها للنسيان، قال: وهو ظاهر فيه، وليس كذلك؛ بل الظاهر: تعليقُ الحكم بالشغل المذكور لفظًا.
وقد تقدَّم الكلام على: وجوب الترتيب في الفوائت، في حديث: الصلاة الوسطى، والاختلاف فيه؛ ولا شكَّ أن الفعل بمجرده لا يدل على وجوب الترتيب في قضائها؛ على المختار عند الأصولين.
وإن ضم إليه الدليل على تضييق وقت المغرب؛ كان فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة، عند ضيق الوقت؛ لأنه لو لم يجب، لم يخرج الصلاة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب؟!
فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب؛ تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر؛ في امتداد وقت المغرب، والله أعلم.
= والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، وهذا لفظ أبي داود، ولفظهما:"أو ليصمت"، كلهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1)
رواه أبو داود (3251)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والترمذي (1535)، كتاب: النذور والأيمان، باب: في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 69)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
تقدم تخريجه.